شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
من بكيت بسببهم، لولا الكلمات لما تذكرت أسماءهم

من بكيت بسببهم، لولا الكلمات لما تذكرت أسماءهم

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والتنوّع

الجمعة 5 يناير 202411:05 ص

يجرد الآخرون دفاتر العام، بمعاييرهم الخاصة يجيبون على سؤال: ماذا حققنا فيه؟ البعض سدّد ديونه، البعض أنهى مرحلة وسيبدأ أخرى، البعض نجا من العام حياً، ومن يملكون نعمة الحُلم، يستعدون لتحقيق ما آن أوانه في سنة جديدة.

أنا مثلهم، أجرد دفاتري، بضغطة زر أعرف أني نشرت 25 مقالاً، وضغطة أخرى أعرف كم دوّنت من حياتي في اليوميات، وإلى أين وصلت في رواية جديدة أعكف على كتابتها، وهكذا تأتي الإجابات مختصرة على سؤال ماذا حققت، أجدني أقول "كتبت"، وماذا تنتوي فعله في العام الجديد، أقول "سأكتب"، وفي هذا الحرف الزائد تلخّصت حياتي كلها وصار  عُمري لا يحسب بالسنين، بل بما تركت من كلمات يُخبرني بعددها دوماً "فايل الوورد".

لمدة خمس سنوات حتى الآن، ولحسن الحظ أو سوئه، لم تتغير الإجابة التي أضحت معها حياتي مجموعة من الكلمات، أعود إليها كلما أردت معرفة هل عشت حقاً، وكيف؟ ففي المقالات، الجزء الأكثر شيوعاً، أعرف أني حضرت حفلة لكاظم الساهر، كتبت حينها عن لقائي بمطربي الأثير، وأتذكر أني دخلت مخيم لاجئين فلسطينين في قلب بيروت لأني كتبت عن التجربة، كما أدرك أني انتقلت إلى بيت جديد مستقلّ لأول مرة بعد قراءة نصي عن هذا الحدث، وفي نصّ تالِ أجبت على سؤال: "ماذا فعلت في حياتك"، لم تكن الإجابة سوى محاولة لانتشال نفسي من حالة إحباط وشعور بالفشل أمرّ بها يومياً دون نجاة أو سقوط.

تأتي الإجابات مختصرة على سؤال ماذا حققت، أجدني أقول  "كتبت"، وماذا تنتوي فعله في العام الجديد، أقول "سأكتب"

بالطبع هناك حقائق أخرى غير إثبات أني حي، مثل كيف تطوّرت أفكاري، والمدة التي استغرقتها لتتحول يدي المرتعشة في أول مقال إلى يد ثابتة وهي تروي كواليس زيارة صديقتي إلى بيتي لأول مرة، أعرف ما كان يغضبني منذ سنوات، ما استفزني في قرار ما فرددت عليه، وأؤمن أن هناك صفات، مهما اكتسبت من خبرات، ستظل قابعة داخلي، كنفوري من كل من لا يتمتع بذوق إنساني يدفعه لقول كلمة شكراً، على سبيل المثال.

وإذا كانت المقالات قادرة على توضيح أفكاري العامة لي، فاليوميات التي داومت على كتابتها لعشر سنوات حتى الآن، والتي هي الجزء الأكثر سرية في الحكاية، تمثل بحق مرآة أرى من خلالها حياتي، فبالكلمات فقط أتذكر طعم أول قُبلة مع فتاة لم تخجل من فعل ذلك علناً، وأعرف أي ساعة اشتريت فيها كتاباً بحثت عنه طويلاً، شعوري لحظة إقلاع الطائرة بي لأول مرة، ولحظات الخوف الشديد والقلق الشديد والسعادة الغامرة، كما أعرف أيضاً أي حُلم أردت تحقيقه، وهل تحقق بعد كل تلك السنوات أم لا، أكتشف كل مرة أقرأ فيها اليوميات أنني أحلم كثيراً وأحقق قليلاً.

وبالكلمات أيضاً، أرى جميع من عبرن قلبي، تلك التي منحتها حبي فقست علي، تلك التي تركت لها جسدي تعبث فيه كما تشاء، وأخرى فارقتها لأنها لن تطيق معي صبراً. كما أشاهد الأصدقاء، من رحل بعد عشرة تخطت عشر سنوات، ومن بقى منهم متحدياً يوم الـ31 ديسمبر، معلناً عن استمراره معي طيلة تلك السنوات، واحد فقط من تنطبق عليه تلك الحالة بالمناسبة.

تُخبرني اليوميات أيضاً، أني ذات يوم وقفت في ميدان التحرير وهتفت بسقوط رئيس، وبتفكيري في الانضمام إلى أحد الأحزاب السياسية، وبأني صعدت على دبابات الجيش احتفالاً بالنصر، وبأني طالبت بسقوط رئيس آخر، وكيف شممت الغاز المسيل للدموع على مدار ثلاث سنوات، لم أترك فيهم مظاهرة إلا وكنت حاضراً لأنقل وقائعها، وأي لحظة أصبت باليأس ورفعت شعار بوكوفسكي: "غيّروا أنتم العالم وأنا سأكتب كيف غيّرتموه"، كما تخبرني عن تلك اللحظات السعيدة، مثل حفل توقيع أول رواية لي، أول لقاء تلفزيوني، أول مرة التقيت فيها بأحمد عدوية وسمعت منه مباشرة "ما بلاش اللون ده معانا"، وأول قشعريرة سرت في جسدي حين جلست أمام علي الحجار يشدو "ليلاتي في المعاد ده ينعاد عمري اللي عدى". أعترف أن لولا تلك الأحرف لما شعرت أن في حياتي أحداثاً كتلك، بل حتى من بكيت بسببهم، لولا الكلمات لما تذكرت أسماءهم.

تخبرني اليوميات أني ذات يوم وقفت في ميدان التحرير وهتفت بسقوط رئيس، وبأني صعدت على دبابات الجيش احتفالاً بالنصر، وبأني طالبت بسقوط رئيس آخر، وكيف شممت الغاز المسيل للدموع على مدار ثلاث سنوات

هذا لا يعني أن حياتي كلها ليس فيها إلا كلمات رغم أن تلك مهنتي، بالعكس، فحياتي كالجميع، فيها من الخيبات والأحزان ما يكفي ومن الأفراح أيضاً، وفيها مسؤوليات لا مناص منها، ومديرو عمل لا أطيقهم، ومواعيد نهائية تدفعني للركض دوماً، كما فيها قرف من غلاء الأسعار وانقطاع الكهرباء واختفاء بعض أنواع السجائر، لكن ما أقصده أنني حتى وأنا أعيش كل ذلك، أنظر إليه من خلال الكلمات، فكل حزن  هو نصّ محتمل، وكل تجربة تعني كلمات جديدة، وكل ألم أعيشه يصلح لإضافة فصل جديد في اليوميات.

وأخيراً، في فيلم "وان فاين داي"، يقول جورج كلوني للبطلة ميشيل فايفر التي وقع في حبها، والتي ظنّته يتباهي كونه كاتباً، فلا يمر موقف إلا ويشير إلى إنه كتب عنه :" لم أتباه بمقالاتي أمامكِ... أنتِ أجمل من رأت عيني وفقط أردت ترك انطباع جيد عني"، هذا ما أردت قوله لامرأة ظنتني أتخايل أيضاً، لكني وددت إضافة أن حياتي ليست أكثر من مجموعة كلمات، فالشيء الذي لم أكتبه يعني إنه لم يحدث. 


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

بالوصول إلى الذين لا يتفقون/ ن معنا، تكمن قوّتنا الفعليّة

مبدأ التحرر من الأفكار التقليدية، يرتكز على إشراك الجميع في عملية صنع التغيير. وما من طريقةٍ أفضل لنشر هذه القيم غير أن نُظهر للناس كيف بإمكان الاحترام والتسامح والحرية والانفتاح، تحسين حياتهم/ نّ.

من هنا ينبثق رصيف22، من منبع المهمّات الصعبة وعدم المساومة على قيمنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image