قفزات لا تنتهي
شيء صغير بداخلي يهرول باتجاهه، يسبقني إلى الحب. أمل مجنون ربما، لكني على عكسه تماماً، أتمهل في سيري. نجحت في رسم تلك الصورة عني: امرأة لا تبالي، أما هو فلا ينتظرني. يصل إلى حافة الحب سريعاً ويقفز على الفور، يحمله الهواء لبضعة ثوان، ثم تبدأ رحلة سقوطه وسقوطي معه.
أراه يتهاوى ببطء حتى يرتطم، فأقولها لنفسي كالعادة: انتهى أمره أخيراً، لكنه في كل مرة كان يعود إليّ. تخبئه العفرة، تحيطه الجروح، يجر خيباته خلفه، ويصبح في النهاية خيبة أمل، وهكذا أحمله بداخلي ثانية ونكمل طريقنا.
أنا بخطوات هادئة وهو يكمن بالداخل، متلهفاً للمرة القادمة، وحينما يرى أحدهم، يهمس في أذني متحمساً: "قفزة واحدة، واحدة أرجوك. قفزة أخيرة فقط".
قبلة طويلة
أذكر أننا كنا خائفين، هرولنا إلى الشرفة واختبأنا خلف الشيش نراقبه عن كثب. كان عمها يدور في الغرفة من ركن إلى ركن، يبحث عن شيء ما، ربما عنا، وحينها اقتربت يدانا ببطء وتلامست، رفعت يدي بسرعة وكتمت أنفاسي. عمها من نوعية الرجال التي لا تتناقش، وإذا أمسك بنا، ستكون النهاية.
ارتعش جسدانا من الفكرة، وتسارعت دقات القلب، ثم أخذنا نقترب أكثر وأكثر. تلاقت عيوننا بنظرة طويلة لا تنسى، وفي غمرة الخوف، سرقنا قبلة... مجاز
ارتعش جسدانا من الفكرة، وتسارعت دقات القلب، ثم أخذنا نقترب أكثر وأكثر. تلاقت عيوننا بنظرة طويلة لا تنسى، وفي غمرة الخوف، سرقنا قبلة. لمدة ثواني، ثم دقائق، ثم نسينا الوقت. طالت قبلتنا الأولى، وهدأت أنفاسنا. وهكذا عشنا حياتنا، كلما غضبتُ، اختبأت، هربت، أو كلما حزنت، انطفأت لمعة عينيها، اختفت ابتسامتها.
كنا دوماً نبحث عن بعضنا البعض، نمحو الحواجز، ونغرق في قبلة تلو الأخرى. لطالما حاربنا الخوف، اليأس، الحزن، الوحدة، الضجر، سوياً، كأننا عشنا ثلاثين عاماً نختبئ خلف قبلة طويلة، فلم يمسك بنا عمها أبداً.
أبواب متعددة
أهرول دوماً.
لم أعطِ لنفسي لحظة لالتقاط أنفاسي. أطرق على باب ثم أدفع الآخر، وإذا عصلج، أكسره بحيلي الخاصة. باب خلف باب خلف باب، هكذا هي حياتي. أخبروني أن الانتظار قاتل، فدفعت نفسي إلى ماراثون لا ينتهي
أولهم أخبرني أنني جميلة، مثيرة، مرحة، ثم مللت حديثه! بدأت كلماته تتبعثر حولي محدثة ضجيجاً لا يحتمل، فخرجت من بابه مسرعة، والثاني كان يجري أمامي، لحقت به فجذب ذراعي وخرجنا من السباق كله، ظننت أنها البداية، وقد كانت بالفعل.
لقد خلق سباقه الخاص، لم يكف عن الثرثرة واللهو، حتى في رقصتنا الوحيدة، حملني ودار بي في دوائر لا تنتهي، تعالت أصوات الموسيقى وتداخلت أنغامها. لم أعد أسمع صوتي، لم أعد أشعر بوجودي.
كان يجري ويجري دون أن يلهث! وأنا على عكسه. تلاحقت أنفاسي وكان لابد أن أتوقف، فجذبت يدي وتحررت منه أخيراً. جلست على الرصيف منهكة، فأخبرني: "غريب أمرك! تلك عادتي، أجذب يد إحداهن ونهرول قليلاً، وقت لطيف لا أكثر. ألم تعجبك اللعبة!؟"
لم أرد، لكني صفعت الباب خلفي آمله أن تصله إجابتي، ثم قرعت باباً آخر، لكني لم أجد أحداً خلفه.
كل ما هنالك مجرد شبح. شبح رجل يظهر ويختفي كما يحلو له. يردّد كلمة "أحبك"، ثم يبتعد عني مسافة طويلة جداً، وحينما التفت راحلة، يقترب سريعاً ويتوسل أن أبقى. يبكي ويحضنني ثم يردّدها: "أحبك"، ثم يختفي على الفور.
أتلفت حولي، أكاد أجن. هل كان هنا أم أنني أتوهم؟ أبحث في كل مكان، وحينما أقرّر الرحيل يظهر ثانية. يهمس في أذني قائلاً: "اعترفي بأنك تحبين طريقتي. هذا سرّك، لا تهربي منه!". لكني هربت.
تخلصت من ذلك الباب دون أن أواجهه، ومن بعدها وقفت حائرة. تواجهني أبواب متعددة، وأنا أدور في سؤال واحد منذ مولدي: "أي منهم سيجلب لي الحب المنتظر؟".
عقلي يخبرني: لا تدقي! لا تفعليها أرجوك! اعطني فرصة لبحث الأمر. لكن قلبي لا يهدأ. يهفو لمغامرة جديدة. يدفعني دفعاً إلى أحد الأبواب. أتنهد وقبل أن أفعلها، أنتهز الفرصة وأعترف بسري لنفسي: نعم أنا أدق الأبواب، وبداخلي ليست هناك أي نية للبقاء.
أدق دقة تلو الأخرى ثم أنتظر.
بر وحيد
تريدني أن أخبرك أمراً عن الحب؟ إذن استمع لي: أنا أمكث على البر الآخر. بر لا يراه أحد. قضيت حياتي كلها وأنا ألعب لعبة غير متكافئة. أمسك بطرف واحد، أما الطرف الثاني فمرخي رغماً عني.
أذكر أن إحداهن قالتها لي ذات مرة: أنت رجل ذو "حساسية عالية" ولهذا كلهن يهربن منك، وتلك الصفة "حساسية عالية" رددها الجميع من حولي، أبي وعمي وخالي وكل رجال العائلة، بل والشارع والمدينة والأرض. كل ركن كان يصرخ بها، حتى كبرتْ وتضخّمتْ وابتلعتني داخلها.
كل ما هنالك أن مشاعري عالية، تكمن في أعلى نقطة في الفضاء، ولا يراها أحد غيري، ولهذا قرّرت أن أريحهم. توقفت عن اللعب تماماً.
أتعرف ذلك التمثال الذي يتوسّط الميدان، بجسد مفتول ووجه مسطح؟ ذلك هو أنا. انتفخ جسدي محتفظاً بكل مشاعري التي كتمتها داخلي، وملامح وجهي منطفئة، متجمدة ربما.
هكذا صرت رجلاً بعضلات مفتولة يعجب الجميع، ولكن حساسيتي انخفضت جداً، جداً، جداً. ورغم ذلك، ما زلت ألعب لعبتي في الخفاء. أمسك بطرف واحد، ثم أتركه وأرفع رأسي إلى نقطتي في الفضاء، وأتساءل: كيف يمكن للمرء أن يحيا دون حب؟
حقاً كيف؟
عقارب الساعة لا تتوقف
بالضبط، تلك هي المشكلة. لو رحمتني قليلا وتوقفت، لربما أجده، كل ما هنالك أنني أملك راديو قديماً أضعه فوق المنضدة وأسبح في خيال لا ينتهي.
تردّد الست: "يا سلام على الحب وتنهيدته في وصال وفراق، وشموع الشوق لما يقيدوا ليل المشتاق". يا سلام، ذلك الشعور، أهيم به. أشرد تماماً. أغمض عيني ولكنها لحظات وبعدها تدق الساعة، ويدق عقلي معها بأسئلته. متى وكيف؟
الكل يخبرني بأنني تأخرت. يصرخون قائلين: "انظري إلى عقارب الساعة! تسرق زمنك وتطفئ روحك. وقريباً جداً ستمحيك من الوجود!"، ولكن لا يمكنني، هكذا ببساطة، ليس بإمكاني التخلي عن خيالي حتى وإن كان مجرد خيال، ولهذا لدي أمور عديدة لأخبرك إياها.
مثلاً، تلك المنضدة بكرسيها الوحيد في ركن المطعم، هم أنا بالضبط. أجلس في زاوية وأراقب الجميع، يتحركون دوماً، ينتقلون من حبيب إلى آخر، تتلامس أيديهم ويرقصون سوياً، حتى في الوداع يغرقون في عناق طويل لم أحظ به.
هكذا أشاهد الحياة، طوال الوقت أنتظر، وكاد الوقت يقتلني. فتعاودني صرخاتهم وتخترق أذني: " اقبلي بأي فرصة، هذا أو ذاك. كل ما تملكينه هو الواقع. ارمي بهذا الراديو بعيداً".
وإذا رميته ماذا سيتبقى لي؟
تخبرني إحداهن: "فرصة كبيرة مبهرة! لا تفوتيها أبداً"، فأهز رأسي: "نعم. زواج تعس"، فيتحداني أحدهم قائلاً: "ذلك الراديو الذي تختبئين خلفه ليس وردياً دوماً. هل نسيت كلماته حينما غنى ضيعت أيامي بين شوقي وهيامي، وأنام بأوهامى وأصحى على ناري؟ أفيقي قبل أن تحترقي".
حقاً، لربما هي أوهام وكلهم على حق، حتى صوت الراديو أطاعهم. انخفض وتشوش إرساله. ارتبكت كلماته واختفت. أغمضت عيني هرباً من واقع مؤلم، وخيال بعيد جداً عني، فينقذني صوت الراديو ويرتفع سريعاً: "فين قلبي يا ناس؟! دلوني عليه. تاه مني خلاص. وأزاي ألاقيه".
على الأقل أنا هنا، ما زلت أبحث بين الوجوه والأطياف، ويوماً ما سنتلاقى، وحينها سنغني: "طايرين على جناح الهوا، أنت الحبيب والروح أنا".
صدفة
أتدري أمراً؟ الجنون أحياناً أفضل من العقل. في الجنون مثلاً بضعة من أمل، يحمل بين طياته الكثير من ربما: ربما سنتلاقى ثانية، ربما ستتذكرني، ربما شعرت بما شعرتُ به، ربما غرقت في أحلام وتمن، ربما أحبتني، ربما. أنا لست مجنوناً لكن الجميع غاضب في وجهي. يجذبني صديقي ويقولها: ألن تكف عن أوهامك؟ والنادل في المطعم يهمس في أذني: "أرض الله واسعة، ابحث عن غيرها!"، حتى بائع الفاكهة بجانب الكورنيش لم يرحمني هو الآخر، ضرب كفاً بكف وأخذ يردّد قصتي على مسامع الجميع: "شاب في مقتبل العمر، التقى مع صدفة يوماً ما، ومن بعدها صار مجذوباً".
أتدري أمراً؟ الجنون أحياناً أفضل من العقل. في الجنون مثلاً بضعة من أمل، يحمل بين طياته الكثير من ربما... مجاز
هذا هو أنا. في كل ذكرى للقائنا أذهب إلى الكورنيش، أستند على سور النيل وأتابع أمواجه، أشرد معه وأتخيلها. تربت على كتفي، تتلامس أيدينا، وقبل أن تنطق، أضمها إلى صدري ونغرق في عناق طويل.
"حلم جميل، يليق بحالم مثلك": يقولها صديقي وهو يجذبني من الحلم عنوة، ثم يصرخ ثانية: "إلام تنتظر؟ كانت مجرد صدفة. أفق من أوهامك"، ثم يدفعني ويرمي بي في غرفة الطبيب النفسي، الذي يريح ظهره على الكرسي و يقولها بهدوء: "هذا ليس حباً".
"لكني شعرت به، لن أنكر مشاعري أبداً"
"لا. لا. تلك المشاعر تدعى في الطب النفسي تعلق"
"بماذا"
"وهم أو ربما احتياج"
"وإذا لم يكن. فرضاً لو كانت مشاعري حقيقية، واتبعت طريقكم، هذا يعني أنني سأخسر حب حياتي، ستضيع فرصتي للأبد"
"أتجادل ثانية وتقولها؟ أي حب هذا؟ أخبرني شيئاً عنه. أنت لا تعرفها من الأساس"
"لكنني أعرفها": انفجرت بوجهه، ثم أقدمت على أكثر الأفعال جنوناً: فتحت قلبي. اندهش الطبيب وطأطأ رأسه، لقد وجدها قابعه بداخله، وحينها أخبرته: " أتريد أمراً واحداً عن الحب؟ إذن اسمعني جيداً: ليست هناك أي صدف في هذا العالم، كل شيء محسوب بدقة، موعد اللقاء وموعد الرحيل، وهنا، في قلبي، .شيء لم يخلق صدفة ما زال يدق ويأمل وينتظر".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Mohammed Liswi -
منذ يومأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.
Eslam Abuelgasim (اسلام ابوالقاسم) -
منذ يومحمدالله على السلامة يا أستاذة
سلامة قلبك ❤️ و سلامة معدتك
و سلامك الداخلي ??
مستخدم مجهول -
منذ 3 أياممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ 4 أيامفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ 4 أيامعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ 5 أيامtester.whitebeard@gmail.com