لا يتفق البشر في لحظة الاحتفال برأس السنة، فكما درسنا جميعًا في المدرسة: "الأرض كروية تلف حول نفسها… واللهم لا اعتراض" فيتعاقب الليل والنهار، لكن قواعد الجغرافيا والفيزياء تفرض ألا يتفق سكان الأرض في اختبار ذات اللحظات لا في الليل ولا النهار.
وكما لا نتفق في لحظة الاحتفال فنحن لا نتفق أيضًا في أمزجتنا ولا طرقنا في الاحتفال؛ ولا حتى في ميلنا للاحتفال أو في اعتبارها ليلة ككل ليلة أخرى في منطقتنا التي غالبًا ما تتشابه فيها الليالي.
الليلة؛ بعضنا سيقضي رأس السنة يتابع شاشة هاتفه وتوالي أخبار القصف والوحشية والمقتلة الجماعية المستمرة على بعد كيلومترات قليلة في غزة، البعض الآخر سيعطي نفسه إجازة قصيرة ليقضيها راقصاً مستمتعاً بدفء صحبة شريكه أو شريكته، بعضنا سيستدفئ بصحبة الأصدقاء أو العائلة؛ يتشرب لحظاته معهم ويختزنها ذخيرة لأيام قادمة أكثر وحدة وبرودة. وبعض ثالث ستلتقي عيناه بآخر ويتمناه شريكًا؛ وآخرون هم صناع تلك الليلة يعرفون مقاديرها، يخلطونها بحنان: قدر من الطعام وبعض من الذكريات وكثير من العطاء.
كل من شارك في هذه النصوص التي تقرأها/ تقراينها الآن سيقضى ليلته على واحدة من تلك الأحوال، لا نعرف كيف ستقضيها أنتَِ، ونتمنى لكَِ أن تكون ليلة دافئة وهادئة أو صاخبة على النحو الذي ترتضيه. أما نحن؛ فهذه ليالينا…
كل من شارك في هذه النصوص التي تقرأها/ تقراينها الآن سيقضى ليلته على واحدة من تلك الأحوال، لا نعرف كيف ستقضيها أنتَِ، ونتمنى لكَِ أن تكون ليلة دافئة وهادئة أو صاخبة على النحو الذي ترتضيه. أما نحن؛ فهذه ليالينا…
مقادير رأس كل سنة
أولاً : مفاهيم مؤسسة : الفوضى والنظام، الفراغ والزحام، صحبة السوء واتفاق مبادئ.
سنلعب هنا مع المتضادات، نرتب أدوارهم تارة، ونفضل أحدهم على الآخر تارةً أخرى. سيكون للفوضى والزحمة الأفضلية على التوضيب والفراغات. سنستعين بمبدأ ميكافيلي الأشهر: الغاية تبرر الوسيلة… وسنتخلى عن مبادئنا في تنسيق الألوان وترتيب الصحون وتنظيم الفقرات. سنتخلى عن الوقار، ويفضل الضحك بدون مبرر وابتكار القفشات الخفيفة. نتنازل عن الترفع في أذواقنا الموسيقية و نعتمد التنوع.
ثانياً: الديكور.
شرائط براقة، أضواء ملونة و بالون تائهة… الكثير من البالونات. لايهم حجمها أو نوعيتها بقدر ما يهم أن تكون كثيفة ملونة وبراقة، تجذب أنظار الصغار وتثير خيالهم. ذات سنة وأنا بعد في سوريا، أرسلت لنا خالتي المهاجرة كمية كبيرة من زينة شجرة الميلاد. أتذكر منها عصافير ببودرة براقة ملونة و شجرة صغيرة مخملية حمراء مزينة بقطع من المرايا المربعة. كنت ولازلت أتأمل لساعات زينة شجرة الميلاد. أما الشرائط الملونة فأتذكر أنه مرة امتلأت صالة بيت جدي بالزينة حتى عَسُر علينا رؤية السقف، وكانت الشرائط تمتد من أطراف الحوائط حتى منتصف الصالة حيث ثُبتت إلى مروحة السقف، ولكم أن تتخيلوا ماذا فعل ابن خالتي الصغير. نعم، أدار زر تشغيل المروحة…
الطاولة في منتصف الصالة. مهما سمعتما عزيزي وعزيزتي من اعتراضات حول هذا الأمر… لا ترضخوا للمساومات. من ناحية ستكون الطاولة بما عليها مركز المشهد في بدء الحفل، فتملأ فراغ اللحظات الأولى. ومن ناحية أخرى ستزحم المكان فنضطر فيما بعد لإزاحتها فتتولد ساحة جديدة في الصالة، ساحة جذابة للرقص والتنطيط. في بيتنا الصغير من بنايات المساكن الشعبية، كنا نسحب طاولة الفورميكا المطوية نحو منتصف الصالون الصغير، نفتحها ونتركها تزحم البيت طوال يوم أو يومين، كطقس احتفالي خاص. أما في بيت جدي الواسع الكبير فكان علينا توظيب ثلاث طاولات على الأقل، والاضطرار للاستعانة بالطاولة الخشب الكبيرة من غرفة الطعام نحو الصالون الكبير وتحقيق الإزدحام المطلوب.
املأ الطاولة بما يلي:
أ – مازة: هنا حلويات موسمية تراثية ساعدت آباءنا على قهر برد الشتاء وكآبته. كان أبي، مهما بلغت أموره المالية من سوء، يحرص على شراء مازة ليلة رأس السنة. أتذكره ذات يوم وصل وقد كادت الساعة تقارب العاشرة مساء، فتحت له الباب فمد لي ذراعيه المحملتين بأكياس منتفخة، سارعت بسحبها وأخوتي نحو المطبخ فيما بدأ هو بفرك يديه الجميلتين وقد شقت الأكياس الثقيلة خطوطاً في باطنها. كانت لفائف الحلاوة السمسمية البيضاء كالثلج تتوسط الطاولة بين طبق التين المجفف والزبيب وأطباق التشكلية: خلطة جوز ولوز وفستق ولب أبيض، والقضامة السكرية بألوانها الزاهية: حمّص محمص ومغطى بطبقة من السكر الملون.
. ب – فواكه وخضار: فهي اختيار صحي تماماً لكنها أيضاً تساعد على سد الثغرات في الطاولة. في الثمانينيات كان الموز ملك الطاولة، يوصي عليه أثرياء مدينتنا المسافرين العائدين من العاصمة.
في كل مرة يسألني أحد الأصدقاء رأيي في شيء ما أتعجل بالإجابة: لقد سألت الشخص الخطأ فأنا لا أهتم بماركات السيارات ولا حتى أواني الطبخ، لا أفهم في العلاقات ولا في استثمار الأموال، لا أتابع ما هو رائج سواء في كريمات الترطيب أو ترخيصات كوسكو. لكني اليوم سأضع قبعة الخبير وأعطي نصائح لإنجاح أهم احتفال في السنة: سهرة رأس السنة.
لا أبالغ إن قلت أني -مقارنة بأقراني - كان لي الحظ بحضور سهريات رأس سنة لا تنسى، ولا أعتقد أنه سيكون لي أن أعيش مثيلاتها فكانت، في سنوات طفولتي وشبابي كالشهب المضيئة في سماء داكنة باردة.
لقد اعتبر أهلي دوماً ليلة رأس السنة هي العيد السنوي الرئيسي، يليه في الاهتمام عيد الميلاد ثم شهر العذراء مريم ثم عيد القيامة، المنطق الإيماني المسيحي غائب عن هذا الترتيب، لكن لا يهم كما لا تهم تراتبية النجوم وتراجع الكواكب في منازلها واختلاط المفاهيم.
كان جيل أمي وأبي هو جيل الخروج من التقاليد القديمة والهروب من ذكريات المذابح الطائفية والاضطرابات السياسية والنزوح القسري نحو أحلام المواطنة الحديثة، كان جيلاً مميزاً شارك في العمل السياسي وانخرط في الوظائف الحكومية واستفاد من مشاريع الإسكان الشعبي. تابع إصدارات الروايات الشهيرة، عايش قصص نجوم المجتمع والفن وشاهدهم في النوادي الترفيهية والمسارح أو السينما والتلفزيون. استحضر خلطة شخصيتهما الخاصة في رأسي لتعينني على استعادة الوصفة السحرية للحظات البراقة لبتك الليالي البعيدة، بينما أعد خلطتي الناجحة لرأس السنة كل سنة…
"ورقة وقلم واكتبي ورايا يا ست الكل"
أولاً : مفاهيم مؤسسة : الفوضى والنظام، الفراغ والزحام، صحبة السوء واتفاق مبادئ.
سنلعب هنا مع المضادات نرتب أدوارهم تارة ونفضل أحدهم على الأخر تارةً أخرى. سيكون للفوضى والزحمة الأفضلية على التوضيب والفراغات….. إلخ
فاصلة بين عامين
الوقت مخادع كبير، أو ربما نحن من نضيع في عالمه بدون أن نشعر. وفي القاهرة، كل الأمور تسير بسرعة، كل التغيرات تحدث فجأة، لا وقت للتمهيد، وعليك إن كنت تعيش هنا، أن تسيِّر عقلك وجسدك بسرعة المدينة وسكانها، وإلا فاتك قطار نركض هنا جميعاً للحاق به، من دون معرفة حقيقة بوجهته.
ليلة رأس سنة 2019، كنت في الثامنة والعشرين من عمري، محبطة بعد خروجي من تجربة عمل لم ترض طموحي، مرهقة في نهاية يوم عمل في مكان لا يتسق مع أحلامي، ويمكن اعتباره بيئة عمل مناسبة لمن يريد أخذ استراحة وهو ما لم يكن حالي وقتها. أجلس على طاولة أرتشف قهوة بالحليب (لاتيه) على بُعد ساعتين من نهاية اليوم الأخير في السنة، هاتفي لا يتوقف عن الطنين، مرة أهلي يستفسرون عن موعد عودتي إلى البيت، ومرات يطن برسائل من مديري يشرح أمراً لا أتذكره الآن، نكات ورسائل من أصدقائي يهنئونني بالعام الجديد، وسط زحام المقاهي المعتاد في القاهرة، مع رفقة اثنتين من صديقاتي المقربات. تقترح إحدانا أن نسرد ما مررنا به في عامنا الفائت، ومما نتمناه للعام الجديد.
لم يكن 2019 سيئاً بالكامل، ولم يكن جيداً أيضاً… فقط تمنيت من 2020 أن تكون أفضل.
لا داعي لذكر تفاصيل 2020 التي قضيناها مرضى بكوفيد-19 أو في منازلنا خوفاً منه، لكني ومن قتها صرت أدرك أكثر، شيئاً فشيئاً، خديعة الوقت، أو عالمه المركب في مدينة كمدينتي، فبينما تمر دقائقه بطيئة عليّ، كان العالم خارج جدران المنزل مستمراً، ظلت المقاهي تعمل رغم الحظر، ظل الأطفال يلعبون في الشوارع رغم ملاحقات الشرطة، لم يلتزم كثير من سكان المدينة بالحظر المفروض من الحكومة للسيطرة على تفشي الوباء طويلاً، فلقمة العيش تأتي في مقدمة الأولويات.
مررت بعام طويل، لكنه ظل خديعة كبرى، عام في المنزل، مهما أنجزت فيه فهو فترة تقضيها مع وقف التنفيذ، تحسبها قوانين الأحياء والرياضيات على عمرك، لكنها حقاً لم تعشها.
في تلك الليلة الفاصلة بين العامين، كنا 3 صحافيات، واليوم على بعد 4 أعوام منها، أقيم في مدينة مختلفة عن القاهرة، وتركت زميلتي الأولى الصحافة إلى مجال التنمية الثقافية، والأخرى صار تركيزها على التدريب، كنا نجلس معاً والآن كل منَّا تعيش في عالمها الخاص، حتى لقاءنا الثلاثي لم يتكرر حتى أكتوبر 2022.
لم توحِ تلك الليلة أنه وعلى بعد أسابيع منها، سنمر بتغييرات تقلب حيواتنا رأساً على عقب، وتضعنا في بلدان ومواقف ومهن جديدة. كانت مجرد جلسة حديث معتادة وقهوة، وكثير من الضحكات وسط صخب المجموعات المتزاحمة على المقاعد والطاولات حولنا. الدقائق التي مرت سريعاً هنا، لم تعطنا إشارات على تغيير إيقاعها بعد أسابيع قليلة.
اليوم، أعود مرة أخرى في زيارة إلى القاهرة، مازالت المدينة تحتفظ بإيقاعها السريع، مازال قطارها يسير بأقصى سرعة، لكن عقلي، بعد 4 سنوات تضمنت وباءً استمر لعامين ومن ثم هجرة، صار له إيقاعه الخاص، كأنني أترجل عن القطار، وأشاهده يسري وعشرات الأفراد يحاولون اللحاق به من كل حدب وصوب.
لا أتذكر أياماً مفصلية كثيرة في حياتي، ربما لأنها نادراً ما تحدث لي/ لك؛ لكن ذلك اليوم، ليلة رأس سنة 2020، حتماً كان يوماً يفصل بين أيام ركضي، وأيام أخرى أشعر فيها أني شخص يتوق للسباق.
ليلة وليلة وليال…https://twitter.com/HagerHMustafa
الليلة الأولى
أجلس إلى مائدة العشاء محاطة بثلاثة وجوه.
أكاد لا أشعر بوجهي، وجودي كله خفيف جدا، ذابت عظامي ولحمي بفعل الحب والخمر فتحولت إلى سحابة هشة بلا أطراف، لا أتذكر أي شيء عن الطعام في تلك الليلة، فما حاجتي إلى الطعام أنا الممتلئة بفيض من المشاعر اختبرها جميعاً للمرة الأولى.
فقبل ذلك لم تكن رؤوس السنوات السابقة تكترث لأمري، أمر من عام إلى آخر بالمشاعر ذاتها: "الوحدة، الغربة، الانتظار". لم أتوقع ذلك التغيير المفاجئ الذي حدث قبل شهور فقط من نهاية العام، وأنني سأجلس في تلك الليلة جنباً إلى جنب مع "آخر" لا يمل من أن يكرر على مسمعيّ كلمات الحب، يراقصني خلسة حول المائدة في منتصف الليل ويهمس في أذني: "العام القادم، سنحتفل في بيتنا"... بيتنا؟! يطير رأسي فقط عند تخيُّل ذلك البيت وتلك الحياة الجديدة! ربما لم تتخلّ رأس السنة تلك عن أحد الهدايا المعتادة "الانتظار" ولكن تلك المرة بعكس كل المرات السابقة التي لم أكن أعرف فيها ماذا أنتظر، لدي حلم وشريك وحياة قادمة أتوق إليها.
الوجهان الجالسان قبالي، والداي، صخرتان يأكلهما القلق، يخفيان ذلك التآكل بالكثير من الحب والمباركة لنا وللوعد الكاذب الذي لم يعرف أيهما، ولم أعرف أنا كم كان كاذبًا.
الليلة الثانية
أجلس إلى مائدة العشاء محاطة بوجهين.
تفرقت الطرق بيني وبين الشريك المحتمل، وعادت إلى الوحدة والغربة كاملتان.
مضى عامان، لم أعد مجرد سحابة خفيفة، ثلاثتنا صرنا غيوم: أنا وأمي وأبي.
لا حاجة لنا بالصدام حتى تنفجر مننا الأمطار، دموعنا تغمر الطعام المعد بعناية، كل الأصناف التي يحبها والدي الذي يرفض تناول أي طعام يحبه منذ عدة أشهر، يعاقب السرطان بالإضراب عن كل شيء أحبه يوماً: التدخين، الطعام، المزاح.
تمنحني رأس السنة تلك هدية وحيدة: الانتظار… انتظار أسود اللون يعدَّني لموت قادم إلى بيتنا لا محالة.
احتضن أبي، عيناي ويداي وكل حواسي حاضرة لأتناوله في ذاكرتي عوضاً عن الطعام، خشية أن تضيع ذكرى تلك الليلة من رأسي… لا حاجة بي إلى الخمر، فلا شيء قادر على تخفيف قسوة الواقع، دموع أبي لا تتوقف وكذلك دموعي.
رحل والدي بعد تلك الليلة بعدة أشهر، ولم تتوقف الدموع.
الليلة الثالثة
وجه وحيد يطل من شباك غرفة الطعام، وجهي.
فضلت أمي النوم مبكراً، فتناولنا طعامنا قبل انتصاف الليل بعدة ساعات.
عامان آخران مضيا، ولم أنتظر أي هدايا في تلك الليلة، تبخر "الانتظار" أخيراً إذن.
فارقتني الوحدة أيضاً؛ فقد كنت حاضرة معي، أحتضن ذاتي وأحبها واعتني بها، أصغي إلى نفسي التي تذكرني بكل المعارك التي خرجت منها بجروح دامية وانتصارات كبيرة. شربت القليل من الخمر فتفتحت جميع حواسي، أرى الألعاب النارية تقفز من كل البيوت المحيطة فيعلو صوت ضحكاتي كأنني عمياء تبصر للمرة الأولى! أسجل تلك اللحظات بالصوت والصورة على هاتفي وتزورني ذكرى تلك الليلة في أحلامي حتى يومنا هذا. استمع إلى أغنياتي المفضلة وأغني معها بصوت عالِ، لا أشعر بأي غُربة، أشعر فقط أنني حية، حية إلى الأبد…
ليلة ميلاد
في الساعات الفاصلة بين عامي 2008 و2009، كنت أسير مع تلك الفتاة لساعات، حتى وصلنا إلى كوبري قصر النيل بحشوده المبتهجة بليلة رأس السنة والمتوترة في آن، كشأن العالقين في تلك البقعة من العالم، ممزقين بين ذاتين، واحدة تأمل في الفرح وأخرى يقوضها ذنب عميق وشك في جدارتها بذلك الفرح.
وإذ كنت أسير مع تلك التي ينسجم معها ذاتي وقلبي كأنه يسبح في تيار هادئ وناعم من الماء، كنت غافلاً كلية عن أن ما يولد الآن في تلك اللحظة، هو أكثر من صداقة. وأن تلك الساعات الفاصلة بين عامين، كانت ميلاداً حقيقياً. كان قلبي المُحطم يُجبر الآن مرة واحدة، وإلى الأبد دون إدراك مني، فمثل الحشود؛ كنت ممزقاً بين ذاتين، واحدة تطمع في الفرح، وأخرى تشكك في جدارتها به.
فبدأب وحماقة، كنت أعمل في الأيام التي سبقت تلك الليلة على تشويش ذلك الانسجام النادر بين قرينين، ربما لأن براءتها كانت تغيظني، فمشاعرها التي تتعامل معها بدون خجل تذكرني بشخص قررت قتله بالسخرية من كل شيء، لأن فيض مشاعره يخنقه ويهدده بالغرق، يرده طفلاً ساذجاً مرتبكاً لا يطيق الألم، ولا يفهم مبرراً لوجوده، وربما كانت طريقتي الأخيرة لحماية ذلك الطفل بنفيه، ولأتمكن من النضج، فأحمي نفسي منه.
كنت قد كففت عن تصديق تلك الأسطورة وعشرات الأساطير المماثلة، أن بليلة رأس السنة قد يتبدل العالم، إذ كنت أدور عقب ليالي رأس السنة في الدورة نفسها كل مرة، يطاردني الهواء القديم مهما تمسكت بطقس تحطيم ما فسد.
عاصرت في طفولتي ذلك الطقس وهو في طوره الأخير قبل أن يختفي من حياة المدينة ومن حياتي… كنا في الإسكندرية نلقي من النوافذ بأشياء زجاجية قديمة ليلة رأس السنة، كي نعتنق ذلك الأمل أن تلك الدقيقة أو ربما اللحظة الفاصلة بين عامين، بين ماض زنخ وحاضر عليه أن يأتي طازجاً جديداً، متخففاً مما يكبل خطوته، بين هواء فاسد أعيد تدويره عشرات المرات في زنزانة السنة القديمة، وبين ما نتلقاه بأمل كهواء جديد لم يُعلَّب بعد.
في طفولتي المبكرة اعتادت عائلتي الكبيرة التي تشمل الأعمام وأبناءهم وبناتهم، بطريقة تقليدية - لكنها دافئة - أن تجتمع معا لمشاهدة مسرحية كوميدية طويلة، وأكل المسليات كالسوداني والحمص واللب بأنواعه، وكان ذلك على تقليديته يكفيني لأبتهج.
مع مرور السنوات وبداية غربة من نوع آخر أشبه بميلاد جديد وحدي في القاهرة، اكتشف حقيقتي كشخص آخر غير ذلك العالق في زنزانة معلبة الهواء بذهن أبيه، كنت أتجدد، أختبر، أُصهر، ودائماً على وشك العودة مستسلماً إلى تلك الزنزانة، لولا نجاة اللحظة الأخيرة.
لكن في المسافة الفاصلة بين عامي 2008 و2009 كنت مهزوماً، مفلساً، خارجاً من قصص صداقة وحب خائبة، مرهقاً كما لم يسبق لي من قبل، فاقد الثقة بكل شيء، يقيني يزداد أني غير جدير بالصداقة أو الحب، وأن هذا العالم بأكمله غير جدير أن يحظى مني بالصداقة أو الحب، ولم يبق لي معه إلا علاقة واحدة؛ أن نكتب عقداً بلا عواطف أو آمال، جافاً بارداً، وأن تكون لغتنا المتبادلة هي السخرية.
صدري كله كان معبأ بهواء سنوات قديمة لم تُزفَر من صدري بعد، كانت حواسي مشوشة ومغيبة، وفي حاجة إلى استيقاظ، وقد أفسدها قلة اليقين فيما تلمسه، تشمه، تتذوقه، تبصره، تسمعه، هذا ما يفعله الشعور بعدم الجدارة، الشك، أن ربما ذاتك التي ذهبت لإيجادها كانت على خطأ كلية.
عندما دقت الساعة الثانية عشر، كان يولد ذلك الحب الذي لا يهتم بجدارتي، لكنه يعرف عن يقين أني أستحق الفرح، في ذلك اليوم أوقظت تلك الحواس من جديد، بميلاد حي، حيث كل لمسة، نظرة، رائحة، صوت، طعم هو الأول والفريد.
ربما لم أستعد حواسي المشوشة والمغيبة بالكامل، أواصل التعتيم على تدفق مشاعري بالسخرية، لكني بمعونة تلك التي تعرفني أكثر من ذاتي، وتجد في ذلك الصدع حقيقة تكفيها ليصير حبها لي حباً لا يقبل أي شك أو صدع، وعبر حواسها التي لم تشوش بعد؛ يمكن لي أن أرى وأسمع وأتذوق وأشم وألمس.
في تلك الليلة وقعت غافلاً في الحب، لكن بكل حواسي.
وصرت أتعلم معناه من جديد يوماً بعد يوم.
قد لا يتبدل العالم حقاً بين دقيقة فاصلة بين سنة وأخرى. لكن دون ذلك الإيمان كيف يمكن لصدورنا أن تستنشق هواء جديداً في كل ليلة.
أحمد الفخراني
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.