شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
عمّا لا يُكتب… أنا الذي خسرتُ عائلتي كلها تحت القصف

عمّا لا يُكتب… أنا الذي خسرتُ عائلتي كلها تحت القصف

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والمشرّدون نحن والتطرف

الأربعاء 3 يناير 202401:11 م

كان يصعب علي فهم التوحش في قتل عائلة كاملة آمنة في بيتها. ربما -إن صح التعبير- بدأت أستوعب خسارتي الشخصية. أخذت وقتاً طويلاً كي أستوعب أن أختي وزوجها وبناتها الاثنتين وأولادها الاثنين قد قتلوا في ثانية واحدة، حيث كوّم الصاروخ أشلاءهم فوق بعضهم البعض، رفقة بقية العائلة في بيت كبير لطالما كان حضناً لي، وأكثر من قلب في هيئة حجارة. 

سياق التوحّش 

لا يمكن فهم هذا على الإطلاق، فهم فكرة العزاء الكبير الذي ينضم إليه كل يوم شهيد وفقيد، ولا يمكن على الإطلاق استيعاب الموت بهذه الطريقة إلا في سياق التوحش. فهذه الحرب الممنهجة التي تشنها إسرائيل على السجل المدني الفلسطيني لمسح عائلات بأكملها من الوجود لا يمكن تعريفها إلا في سياق التوحش، لا يمكن استيعابها إلا في هذا السياق أصلاً. 

شعرت أنني سأخسر أصدقائي، عائلتي، ذاكرتي الكبيرة عن غزة، هدايا حبيبتي السابقة المخبأة تحت أنقاض بيت ما في المدينة، عربات القهوة الشعبية التي أحب على جنبات الطرق، كراج السيارات، مقاعد الجامعة، شاطئ البحر، أبي وأمي وأخوتي، وعائلتي الكبيرة. 

لم يكن سهلاً استيعاب أن محمد الصغير ابن اختي هديل الذي لم يتجاوز عمره خمسة وأربعين يوماً قد خرج نصف حي في أشلاء جسد أمه إلا في سياق التوحش، لم يكن سهلاً استيعاب أن إيلين التي حلمت يوماً أن تكون عارضة أزياء وفنانة تخرج من تحت الأنقاض بنصف جسد إلا في سياق التوحش، لم يكن سهلاً استيعاب أن هديل نفسها قتلت وفي حضنها أبناءها إلا في سياق التوحش، وهذا التوحش لا يمكن وصفه على الإطلاق.

أن يقتل جيش ما عائلة كاملة في بيتها دون إنذار أو سبب فهو يمارس توحشاً خارج عن نطاق الحرب وأسبابها ومعايير الفوز والخسارة والضعف والقوة، أن يقتل جيش ما عائلة كاملة كلها من المدنيين فهو يمارس توحشاً لقتل الذاكرة ومسح الوجود، وهذا بالضبط ما يفعله جيش إسرائيل في غزة. 

خسارة كل شيء... كل شيء 

بدأت الحرب بشعور عميق من الفقد، لا أعرف بالضبط من الذي أدخل هذا الشعور إلى أعماق جسدي، أنا ذلك الشخص الذي عاش حروباً كثيرة، وولد في حرب، وتربى على مفردات الحرب. لم أشعر يوماً ما شعرته في السابع من أكتوبر، شعرت أنني سأخسر كثيرين ممن أحب، ربما أصدقائي، عائلتي، ذاكرتي الكبيرة عن غزة، هدايا حبيبتي السابقة المخبأة تحت أنقاض بيت ما في المدينة، عربات القهوة الشعبية التي أحب على جنبات الطرق، كراج السيارات، مقاعد الجامعة، شاطئ البحر، أبي وأمي وأخوتي. عائلتي الكبيرة من المنتصف. 

للحقيقة أننا كغزيين فقدنا منذ سنوات القدرة على البكاء، فقد مزّقنا الحصار، وفرض فينا حصارات كثيرة، أقسى حصار كان حصار العين. 

أخبرت زوجتي أني منذ اليوم الأول لا أستطيع النوم مع هذا الشعور الثقيل العنيف، ثمة شيء في صدري يقول لي أن هذه الحرب هي حرب خسارتك الشخصية. وهذا الشعور ليس لي وحدي، هو لكل الغزيين المغتربين في الخارج، فهم يعيشون حرباً أخرى إلى جانب الحرب التي تعيشها عائلاتهم.

في الثالث عشر من أكتوبر، استيقظت على هاتفي الذي انفجر رسائل واتصالات وإشعارات للأخبار، لم أفهم بالضبط ما الذي حصل في منزل أختي، لم أفهم أصلاً ما الذي يمكن فعله عسكرياً في بيتها، ولم أتعامل مع الخبر بعاديتي، لم أجد أحداً لأتصل به بسبب انقطاع الاتصالات، لم أجد خبراً واضحاً تفصيلياً على القنوات الإخبارية ولا في صفحات الصحافيين المحليين، فنشرت منشوراً على الفيسبوك أسأل العامة كالمجنون: فليذهب أحدكم إلى منزل أختي وعمتي ليعرف بالضبط ما الذي حصل؟.

كانت دقائق من نار وحزن وغضب وصدمة تلك التي أخبرني فيها الشاعر خالد جمعة أن خبر فقداني لعائلتي بأكملها كان صحيحاً. 

هل ماتوا حقاً أم هي مجرد إشاعة حرب؟  

أي رب هذا الذي علي أن أحكي معه الآن؟ أي غضب هذا الذي علي أن أشق جسدي لأخرجه؟ أي بكاء هذا الذي علي أن أتوسله من عيني؟ أي حقيقة علي أن أكذب كي لا أرى النعوش البيضاء أمامي؟ فلتعيدوا إلى عيني عماها كي لا أرى المحمول.

لم أصدق أني بكيت عن غزة كلها بأولادها وبناتها وشيوخها وحتى عن حجارتها وشجراتها. بكيت كأن هديل أختي في حضني تقول لي إنها لم تمت، وإن هذه هي إشاعة الحرب المعتادة عن موت أحدهم بالخطأ.

للحقيقة أننا كغزيين فقدنا منذ سنوات القدرة على البكاء، فقد مزّقنا الحصار، وفرض فينا حصارات كثيرة، أقسى حصار كان حصار العين. أن تحس بألم في داخلك وخارجك يبدو قادراً على الثبات، أن تحس بالقهر وخارجك صامت كفزاعة في حقل مهجور، وهذا بالضبط ما يعنيه أن تجرب الألم، أن تجرب الألم بألم. 

لم يكن سهلاً استيعاب أن إيلين التي حلمت يوماً أن تكون عارضة أزياء وفنانة تخرج من تحت الأنقاض بنصف جسد إلا في سياق التوحش، لم يكن سهلاً استيعاب أن هديل نفسها قتلت وفي حضنها أبناءها إلا في سياق التوحش

في الإبادة لا نخسر أشخاصاً نحبهم فقط، بل نخسر ذاكرة كاملة، نخسر مدناً كنا فيها سوياً، نخسر أصواتاً كنا نذوب لسماعها، نخسر ضحكات طالما جعلت من القهر ليناً، وسوت الأرض حريراً أمام التعب. غزة في سردية الإبادة لا تبدو مدينة عادية، فأي مدينة عادية تلك التي تمسح عائلات كاملة من السجل المدني فيها؟ وللإبادة الحاصلة في غزة ألف موت، كل موت في هيئة قاسية مريرة يخلق في القلب ثقوباً لا يمكن سدها. كتلك المحادثة بيني وبين صديقي الكاتب عمر موسى، حين عزاني في استشهاد عائلتي، ولم يكن يعرف أني سأرسل له ذات الرسالة بعد أسابيع أعزيه لاستشهاد عائلته كاملة.

في الإبادة لا يمكنك أن تفهم أنك تخسر زملاء المدرسة ولا الجامعة، لا يمكنك أن تفهم أن هذا القتل العشوائي للناس يمكنه أن يجعلك وحيداً في وحدة المدينة، لا يمكنك أن تفهم أن هذه الخسارة لا يعوضها شيء، مهما سمعت من مواساة ومهما رفعت من جبروتك لطاقة التحدي، إلا أن الأرواح التي تسحبها الحرب ظلماً وقهراً لا يعوضها إلا عودتها إليك، حولك ومعك.

أكتب هنا لأعزي الغزيين كلهم في عزائي، فهذا العزاء الكبير لا ينتهي. بعد أكثر من ثمان وثمانين يوماً على الإبادة في غزة، أحاول في منفاي أن أفهم الحرب، أن أحللها، أن أفك عن حسرتي قيودها وأكتب، الكتابة عن الألم ليست تمريناً على التشافي بل تسجيلاً للشعور الإنساني بالآخر، وهذا ما منعني لأيام طويلة أن أحكي عني، رغم أنني ابن هذه المدينة التي تباد الآن ورغم أنني خسرت قلبي فيها، إلا أن شعوراً ما يظل يطرق رأسي بأني في مكان آمن وتلتبسني عقدة النجاة، تلك العقدة التي لا يفكها سوى الموت. 


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

ثورتنا على الموروث القديم

الإعلام التقليديّ محكومٌ بالعادات الرثّة والأعراف الاجتماعيّة القامعة للحريّات، لكنّ اطمئنّ/ ي، فنحن في رصيف22 نقف مع كلّ إنسانٍ حتى يتمتع بحقوقه كاملةً.

Website by WhiteBeard
Popup Image