في التاريخ المصري مراحل تتكرر. النسخة الجديدة مزيدة غير منقَّحة، تثير أسئلة عن عدم التعلم من التجارب. أدعو الله أن ينقذ مصر من تكرار تجربة دفعت ثمنها سبعين سنة من الاحتلال البريطاني. تلك مرحلة أفول، بطلها الخديو إسماعيل، الجاهل بالفرق بين القدرة وتفاخر الطاووس.
للباحثين والمؤرخين أن يقارنوا بين مصر المحبطة بعد التواطؤ على ثورة 25 كانون الثاني/يناير 2011، ومصر المغدور بها وبثورتها العرابية قبيل الغزو البريطاني. ومن الكتب التي وثقت جوانب من أداء السلطة السياسية في تلك الفترة "مصر وكيف غُدر بها" للقنصل العام للولايات المتحدة في مصر ألبرت فارمان، و"أفندينا يبيع مصر" للصحفي المصري محسن محمد (1928 ـ 2012).
نجا كتاب فارمان من الآثار السلبية للاستعارة، ومن الفقد الناتج عن تنقّل العزّاب من غرفة إلى شقة. أحتفظ بترجمة طبعته الأولى (1995)، أما كتاب محسن محمد فاختفى من مكتبتي، ولا أستطيع التوصل إليه أو شراءه. لعله نفد ولم يهتم ورثة المؤلف بإعادة نشره، وربما تم إخفاؤه؛ لتوثيقه بيع الخديو إسماعيل أسهم مصر في قناة السويس.
بحجة تلك الملكية للأسهم، قامت بريطانيا باحتلال مصر عام 1882. ثم شاركت في غزو مصر عام 1956؛ بدعوى الدفاع عن أسهمها في القناة. وكما حفر العدوان الثلاثي البريطاني الفرنسي الإسرائيلي قبر الإمبراطورية البريطانية، فإنني أخشى وجود قبر في مصر الآن، لإخفاء كتب جنت عليها عناوينها.
تأتي لحظة يسهل فيها شراء نسخة من كتاب، عن مشقة البحث عنه في زحمة المكتبة. فماذا لو كان الكتاب ضحية حساسية مَرَضية في ظرف سياسي أعمى؟
تأتي لحظة يسهل فيها شراء نسخة من كتاب، عن مشقة البحث عنه في زحمة المكتبة. فماذا لو كان الكتاب ضحية حساسية مَرَضية في ظرف سياسي أعمى؟ في مصر كتب آذتها عناوينها بالمصادفة. كانت هزيمة حزيران/يونيو 1967 بداية زلزال سياسي وعسكري أطاح رؤوساً في قمة الهرم.
في تلك الأجواء المشحونة، أصدر الكاتب ضياء الشرقاوي مجموعته القصصية "سقوط رجل جاد". تصادف خروج الكتاب من المطبعة في 14 أيلول/سبتمبر 1967، وهو اليوم الذي نشرت فيه الصحف خبر انتحار المشير عبد الحكيم عامر. تم التحفظ على المجموعة القصصية في المخازن؛ لكيلا يظن القراء أن للعنوان صلة بالمشير الذي "انتحروه". وأفرج عن النسخ بعد سنة.
بعد وصول الإخوان إلى الحكم، صيف 2012، مُنعت إذاعة أغنية "يا حلاوة أم إسماعيل في وسط عيالها". لا شيء يربط أغنية سيد درويش بالسلفي ذي الشعبية الطاغية آنذاك حازم صلاح أبو إسماعيل. كم أم إسماعيل، وأبو إسماعيل في مصر؟ لا يحصيهم عدد.
وتكرر الأمر مع كتاب "فضائح السيسي بيه" الصادر عام 1994 للكاتب الساخر يوسف عوف (1930 ـ 1999). اختفى الكتاب من دار النشر، ومن سور الأزبكية. لعل القراء فاقدي الثقة بالسلطة المهزومة يرتابون، ويظنون أن "سقوط رجل جاد"، كعنوان لكتاب جديد، يحيل إلى رجل مُعلَن انتحاره؛ فاعتقلوا الكتاب سنة. فما ذنب كتاب قديم ليوسف عوف؟ إنها لعنة مصادفة العنوان.
في العالم العربي الموبوء بالاستبداد، لا تخجل السلطة العمياء من العصف بعمل فني تاريخي. لو أصرّ ألفريد فرج على "سقوط أخناتون" عنواناً لمسرحيته عن النهاية المأساوية لأخناتون، لأعفى نفسه من الفصل من عمله، والتعرض للاعتقال في فترة لاحقة.
وكانت الحركة المسرحية مهتمة بنص عنوانه "سقوط أخناتون"، قبل أن يُفتتح به مسرح الدولة (المسرح القومي) موسم 1957 ـ 1958. وقبل الافتتاح اقترح أحد الصحفيين على المؤلف تغيير العنوان إلى "سقوط فرعون". لفظ فرعون أكثر جاذبية وعمومية، ولكن له دلالة شعبية واستشراقية تفيد الغطرسة والطغيان. وبعد حرب السويس، صار جمال عبد الناصر زعيماً يجسد آمال الشعوب في الاستقلال. أما الغرب فسمّاه "فرعون".
أدى عنوان "سقوط فرعون" إلى سلسلة من الكوارث، أبرزها الاعتقال، ولم تعرض المسرحية منذ عام 1957، ولم تنشر في كتاب إلا عام 1989.
والطبعة الثانية أصدرتها الهيئة العامة لقصور الثقافة عام 2015، وفي مقدمتها كتب نبيل فرج أن الضجة الصحفية المصاحبة لنجاح المسرحية نبّهت الرقابة "إلى ما تنطوي عليه من إسقاطات... وتجنباً للمشاكل التي كان يمكن للمسرحية أن تجلبها، في ظرف تاريخي دقيق، أمرت الرقابة بوقفها بعد اثنتي عشرة ليلة فقط من تقديمها، حققت فيها المسرحية أعلى الإيرادات". كان ألفريد فرج محرراً أدبياً في صحيفة الجمهورية، وكتب في 14 كانون الأول/ديسمبر 1957 مقالاً ينعى فيه حرية التعبير، وفوجئ بفصله عام 1958.
في التاريخ المصري مراحل تتكرر. النسخة الجديدة مزيدة غير منقَّحة، تثير أسئلة عن عدم التعلم من التجارب. أدعو الله أن ينقذ مصر من تكرار تجربة دفعت ثمنها سبعين سنة من الاحتلال البريطاني
تجريم الكلمة والصورة والأغنية مرض لا يفرق بين شرق مستبد، وغرب ديمقراطيته انتقائية. الكيان الصهيوني يلاحق الفنان الفلسطيني محمد بكري بسلاح القضاء، بعد عشرين سنة، بسبب فيلم "جنين جنين"، عن اجتياج جيش الاحتلال للمخيم الفلسطيني عام 2002.
وقبل أكثر من مئة سنة جرّمت سلطة الاحتلال البريطاني ذكر اسم سعد زغلول بعد ثورة 1919، فتحايلت منيرة المهدية على الحظر بأغنية "شال الحمام... حط الحمام": "زغلول وقلبي مال إليه/ أنده له لما أحتاج إليه"، فالتقط جمهور المسرح التورية، وضجّ بالتصفيق لاسم الزعيم المشار إليه بالزغلول، هو الحمام الصغير. كما غنّت نعيمة المصرية "يا بلح زغلول يا حليوة يا بلح" تلحين سيد درويش.
سبق لسيد درويش أن التحايل على ذكر اسم الخديو عباس حلمي الذي عزله الإنجليز عام 1914. والرقابة التي تستمد سلطتها من جيش الاحتلال لم تسمح بذكر اسم الخديو المخلوع في الصحف أو الأغاني، فلحن سيد درويش وغنّى "عواطفَـك دي أشهر من نار":
عواطفك دي أشهر من نار/ بس اشمعنى جافيتني يا قلبك
انت اللطف وليه أحتار/ سيد الكل أنا طوع أوامرك
حالي صبح لم يرضِ حبيب/ لـوم الناس زوّدني لهيب
ما قولش إن الوصل قريب/ يا مليكي والأمر لربك
خايف أحكي لمين أشكيك/ دبّرني علشان أرضيك
يمكنّي دايماً أواسيك/ والعاذل ما يكونش شريك
يخطر لي دايماً مرآك/ مـن كثرة حبي لعلاك
صبّحني هجرك وجفاك/ رسم الظل يا نعم مليك.
الحروف الأولى للشطرات، صدر البيت وعجزه، تضم ستة عشر حرفاً، تشكل عبارة "عباس حلمي خديوي مصر".
ذهب الاحتلال، وغربت شمس الإمبراطورية، وبقيت الأغنية شاهدة على هشاشة سلطات يهزّها عنوان كتاب.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...