لماذا تسيطر في ثقافتنا العامة نظرة دونية للمرأة، إذا كانت الأم (المرأة) هي المصدر الأول لتوعية الطفل وتحديد سلم القيم لديه؟ المرأة (الأم) هي التي تربي وتؤسس لدى الأبناء الخميرة الأولى لنظرتهم إلى الحياة، لماذا لا ينعكس دورها هذا في رفع مكانة المرأة في الثقافة العامة؟ غالبية الأبناء يحملون حباً كبيراً لأمهاتهم، وغالباً ما يتفوق حب الأم على حب الأب، فلماذا لا ينعكس هذا على الإعلاء من شأن المرأة في الحياة العامة؟ من أين يأتي إلى ثقافتنا هذا الشرخ العميق وغير القابل للإصلاح فيما يبدو، بين الأم المرفوعة إلى مصاف القداسة، والمرأة المحجوزة في مقام متدن؟ ولماذا يترافق هذا الفصل الصارم بين الأم والمرأة، بفصل الأم فصلاً تاماً عن دائرة الجنس وحبس المرأة، مهما علت، في هذه الدائرة؟ ألا يشير هذا إلى أن الفعل الجنسي هو العنصر الحاسم في التقييم؟
تكمن المشكلة في أن المرأة المربية (الأم) نفسها غير متحررة أصلاً من الذكورية في نظرتها إلى الحياة، وغير متحررة من النظرة الذاتية الدونية. غالبية الأمهات ينظرن إلى الابن بتفضيل عن الابنة. هذه نظرة متوارثة تحملها الأمهات وتنقلنها إلى الأبناء رغم أنها نظرة ذكورية تقلل من شأن المرأة. ليس من الخطأ القول، مع الباحثة الاجتماعية الأميركية نانسي فرايدي في كتابها "أمي مرآتي، بحث الابنة عن الهوية"، (منشورات دار السوسن، دمشق 2002)، إن الأم هي الجسر الذي ينقل الثقافة الذكورية إلى البنات والأبناء. أي إن المرأة هي عامل فاعل في دائرة استمرار انطباعات وقيم وثقافة مضادة للمرأة. ولكن ما هو منشأ النظرة الدونية حيال النساء، النظرة التي تحتل الثقافة العامة وتستقر في وعي الرجال والنساء معاً، وما هو الدينمو الذي لا يكف عن بث الحياة في هذه النظرة التي تبدو كأنها تتحدى الزمن؟
ما هو منشأ النظرة الدونية حيال النساء، النظرة التي تحتل الثقافة العامة وتستقر في وعي الرجال والنساء معاً، وما هو الدينمو الذي لا يكفّ عن بثّ الحياة في هذه النظرة التي تبدو كأنها تتحدى الزمن؟
لن نجد الجواب في الضعف الجسدي للمرأة قياساً على الرجل، فقد بلغنا طوراً من الحضارة لا تتطلب فيها صيانة الحياة قوة بدنية بل قوة ذهنية ونفسية بالأحرى، وهو ما يتوفر لدى المرأة، بما لا يقل، وربما يزيد، عن الرجل. مع ذلك لم تتراجع النظرة الذكورية. ولن نجد الجواب في ابتعاد المرأة عن عملية الإنتاج. مشاركة المرأة في عملية الإنتاج في المجتمع الزراعي أو الرعوي، لم يمنع النظرة الذكورية من السيطرة في هذه المجتمعات. تنقل التقارير أن المرأة في المجتمعات الزراعية تعمل أكثر من الرجل وأن هذا يتمتع بامتيازات معنوية عالية في هذه المجتمعات التي تسود فيها ثقافة ذكورية ثقيلة. كما اتاحت لنا مرارات الحروب التي لا تنتهي، أن ندرك إلى أي حد تمتلك النظرة الذكورية القدرة على الاستمرار. فقد أصبحت المرأة العنصر الأهم في الإنتاج بعد أن تكفلت الحرب بقتل نسبة كبيرة من الذكور، وبسحب النسبة الباقية من عملية الإنتاج لصالح المجهود الحربي. على هذا، يتوقع المرء أن تتراجع الفوقية الذكورية، غير أنها تستمر رغم ذلك. هل لأن النشاط الحربي، دفاعاً أو غزواً، أنبل من النشاط الإنتاجي، فيبقى الذكر المحارب متفوقاً على المرأة المنتجة؟ لا نعتقد ذلك، فمشاركة المرأة في الحروب الحديثة لم تكن مدخلاً إلى انحسار النظرة الذكورية. حين تكون مشاركة المرأة في الحروب لافتة فإنه يجري نسبها إلى جنس الرجال بدلاً من أن يكون لتفوقها أو لبطولتها فعل مؤثر في انحسار الذكورية، ما يشير إلى أن هناك مصدر آخر، غير القوة الجسدية وغير المشاركة في الإنتاج وفي الحروب، يغذي الفوقية الذكورية.
نعتقد أن مصدر التغذية المستمر للفوقية الذكورية يكمن في التصور المستقر الشائع عن الفعل الجنسي. هذا التصور يشكل أساس الفوقية الذكورية التي تستبطن على نحو ثابت الدونية النسوية. في هذا التصور لا يكون الفعل الجنسي تشاركياً، لا يوجد شريكان في اللقاء الجنسي، بل طرفان، أحدهما مسيطر وفاعل، والآخر خاضع وموضوع للفعل. والخطوة التالية في الثقافة العامة هي اعتبار موقع الطرف الخاضع أو موضوع الفعل الجنسي، هو أدنى موقع يمكن تصوره من الهوان والوضاعة. إنه يمثل، في الوعي العام للمجتمع، سواء كان في الثقافة الشعبية أو الثقافة العالمة، الانعدام الكامل للكرامة. يظهر ذلك في كل مستويات اللغة، وفي التعابير اليومية للجميع، للذكور كما للإناث، في الشتائم وفي التهديدات وفي التعبير عن حالات الانتصار والتغلب التام.
"جنس الفاعل خير من جنس المفعول"، هكذا يضع أبو حامد الغزالي الأساس أو البنية التحتية لتفضيل الرجل على المرأة. على هذا يكون الفعل الجنسي هو المرجعية النهائية لتحديد الأفضلية، ويكون بالتالي أساس التمييز ضد المرأة من طبيعة عضوية لا مجال لتجاوزه، فهو ليس إلا جزء من "الفطرة". والحق إن هذا الحكم عن الفاعل والمفعول لا يتسق مع الكثير من الأمثلة التي يكون المفعول فيها هو السيد في الثقافة العامة نفسها. على سبيل المثال، في كل أعمال الخدمة الجسدية التي يتمتع بها "الأسياد" يكون الخدم هم الفاعلين دون أن يعطيهم ذلك مرتبة أعلى بل مرتبة أدنى بالأحرى. لنتخيل رجلاً يغسل قدمي رجل آخر، هل يمكننا تطبيق المعيار التفضيلي السابق للفاعل والمفعول هنا؟ ويمكن تخيل عشرات الأفعال المشابهة. في اللغة نقول خادم (فاعل) ومخدوم (مفعول)، والمعيار القيمي للخادم في الوعي العام ليس عالياً، بل هو، في المجمل، أقل من قيمة المخدوم.
ولإبراز أساسية الفعل الجنسي في المعيار القيمي المستقر، يمكن ملاحظة أن المثلية الجنسية بين الذكور لا تعتبر نقيصة بالنسبة للطرف الفاعل، في سلم القيم الأخلاقية العامة، وربما كانت مصدر تباه وشهادة "ذكورة" إضافية. أما الميل الجنسي الذي يبديه بعض البالغين تجاه الأطفال (pedophilia) ، فإن مصدره ليس احتقار الفعل الجنسي الذكوري بحد ذاته، بل احتقار استغلال البالغ لبراءة الطفل وضعفه.
"جنس الفاعل خير من جنس المفعول"، هكذا يضع أبو حامد الغزالي الأساس أو البنية التحتية لتفضيل الرجل على المرأة
في حين تعتبر المثلية الجنسية بالنسبة للطرف المتلقي للفعل، المثال الأبرز للهوان وانعدام القيمة. إنها، في المنظور القيمي السائد، وضاعة لا تبقي للرجل أدنى كرامة في نفوس الناس. المعايير الثقافية السائدة تجرد الرجل الذي يكون موضوعاً للفعل الجنسي من الكرامة تجريداً نهائياً. كل اقتراب للذكر من مواصفات المرأة، يقلل من قيمته لأنه يقلل من ذكورته، فكيف إذا حل الرجل في موقع المرأة "الطبيعي" في الفعل الجنسي الذي يشكل في الخيال الشعبي العام دينمو قلة اعتبار المرأة؟ لا يوجد ما يعادل هذا "السقوط"، فهو يهدر كرامة الرجل في عيون الناس حتى لا يبقى له بعدها قيامة، ولا يمكن بعدها لأي إنجاز له أن ينقذه من هذه الحفرة الاعتبارية التي تصل إلى حد الاحتقار.
هذه النظرة الراسخة في الثقافة العامة تجعل من الممكن لتلميذ مدرسة ابتدائية أن يحرج معلمته، ولأي رجل، كائناً من كان، أن يحرج أي امرأة، مهما علا شأنها، بمجرد الإشارة إلى موقعها في الفعل الجنسي. تحرير المرأة من هذا القيد يحتاج إلى أن تتحرر داخل نفسها من هذا التصور العام المزروع في وعيها العميق، كما هو في وعي الذكور، عن دونية المرأة في الفعل الجنسي، كبداية لإزاحة هذا التصور عن موقع السيادة في الوعي العام في المجتمع.
الإنجازات التي تحققها المرأة على كل المستويات، إضافة إلى النضال النسوي لتكريس حقوق المرأة المهضومة على مستويات عدة أيضاً، مقدمات مهمة على طريق انجاز الخطوة المعنوية الناعمة ولكنها الأهم، برأينا، وهي تكريس تصور سليم عن الفعل الجنسي ينظر إليه على أنه فعل تشاركي وليس فعل سيطرة وخضوع، أو قيمة ونقص قيمة، أو كرامة وإهانة أو فحولة وانصياع ... الخ. ولكن بالمقابل يمكن التساؤل، إذا كان مثل هذا التحول مهماً لإخراج المرأة من وهدة قلة الاعتبار، ألا يقود هذا، إذا ما أُنجز، إلى تعرية الفعل الجنسي من محيطه النفسي المثير؟ سؤال يفتح باباً جديداً للكلام.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 3 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 6 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه