شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
القدس حيث

القدس حيث "التاريخ حي، ينطق به كل حجر"

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والتاريخ

الجمعة 22 ديسمبر 202303:46 م

يخيل إليّ أن مجسّم المفتاح الذي حمله النائبان إميل غوري ومحي الدين الحسيني من القدس إلى بيروت وسلماه إلى السيدة فيروز عام 1968، كان يختزن بداخله مفاتيح بيوت الفلسطينيين الذين هُجِّروا قسراً من أرضهم وأن فيروز هي "زاد الخير" - كما في مسرحيتها "ناطورة المفاتيح" - التي آمنها الشعب على ذكرياته وصورة ما تبقى له في تلك الديار العتيقة وأنه ذهب وترك مفاتيحه عندها...

كما يخيل إليّ أن صوتها سيصدح يوماً "الغضب الساطع آت" وتتوافد إليها الجموع حاملةً أغصان الزيتون، مسترجعةً مفاتيحها وتصيح بلسان "غربة" في وجه مغتصب الأرض: "فتّحوا شبابيكن... شمسن ما عادت تغيب. الأرض ملك الكل بس ما بتساع الناس والظلم، شو بدك تقتل تا تقتل ما رح تخلص القصة، وراء كل صخرة تحت كل شجرة، كل بيت عم يخلق ولد".

زيارة فيروز الأولى للقدس عام 1963، قبل سقوطها بالكامل تحت الاحتلال الإسرائيلي، طافت فيها أحياء المدينة وأماكنها المقدسة وزارت الحرم القدسي وكنيسة القيامة وخرج صوتها عبر الإذاعة معبراً عن سرورها بزيارتها للقدس التي رددت أنها كانت تود أن تلبي دعوة الاشتراك الصلوات والتراتيل في عيد الميلاد المجيد أو عيد الفصح.

خلّدت فيروز، والأخوان رحباني، زيارتها للقدس في أغنية "القدس العتيقة" حيث تصف جولتها في المدينة، شوارعها ووجوه أهلها الحزينة والبيوت التي أصبحت خالية من أصحابها وتلك السيدة التي لم تجد ما تهديه لها فأهدتها مزهرية فلسطينية.

القدس والبيت الدمشقي

روت الأديبة السورية غادة السمان عن القضية الفلسطينية في كتابها "حكايات حب عابرة": لقد عايشت القضية الفلسطينية عن قرب منذ طفولتي، وعاد خالي المناضل الدكتور أمين رويحة جريحاً من فلسطين وكان قد تطوّع في جيش الإنقاذ يومها ‘مع القاوقجي‘. لقد كانت القضية في دمشق، مسقط رأسي، جزءاً من حياتنا اليومية. صلتي بغسان (كنفاني) زادتني بالتأكيد اقتراباً حميماً من الصورة، وانعكس التأثير المتبادل في حروفنا معاً.

القدس هي واحدة من مدن الروح التي حاولوا مراراً حجب الشمس عنها وصبغها بلون واحد لا يشبهها؛ جعلوا الشتات من نصيب أبنائها، الذين طافوا الدنيا وبقيت أعينهم معلقة عليها فلا تنبض قلوبهم  إلا مع أجراسها. قضيتها هي قضية حق، قضية إنسانية أكثر من أي شيء آخر

أما عن زيارتها الوحيدة للأماكن المقدسة، قالت غادة: "زرت القدس قبل سقوطها بشهور وحين طاف بي الأصدقاء في أزقتها العتيقة غمرني شعور بأنني أعود إلى بيتي القديم في دمشق". 

تاريخ مليء بالفجيعة... القدس مدينة الحلم والتوق

والقدس هي واحدة من مدن الروح التي حاولوا مراراً حجب الشمس عنها وصبغها بلون واحد لا يشبهها؛ جعلوا الشتات من نصيب أبنائها، الذين طافوا الدنيا وبقيت أعينهم معلقة عليها فلا تنبض قلوبهم  إلا مع أجراسها. قضيتها هي قضية حق، قضية إنسانية أكثر من أي شيء آخر.

بكلمات معجونة بالألم والحب، وصف الكاتب والمؤلف الفلسطيني، جبرا إبراهيم جبرا، مدينة القدس في مقالة نُشِرت عام 1965 في مجلة الحوار، قائلاً: "إنها ليست مجرد مكان إنها زمان أيضاً. فهي لا يمكن أن تُرى بوضوح ضمن نطاقها الجغرافي المحدود وحسب، لأنها حينئذ لن تُفهَم. إنها يجب أن تُرى في منظورها التاريخي، وتُرى كأن التاريخ - تاريخ أربعة آلاف من السنين - اجتمع في لحظة واحدة، هي اللحظة التي يراها المرء فيها.

في هذه المدينة التاريخ حي ينطق به كل حجر. إنه تاريخ مليء بالتناقض، مليء بالفجيعة، ولكنه أيضاً تاريخ مدينة عشقتها البشرية جمعاء. لأنها لم تكن يوماً مجرد مدينة مكانية من حجر وطين وتجارة وسياسة، لقد كانت دوماً مدينة الحلم والتوق وتطلع النفس البشرية إلى الله".

رأى جبرا القدس واقفة شامخة على جبل، تنظر إلى البحر من جهة وإلى البادية من جهة أخرى. وبين جدرانها جمعت بين معاني البحر ومعاني البادية: قوتين حضاريتين في تفاعل أبدي. وفي هذا التفاعل سر مأساتها وسر عظمتها معاً.

"في هذه المدينة التاريخ حي ينطق به كل حجر. إنه تاريخ مليء بالتناقض، مليء بالفجيعة، ولكنه أيضاً تاريخ مدينة عشقتها البشرية جمعاء. لأنها لم تكن يوماً مجرد مدينة مكانية من حجر وطين وتجارة وسياسة، لقد كانت دوماً مدينة الحلم والتوق وتطلع النفس البشرية إلى الله"

القدس واسترداد الذات

كان ذلك قبل أن تُحاصر المدينة ويُسلَب ما تبقى منها ويُهجَّر ويُشرَّد المزيد من أصحاب الأرض. كتب جبرا مقالته قبل سقوط القدس بالكامل تحت الاحتلال الإسرائيلي. كانت حينها ما تزال مقسّمة وشطرها الغربي فقط تحت الاحتلال. قال: "إنني أذكر القدس الجديدة، القدس السليبة، كآدم يذكر الجنة. فالصبي إذ ينمو تنمو المدينة في كل زاوية من زوايا نفسه، وصباه إنما هو انعكاس لمئات الطرقات والبيوت والحوانيت والأزقة والأشجار. فإذا ما جاء العدو وحطّم الأرصفة بمصفحاته، ونسف البيوت على من فيها، واجتثَّ الأهل والصحب من جذورهم، وألقى بالفتى وقد أصبح شاباً، عبر الوديان، عبر الصحاري، إلى طرق أخرى ومنازل أخرى، هل له إلا أن يرى في ذلك محاولة جائرة لفصم الذات، والذات يجب ألا تنفصم؟ ومن هنا كان شعور كل فلسطيني أن لا بد له من العودة، فالعودة هي أكثر من استرداد أرض سلبها العدو، إنها استرداد القسم الآخر من الذات. إنها استرداد للنفس بكاملها".

ورغم أن إسرائيل احتلت نصف المدينة الآخر، فإن بقي عربياً عروبة نصفها القديم، وعروبة بقية فلسطين المحتلة. وعندما يتحدث أحد أبناء القدس عن مدينته، يستحيـل أن يقصر الكلام على المدينة المسورة وما نشأ حولها من بناء وتوسع في فترة ما بعد النكبة. فالقدس بأرجائها كلها وحدة عضوية، من اللا منطق أن تُشطر هذا الشطر المجرَّم. وما شطرها على النحو الحالي إلا صورة مصغرة للخرق العقلي الذي اجتزأ جزافاً قسماً من فلسطين للإسرائيليين.

تابع جبرا وصفه للقدس، كأكثر العواصم العربية احتضاناً  للثقافات المختلفة منذ القرن السابع الميلادي، لا سيّما بغداد ودمشق، "مدينة تختلط فيها الثقافات العريقة تخالطاً عجيباً فتغني بتياراتها السيل الحضاري العربي الكبير. هذه معجزة أخرى من معجزات التاريخ في هذا الجزء من العالم، تعايش المذاهب والألسنة والعادات في ظل الشخصية العربية. كون القدس مركزاً للديانات السماوية جعل هذا التعايش مزيتها الكبرى طيلة الأربعة عشر قرناً الأخيرة".

أدب المقاومة وشجرة الزيتون

في مجلة الموقف عام 1970، كتب جبرا إبراهيم جبرا، عن أدب المقاومة: "إذا أردنا إعطاء هذه التسمية حقها، هو أدب المقاتلين أنفسهم. ما يكتبه ألبير كامو في 'كومبا' وما يكتبه جان بول سارتر أثناء المقاومة الفرنسية للاحتلال النازي كان أدب مقاومة، لأنهما كانا أيضاً مقاتلين فعليين. أدب المقاومة هو الكتابة 'السرية' التي تنتشر بين الناس دون أن يعرفوا بالضرورة من كتبها، وإذا عرفوا كاتبها، فإنهم سيجدونه على الأرجح معتصماً في مكان ما يجهله العدو، لأنه يشارك في القتال، ومشاركته في الرأي إنما هي نتيجة لتجربته الفعلية.

شجرة الزيتون في الغربة هي رمز للصمود والمقاومة عمرها ألف عام وما زالت تطرح ثمارها، مرت عليها شعوب وقبائل، شجرة مباركة جذورها ضاربة في عمق الأرض

شجرة الزيتون في الغربة هي رمز للصمود والمقاومة عمرها ألف عام وما زالت تطرح ثمارها، مرت عليها شعوب وقبائل، شجرة مباركة جذورها ضاربة في عمق الأرض.

حكت الكاتبة المصرية رضوى عاشور في كتابها "الصرخة" عن حماتها الفلسطينية سكينة البرغوثي والدة الشاعر مريد البرغوثي، والتي تشبه آلاف الأمهات والجدات الفلسطينيات. المرأة المولودة في قرية دير غسانة شرق فلسطين عام 1920، كان اليتم فارقاً، لم تتعافَ منه حتى أدركتها الشيخوخة وامتلأ بيتها بالأولاد والأحفاد. قالت رضوى عنها: "كانت تشعر بالغربة والوحدة وافتقاد السند. في الثمانينات أهديت لها كتاب فدوى طوقان 'رحلة جبلية... رحلة صعبة' وهو سيرتها الذاتية. فتحت سكينة الكتاب، لم تتركه إلا وقد انتهت منه. سألتها ما رأيك؟ قالت: أنا رحلتي أصعب!".

لم تكن تعرف الكاتبة المصرية عدد البيوت التي أقامت فيها سكينة، ولكنها كانت تعلم أنها عاشت في دير غسانة وفي أريحا وفي اللد وفي المفرق وفي القدس ورام الله وفي عمان، وأنها عاشت تنقلات متعددة في شقق مستأجرة في عمان التي انتقلت للإقامة فيها لأن أحد أولادها الأربعة لم تكن متاحة له العودة إلى رام الله بعد احتلالها.

غرست والدة مريد البرغوثي في حديقة المنزل إحدى عشرة شجرة زيتون ستاً منها أمام البيت. تساءلت رضوى إن كانت سكينة فكرت في أي فعل مقاوم وهي تزرع الزيتون عوضاً عن الزيتون المقتلع والمفتقد في بلدها المحتل أم أنها كانت بعفوية وبساطة تزرع الزيتون لأنها رأت اهلها يفعلون ذلك.

اتفقت المسنة الفلسطينية مع مقاول نقل لها تُربة محمّلة على سيارتي نقل حتى تزرع أرضاً قاحلة مجاورة لمنزلها. غطت الأرض بالتربة وبدأت في مشروعها، زرعت الأرض بشتلات اشترتها وغرستها وواظبت على رعايتها. بعد أقل من ثلاثة أعوام تحولت الأرض القفرة إلى بستان أشجاره مثمرة، تين وزيتون ولوز ومشمش وخوخ وتفاح.

كانت الجدة الفلسطينية حين فلحت هذه الأرض، بمساعدة مزارع أحياناً، تقترب من سن الثمانين. قالت رضوى: "كنا في بيتنا في القاهرة حين اتصلت بنا وأخبرتنا أن الأرض ستباع! قالت: ألا يمكنكم شراؤها؟ تميم، ألم تتخرج وتحصل على الدكتوراه؟ ألا تستطيع شراء الأرض؟ لم نقدر على ذلك وبدا لنا سؤالها لتميم طريفاً. لم نتخيل معنى هذه الأرض بالنسبة لها. تم بيع الأرض. ورأت سكينة بعينيها اقتلاع الأشجار التي غرستها. تابعت الجرافات وهي تمهد الأرض للحفر عميقاً فيها. الآن وأنا أسترجع الواقعة أشعر بالخجل من نفسي لأنني وأنا الكاتبة افتقدت الخيال".

لم تدرك الكاتبة المصرية حينها حجم المرارة التي اجتاحت العجوز الفلسطينية وهي تحاول إعادة تشكيل صورة قديمة بقيت في ذاكرتها عن وطنها الأم، أرادت أن تحمل زيتون فلسطين الذي عرفته طفلةً وتزرعه في أرض جديدة لكن ذلك الحلم خُطِف منها مرة أخرى وأُخذت منها الأرض كما سُلِبَ منها زيتون بيتها الأول.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

‎من يكتب تاريخنا؟

من يسيطر على ماضيه، هو الذي يقود الحاضر ويشكّل المستقبل. لبرهةٍ زمنيّة تمتد كتثاؤبٍ طويل، لم نكن نكتب تاريخنا بأيدينا، بل تمّت كتابته على يد من تغلّب علينا. تاريخٌ مُشوّه، حيك على قياس الحكّام والسّلطة.

وهنا يأتي دور رصيف22، لعكس الضرر الجسيم الذي أُلحق بثقافاتنا وذاكرتنا الجماعية، واسترجاع حقّنا المشروع في كتابة مستقبلنا ومستقبل منطقتنا العربية جمعاء.

Website by WhiteBeard