خلال زيارتي لفلسطين، وبعد أن اتخذت رام الله مركزاً ومقاماً مؤقتاً، ورحت صوب طولكرم، وهبطت نحو أريحا، ثم صعدتُ جبال نابلس، وتوجهت إلى الخليل، قادتني فطرتي إلى القدس، وطوّفت فيها ليلةً كانت حلماً حقيقياً، ها أنذا أستيقظ في العاصمة.
صباح اليوم التالي قفزتُ إلى الشارع. كانت خطواتي أكثر متانة من أي وقت مضى. لا أعرف ما الذي أورثها هذا الثباتَ بعد يومين مرهقين. يبدو أن الجسد البشري مصمّم ليشتدّ مع التعب، مع الكد والمشي والتأمل والتفكر، ومع الحنين أيضا.
أو يبدو أن في أرض القدس شيئاً يعلق في الخطوة، فيجعلها أوسعَ وأشدّ وطأة. كنت أتمايل من شدّة النعاس، أو ربما هو الطرب الذي يخدر الجسد فيمنحنا أجنحةً لنطير.
قلتُ لنفسي إن البلاد بلادي، سأمشي في القدس كواحدٍ من أبنائها، لن أسأل أحداً عن أيّ عنوان أو معلم، سأذوب في الهواء، أتوزع بين ذراته، فيدلّني على هواي، فليس عبثاً تشابه الكلمتين؛ الهواء للتنفس، والهوى للقلب، ولا حياة بلا تنفس وقلب.
قلتُ لنفسي إن البلاد بلادي، سأمشي في القدس كواحد من أبنائها، لن أسأل أحداً عن أيّ عنوان أو معلم، سأذوب في الهواء، أتوزع بين ذراته، فيدلّني على هواي، فليس عبثاً تشابه الكلمتين؛ الهواء للتنفس، والهوى للقلب، ولا حياة بلا تنفس وقلب
صرت أتتبع اللافتات، وإذا بي في المصرارة. ردهة قرب "باب العامود"، أشبه بمجمع للمطاعم الشعبية ومحالّ العصائر الطبيعية، وصالونات الحلاقة ومحالّ التموين. دخلت أحد الصالونات، بغية تصفيف شعري. ليس الأمر حرصاً مبالغاً فيه على الأناقة، إنما لأن حقيبتي في رام الله، وفيها كلّ شيء حتى المشط. كما أن وخزاً من الغيب قال لي لو أن شعرة واحدة وقعت منك هنا، ستظل في البلاد إلى أبد الآبدين، فللشعرة خصوصية تغري هوية الـDNA للسكنى فيها على رقتها.
اعتذرت من أصدقاء طيبين كثر، كنتُ أنوي لقاءهم في الصباح، لأن التحدي صار كبيراً. صار علي أن أدمغ صورةَ القدس في رأسي خلال ساعة واحدة أو اثنتين، قبل أن يصل البكري لنمشي إلى يافا. يبدو الأمر مضحكاً، فلم أرَ يافا منذ 66 عاماً رغم أنني في الثلاثين من عمري.
اتصل بي البكري. -أين أنت؟
- في المصرارة.
- دقائق وأكون هناك. أنا الآن بباب الفندق الذي تسكن فيه.
كنيسة الجثمانية والمجدلية في القدس
تذكرت هنا كلَّ تأويلات مريد البرغوثي التي فاضت حول كلمة فندق، في كتابه "رأيت رام الله". الحياة المؤقتة لا تعني حياةً ولا موتاً.
قلت: سآتيك أنا، تلافياً لأزمة السير والخطى التي تغرق فيها المصرارة.
- حسناً، في انتظارك.
وصلت منطقة الفندق، وإذا بطارق يهزُّ رأسه ضاحكاً: "شو يا ابن القدس؟ صرت تعرف مناطق الأزمات كمان؟".
دارت المدينة حول رأسي فجأةً، وغامت الصور كلُّها لتصبح صورة واحدة: صورتي واقفاً أمام قبّة الذهب. لو كنتُ أحضرت بيجامة معي، لارتديتُها وسرتُ بها هنا، في عاصمتي. ثمة أمور لا يعرفها في المدن سوى السيّاح؛ الفنادق مثلاً. نحن لن نسأل سكان مدينة عن أفضل فندق، لأنهم لا يسكنون الفنادق بل بيوتَهم، لكننا نسأل عن بؤر الازدحام والأزمات، لأنهم يغرقون فيها يومياً.
ثمة أمور لا يعرفها في المدن سوى السيّاح؛ الفنادق مثلاً. نحن لن نسأل سكان مدينة عن أفضل فندق، لأنهم لا يسكنون الفنادق بل بيوتهم، لكننا نسأل عن بؤر الازدحام والأزمات، لأنهم يغرقون فيها يومياً
في كلّ مرة أظلم طارق، وأقول إنه لا يدرك ما أنا فيه، ولكن الحقيقة أن هذا الفتى المجنون والمعجون من نحاس التحدي وطين البقاء يدرك ويحسّ كلَّ شيء، فقد شدّني من كتفي مستعجلاً، ربما اختصاراً لموقف الدمعة، وشاغلني عن البكاء بقصة الصوَر، التي يريد تثبيتها على القبور.
تفاصيل صغيرة شاركني إياها جعلتْني أتغلغل في المدينة أكثر. أخذني إلى مكتبة شعبية، طبع فيها صوراً لشهداء قدامى. سلم على أناسٍ كُثر، وعرفني بهم. ولا أعرف كيف ألِفتُهم على نحو سريع ومرن. مرّ بي قرب مدرسته، ورأينا طلاباً يخرجون منها ويسيرون نحو بيوتهم. هذه ليست أسراراً، ولكننا لا نعرضها على السيّاح؛ نعرضها فقط على أصحاب البيت.
مضينا إلى يافا ولم أفصح لطارق بشيء. كذلك لم أرسل له دمعتي التي سقطت في عمّان حين رأيت صورته في الصحف وهو يحرسُ القبورَ والصورَ؛ صورته التي أخذتها أنا في لحظةِ إغماءٍ تامّ مثل فاصلةٍ وقعت في النَّص فجأة
في طريق القدس نحو يافا، أخبرني أنه يريد أن يمرّ باللطرون، ليضع صوراً لشهداء أردنيين قضوا هناك على قبورهم. كان الأمر ليبدو غريباً، لولا أنه سرد لي القصة. القصة أن طارق اكتَشَفَ مؤخراً قبوراً لجنود كان الجيش الأردني وضعهم على قوائم المفقودين بعد حرب النكسة عام 1967، وظل أهاليهم يفكرون في مصائر غامضة لهم.
لا بد أن أرواحهم كانت تهوم في الفضاء وتبحث عن الأجساد، قبل أن يُعمل طارق إزميله الصغير في ركن من أركان الحديقة الكندية، ويحفر حول تلة مثيرة للشكوك. كان يحفر بقلق بالغ أن يقبض عليه إسرائيلي فيلبسه تهمةً تودي به إلى السراديب للأبد. لكنه نجح في آخر الأمر، في كشف قبور لها شواهد خبأ الرملُ كتابتها، بمسمار حفر حول الحروف، وبجدّ حفر الطريق إلى أهاليهم، وتحقق من تلك الأسماء.
مررنا باللطرون حيث الحديقة، ودلفنا بخطى متيقظة إلى تلته السرية. وضعنا الصور على القبور، كأننا نعيد الأرواح إلى أجسادها الضائعة. وإذا به يناولني الكاميرا لأصوّره مع قبوره التي بقلق أمٍّ كان يتفقدها واحداً واحداً. ولم يدرك طارق ارتباكي في تلك اللحظة التاريخية. ليس أمراً عادياً أن أحمل بيديَّ الواهنتين كاميرا طالما حَمَلَت فلسطين حارةً حارةً، و شارعاً شارعاً. ليس أمراً هيّناً أن أصوّر المقاتل في جبهته وأنا لا أعرف زرَّ الكاميرا. مضينا إلى يافا ولم أفصح لطارق بشيء. كذلك لم أرسل له دمعتي التي سقطت في عمّان حين رأيت صورته في الصحف وهو يحرسُ القبورَ والصورَ؛ صورته التي أخذتها أنا في لحظةِ إغماءٍ تامّ مثل فاصلةٍ وقعت في النَّص فجأة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...