شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
اليسار الفلسطيني والإسلام السياسي… الطفل الذي مات قبل أن يولد

اليسار الفلسطيني والإسلام السياسي… الطفل الذي مات قبل أن يولد

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الخميس 18 أغسطس 202209:47 ص

لطالما كانت الحركة اليسارية الفلسطينية في حالة من الصراع الدائم ما بين اتّخاذ العقد الثوري للاشتراكية، وتطبيق المبدأ الاشتراكي الماركسي في فلسطين، وربما كانت هذه من أبرز أسباب ذلك الانفصال في "الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين" بين البراغماتية الفكرية والتأصيلية الرامية إلى تطبيق الفكرة الماركسية في المجتمع الفلسطيني، ما أسفر عن ظهور "الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين"، التي نادت بالماركسية الصريحة وما زالت، إذ أدركت الجبهة الشعبية استحالة حدوثه في ظل "شعب فلسطيني متديّن" كثقافة مجتمعية.

ومع تراجع الدور الفكري والنضالي والسياسي الذي كانت تلعبه الحركة اليسارية في فلسطين بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، بدأت بعض الحركات اليسارية الفلسطينية تأخذ شكلاً ثورياً ونضالياً أقرب ما يكون للفكر الفلسطيني الشعبي العام، إذ بدأت حركات مثل "حزب الشعب الفلسطيني" تنسلخ شيئاً فشيئاً عن الجوهرية الشيوعية في ممارساتها الحزبية الفاعلة داخل المجتمع الفلسطيني، خاصةً وأن المجتمع الفلسطيني كان منذ البداية ينظر إلى الأحزاب الشيوعية نظرة الإعجاب والخوف في آنٍ واحد. الإعجاب بهذه الثورية الصاخبة، والخوف من أنها لا تتسق مع "العقيدة الدينية"، ولقد كان هذا هو الدافع للوعي الجمعي الفلسطيني لأن يأمل بإعادة تشكيل الحركة اليسارية، وتكييفها على قياس المعايير المرضية للشعب الفلسطيني.

الوعي الجمعي الفلسطيني تجاه الحركة اليسارية في فلسطين

إن حاجة الفلسطيني إلى الحركة الثورية النضالية الصارخة تشكلت بصورة واضحة بعد أن تيقن الفلسطيني أن حلم العودة إلى البلاد بات أمراً بعيداً، بعد التهجير والنكبة عام 1948 وما تلاهما من تحركات مناضلة ضد الاحتلال، كان أبرزها الحرب العربية الإسرائيلية الأولى، التي انتهت بحالة من الركود وعدم تحقيق أي منجز لصالح الفلسطينيين، ثم الاستقرار في مخيمات اللجوء في الضفة الغربية وقطاع غزة، والشتات.

لم تلبث حالة الركود تلك حتى تحولت إلى غضب شعبي عارم، تجلى في الانتفاضتين الأولى والثانية، ولقد كان للحركة اليسارية في فلسطين، وحركات منظمة التحرير الفلسطينية الأخرى الدور الأبرز في إشعال تلك الانتفاضات، أما الحركات الإسلامية فانحصر دورها في الترويج للأفكار الإسلامية التي تدور في مجملها حول "الإسلام هو الخلاص الوحيد"، ولم يكن لها أي دور نضالي فاعل باستثناء بعض الأعمال النضالية الفردية التي كان يقوم بها أشخاص من خلفيات إسلامية.

إن حاجة الفلسطيني إلى الحركة الثورية النضالية الصارخة تشكلت بصورة واضحة بعد أن تيقن الفلسطيني أن حلم العودة إلى البلاد بات أمراً بعيداً، بعد التهجير والنكبة عام 1948 وما تلاهما من تحركات مناضلة ضد الاحتلال

لقد برز دور الحركات اليسارية في الانتفاضة الفلسطيني الأولى 1987، والثانية 2000، ما أكسب تلك الحركات مستوى عالياً من الثقة في نفوس الفلسطينيين، بل إن نظرة الفلسطيني بدأت تختلف، وأصبح يميل إلى الفكر الشيوعي بشكل واضح، مع بقاء ذلك الشعور بالغرابة والخوف، لأن الحركات اليسارية حركات لادينية، تؤمن بالمادية، وهنا وقع الفلسطيني في الحيرة التي ما زلنا نلامس حتى اليوم آثارها التي تتلخص في تساؤل: كيف أنتمي إلى حركة لادينية في مجتمع متدين؟ هذا التساؤل الذي دفع الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين لتكون أكثر واقعية من التيارات الفكرية اليسارية الأخرى، ولتنخرط في المجتمع الفلسطيني حاملةً شعاراً ضمنياً ينطوي على اتخاذ الشيوعية منهجاً ثورياً، لا منهجاً عقائدياً، ومن هنا حازت الجبهة الشعبية على التفاف شعبي واسع على غرار الحركات اليسارية الأخرى، التي أصرت على مواقفها الشيوعية الماركسية.

الإسلام السياسي في المنطقة وتداخلاته مع الحالة الفلسطينية

في واقع الأمر، إن الإسلام السياسي ليس مفهوماً مستحدثاً، أو حالة معاصرة، فهو تعبير صريح عن امتزاج الديانة الإسلامية بالواقع السياسي في المناطق التي يشكل سكانها أغلبية مسلمة، وبالتالي، يمكن القول بأن الإسلام السياسي هو تعبير الأيديولوجيا الإسلامية عن موقفها تجاه القضايا السياسية، ذلك الموقف الذي تصنعه الحركات الإسلامية، أو تبنيه الوقائع على صعيد الوعي الإسلامي الجمعي للشعوب.

وعند الحديث عن تداخل الإسلام السياسي مع الحالة الفلسطينية، لا بدّ أن الحاضر الأول لتبني ذلك التداخل، هو الحركات الإسلامية الفلسطينية، التي صارت تُعد من أهم مكونات الإسلام السياسي في المنطقة العربية، نتيجةً لقربها من الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي، الذي يُعد القضية الأبرز عند الحديث عن "القضايا السياسية الدينية".

وإذ يعبر حزب الليكود الإسرائيلي عن التوجه الصهيوني اليميني الأبرز في إسرائيل، فما سعى إليه الإسلام السياسي في المنطقة هو تشكيل يمين إسلامي مقابل لذلك اليمين الاسرائيلي، بحيث تكون الحركات الإسلامية الفلسطينية أدوات ذلك اليمين الإسلامي، وصولاً إلى حالة مقارعة فارغة بين يمين أسياد ويمين عبيد، ما يضمن الحفاظ على اشتعال المنطقة وبقاء الصراع في أوجه، كورقة ضاغطة تتبادلها القوى العظمى وفقاً للمصلحة والحدث.

الإسلام السياسي كمنهج مقابل الحركة اليسارية الفلسطينية

مما لاشك فيه أن مجرد التفكير في الإسلام السياسي والحركة اليسارية ومحاولة إيجاد أوجه صلة بين الفكرتين، هو أمرٌ مستحيل، أو هكذا يبدو الأمر من الزاوية المنطقية، حيث يتبنى منهج الإسلام السياسي المنهج الإسلامي المباشر في النظر إلى كافة القضايا، حتى وإن ظهر الإسلام السياسي متمثلاً ببعض شخصياته في صورة الإنسان المدني المعاصر، فهذا لا ينفي رسوخ الفكرة الإسلامية التقليدية في خلفية تلك الصورة المدنية المعاصرة، تلك الفكرة البعيدة كل البعد عن التقدمية الليبرالية، والانفتاح، والتقبل، ودعم الحريات، والجمود في النظر إلى جميع القضايا، حيث أن العين الإسلامية هي واحدة، حتى وإن تعددت الوجوه.

في المقابل، تأتي الحركة اليسارية الفلسطينية، بحالتها الثورية المعارضة، والتمردية، والداعية إلى التقدمية، حتى وإن صُبغت بالحالة الشعبية، إلا أنها تبقى حركة يسارية، بمعنى المعارضة والتقدمية والدعوة إلى التمرد على الرجعية، فكيف يمكن صياغة تقابل فكري بين حركة تقليدية دينية، وحركة يسارية شعبية تقدمية؟

بداية التقارب بين الحركة اليسارية في فلسطين والإسلام السياسي

ليس خافياً ركود الحركات اليسارية في فلسطين، بعد سنوات من الصراعات والنزاعات اليسارية الداخلية في ظل عدم وجود مرجعية شيوعية-اشتراكية عالمية واضحة، والصراعات الأخرى حول تشكيل مفهوم وظيفي للوجود اليساري، حيث أن الدور النضالي للحركات اليسارية بات محصوراً في مفهوم المقاومة، أما الدور المعارض فلا يمكن ممارسته في ظل عدم وجود أي نظام حكم برلماني حقيقي، ولذا كانت نجاة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين من هذا المأزق الذي وقعت فيه الحركات اليسارية التأصيلية، حيث الجبهة الشعبية كانت دائمة الالتصاق بالشارع والفكر الجمعي الواقعي، حتى وإن قدمت بعض التنازلات على حساب قاعدتها الشيوعية.

لطالما كان التلاقي بين الحركة اليسارية والحركات الإسلامية في فلسطين يتمحور في جوهره حول الفهم الموحد لمقاومة الاحتلال الإسرائيلي، ويظهر ذلك في قطاع غزة بشكل أوضح، حيث تحجز الجبهة الشعبية حيزاً مهماً في غرفة العمليات المشتركة للمقاومة الفلسطينية التي تترأسها كتائب القسام التابعة لحركة حماس الإسلامية.

هذا ما انعكس على الحالة اليسارية في الضفة الغربية، والداخل الفلسطيني 48، حيث ظهرت العديد من العبارات الوحدويّة مثل "شركاء في الوطن، شركاء في السلاح"، وأيضاً ما صرّح به القيادي في الجبهة الشعبية ماهر حرب:" نسعى لتشكيل جبهة عريضة تؤمن بمشروع المقاومة، وهنا كان الالتقاء مع حماس".

أما اللافت في هذا التقارب بين الطرفين الإسلامي واليساري، فهو حالة التغافل عن الأصل الفكري لكلا الطرفين، حيث إذا ما اتفق الطرفان على وجود مصلحة مشتركة وهم وطني - سياسي مشترك، وقرراً التحالف، فما هي الآلية التي ستحل بها المعضلة الأيدولوجية؟ فإما أن تصهر الحركات اليسارية نفسها في المد الإسلام سياسي، أو أن تتخذ موقفاً آخر يحمي وجودها الفكري كحركات شيوعية، ويؤكد أنها مكون أساسي للحالة الفلسطينية، دون الانسياب مع ذلك الاندماج الذي إما سيلغي شيوعيتها، أو سيخلق تياراً يسارياً إسلامياً بداخل تلك الحركات اليسارية.

أسباب التجاذب بين حركات الإسلام السياسي والحالة اليسارية في فلسطين

إن القول بالوحدة الوطنية المجتزئة هو حالة جديدة من التمزق السياسي والاجتماعي، فلا يمكن تجاوز حقيقة أن الدافع الجوهري لذلك التجاذب، أو ما يشبه التحالف، بين اليسار الفلسطيني والإسلام السياسي، هو الرغبة المشتركة بين الطرفين في تولي زمام الأمور، مع إقصاء السلطة الفلسطينية من المشهد العام، فكيف يمكن أن يقوم تحالف وطني على أساس تمزيق الجبهة الوطنية الداخلية، عوضاً عن محاولة احتواء جميع الجهات الفلسطينية تحت سقف برلماني واحد، ذلك بعد التنازل عن المصالح الحزبية، والثارات الشخصية، من أجل فكرة الوطن والتحرر.

ويجدر بالذكر أن البداية الحقيقية للتجاذب بين الحركات الإسلامية واليسارية كان منذ رفض كلا الطرفين لاتفاقية أوسلو 1993، مع التأقلم مع ما بعد أوسلو، بل والاستفادة من الحالة التي أنتجتها أوسلو، هذا، وغيره من الأحداث عبر سنوات من المد والجزر بين الطرفين، وفي ظل ضغط الإسلام السياسي باتجاه معارضة السلطة الفلسطينية، وجدت الحركات اليسارية نفسها على مفترق طرق مصيري، بين الإبقاء على وجودها كحركات شيوعية داخل السلطة الفلسطينية، أو الالتحاق بالمعارضة الإسلامية، والتسليم بفكر الإسلام السياسي، أملاً في تشكيل حكومة فلسطينية موحدة جديدة، تتبنى تطلعات الإسلام السياسي في بسط السيطرة على منطقة الصراع مع إسرائيل، مع إنهاء الحالة اليسارية في أروقة تلك الحركات الشيوعية.

لا شك أن هذه الحالة اليسارية المعاصرة تخلت عن وصفها تقدمية، واقترنت بالرجعية باقترانها بالإسلاميين، فليس ثمّة دولة تُبنى على أساس الوقوف على أطلال الخلافة الإسلامية، حتى وإن اختلفت الأدوات والآراء، فالإسلام الزمني الحالي كحالة سياسية لم ينفك يؤكد على كونه إسلاماً ينطوي على الكثير من الجمود والتمحور حول الذات، فإن الحركات اليسارية لن تقوى على إثبات نفسها كحركات يسارية داخل جسد إسلامي، فإما أن تنكر شيوعيتها، أو أن تعلن إسلاميتها، أما ذلك الدمج الخيالي بين الماركسية والعقيدة الإسلامية، فلا يحدث إلا في اجتماعات الإسلام السياسي الفارغة من المعنى، والرامية إلى الوصول إلى السلطة بأي شكل، حتى وإن تم التحالف مع اليسار دون التفكير فيما ستؤول إليه أمور اليسار بعد نجاح ذلك التحالف في تحقيق مآربه، أو فشله.

هل تختار اليسارية وصفها بالتطرف الرجعي أم العودة إلى الليبرالية التقدمية؟

من الأفكار الفلسفية التي تستند إليها موجات التحالف بين التيارات الفكرية المتباينة، نمذجة الآخر، وقياس فكرته الكلية، وحساب توافق الهدف الكلي، ثم اتخاذ قرار بالتحالف أو الرمادية.

ولكن من زاوية أخرى، وفي حالة معقدة، كالحالة الفلسطينية لا سيما مع وجود احتلال اسرائيلي يراقب عن كثب، فإن المبادئ والأفكار التي قد تبدو مثالية بالنسبة لجماعة ما، هي ذاتها تبدو كمصيبة وكارثة بالنسبة لجماعة أخرى، وهذا هو الواقع عند النظر في الحالة اليسارية، والحالة الإسلامية، حيث يدور الحديث عن جبهة لا تؤمن إلا بالمادة والبراغماتية العملية، وطرف آخر يؤمن بالروحانية، التي يستمد منها شرعية سعيه إلى بسط نفوذه، وسيادته على المناطق التي يجد نفسه فيها، فبينما تتعارض الفكرة الإنشائية للدولة الشيوعية مع الفكرة الإسلامية عن الدولة، يحدث أن نرى تقارباً بين حزبين اشتراكي وإسلامي!

لا شك أن هذه الحالة اليسارية المعاصرة تخلت عن وصفها تقدمية، واقترنت بالرجعية باقترانها بالإسلاميين، فليس ثمّة دولة تُبنى على أساس الوقوف على أطلال الخلافة الإسلامية، حتى وإن اختلفت الأدوات والآراء

لا يمكن فهم هذا التقارب إلا من خلال منظورين، أولهما أن الحركات اليسارية استحالت لا تدرك جوهر كونها شيوعية - اشتراكية، أو أن الإسلام السياسي قد انحل من وصفه تياراً دينياً، حيث هو مستعد للتحالف مع أي جهة مقابل الحصول على السلطة والنفوذ، ثم ليقدم نفسه على طبقٍ من ذهب للدول العظمى كأداة متعددة الاستخدامات السياسية.

أما المنظور الأول، فيعني أننا بصدد الاصطدام مع حركات يسارية جوفاء لا تمتلك من الشيوعية غير المسمى، إذ ستكون حركات يسارية رجعية آخر همها الإمبريالية العالمية إلى أين تتجه. فقط تتبع الأكثر قوة، وحتماً ستصاب بحمى العنصرية عند الاحتكاك بمنظور الحركات الإسلامية، وشيئاً فشيئاً سيحدث ذلك المزج بين مكونات الرجعية اليسارية، والرجعية الإسلامية، للخروج بمنظومة سياسية ولدت ميتة، لا يمكنها النظر إلى المستقبل بعيون منطقية، ولا يمكنها التخطيط من أجل دولة فلسطينية ذات معالم واضحة.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image