"أنا إيمان يوسف أحمد عودة، 22 سنةً، ممثلة وعندي طموح، وطول عمري بحلم وبسعى لأحقق أحلامي، وبكون مبسوطة لما أحقق جزء بسيط منها. لو نجوت من الحرب رح أكمل حلمي، ولو ما نجيت بتمنى إني ما أكون رقم. ولو استـشهدت، أنا هكون متت مظلومة وفي نفسي حاجات كثيرة لسا ما حققتها. متت وأنا نفسي في الحياة"،
تقول إيمان في منشورها على فيسبوك، وتضيف: "19 ألف ضحيةً عدد كبير صح! تذكروا أن هذا العدد عبارة عن أشخاص وعائلات مُسحوا من السجل المدني في شهرين فقط! تذكروا أنهم ليسوا أرقاماً".
تدفع هذه الكلمات التي تقولها المواطنة الغزيّة إلى مراجعة تصّورات كثر من الناس (خاصةً عند العرب)، حيال الإنسان الفلسطيني عامةً والمواطنين الغزيّين خاصةً، من أنهم وُلدوا للشهادة وأنهم يعيشون ليموتوا (أو ليستشهدوا)؟ هذا هو خطهم، وهذا هو هدفهم وغايتهم الأولى والأخيرة من الحياة، الموت (الشهادة).
في هذا السياق، يتساءل الكاتب الفلسطيني الغزيّ أحمد مصطفى: "هل كانت الفصائل المسلّحة -المدعومة إيرانيّاً- غافلةً عن التنبؤ بكل هذه العواقب الواقعة علينا كمدنيين؟ أم أنها كانت تعتقد أنّ الوحش الإسرائيلي سيشبع من دمائنا سريعاً؟ أم كانت تعي ذلك وتركتنا لنلقى موتنا وصدّرت مسؤوليّة أرواحنا إلى الأمم المتحدة كما صرّح القيادي أبو مرزوق؟".
ويستغرب مصطفى على صفحته على فيسبوك، انهيار منظومة الماء والدواء والكهرباء والصرف الصحي منذ الأسبوع الأول للعدوان على غزة، في حين يبدو أنّ حماس وقادتها قد جهّزوا أنفاقهم ومستودعاتهم لحرب طويلة الأمد، ويطالب بأن تسلم الفصائل جميع الأسرى مقابل وقف إطلاق النار وانسحاب إسرائيل من القطاع. ويضيف: "أما إن رأى المستريحون في الخارج أنّ في هكذا خطوة استسلاماً ناعماً مرفوضاً؛ فأرجو أن يعلم القاصي والدّاني بأنّ حقن دماء النّاس أغلى من نشوتهم التي يشعرون بها عند متابعة إصدارات عسكريّة مرئيّة لا تُطعم خبزاً ولا تُعيد لنازح كرامةً، وإن لم تكن الدّماء أغلى في مفهومهم، فهِي أقدس عندي من الأسرى والمسرى ومن أيديولوجيّاتهم وما يعتقدون وكلّ ما يؤمنون به".
هل أرقام الدبابات أهمّ من أرقام الشهداء؟
قامت القوات الإسرائيلية في 31 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، بارتكاب مجزرة مهولة في مخيم جباليا في قطاع غزة، أسفرت عن مقتل وجرح أكثر من 400 شخص، معظمهم من الأطفال والنساء. وأوضح المتحدث باسم وزارة الداخلية الفلسطينية أن "العدوّ الإسرائيلي قد دمّر البلوك رقم 6 بشكل كامل".
وعلى وقع مجزرة جباليا المروّعة،كتب الكاتب الفلسطيني عبد الغني سلامة على صفحته على فيسبوك، عن المقاتل الذي جاءه في وقتٍ "بين النوم واليقظة"، ليعطيه عبوةً ناسفةً، ويطلب منه زرعها في قلب دبابةٍ. وقبل أن يغادر غرفته، لمح على المنضدة "قنينة ماء، وعلبة حليب، ودفتر رسم مع مجموعة أقلام ملونة، ودميةً لطيفةً لدبٍّ بنّي"، فترك العبوة الناسفة وأخذ كل تلك الأغراض وذهب -مستغلاً التسهيلات التي قدّمها له المحارب المجهول- إلى مخيم جباليا في غزة على الفور: "وضع جبيرةً على ساق طفل مكسورة، وقدّم علبة الحليب لأمٍ تحمل رضيعها وتتحايل عليه كي يصبر على جوعه، ثم أيقظ طفلةً كانت ترتجف من البرد، وأعطاها دفتر الرسم وأخذ يبادلها الضحكات ويرسم معها"، إلى أن انتهت الساعة التي خصصها له، فأخذ المحارب العظيم يصرخ به شاتماً بأعلى صوته: "جبان، متخاذل، مرجف، غبي".وسرعان ما خفت صوته في وجه أصوات "دعوات الأم (واسمها فاطمة)، وضحكات الطفلة (واسمها إيمان)، وابتسامة أسامة تملأ فضاء الغرفة".
"أنا إيمان يوسف أحمد عودة، 22 سنةً، ممثلة وعندي طموح، وطول عمري بحلم وبسعى لأحقق أحلامي، وبكون مبسوطة لما أحقق جزء بسيط منها. لو نجوت من الحرب رح أكمل حلمي، ولو ما نجيت بتمنى إني ما أكون رقم. ولو استـشهدت، أنا هكون متت مظلومة وفي نفسي حاجات كثيرة لسا ما حققتها"
في مؤتمر صحافي، يظهر إسماعيل هنية مُبتسماً، وهو يؤمّ مجموعةً من "قياديي" حماس بحبورٍ واضح في ركعة شكرٍ على النصر الإلهي المؤزّر بعد أن أشار بيده إلى شاشةٍ تعرض استهدافات قامت بها المقاومة الفلسطينية.
وتعلن كتائب القسام، الجناح العسكري لحركة حماس، بشكل شبه يومي،عن تدمير آليات عسكريةً كلياً أو جزئياً في محاور القتال بين مدن غزة التي تتعرض للعدوان ولاقتحامات القوّات الإسرائيلية وتنشر فيديوهات لما تقوم به من عمليات ضد الجنود الإسرائيليين.
تقول الصحافية شيلان شيخ موسى، لرصيف22: "لا يتم التعامل مع الأفراد بصفتهم الشخصية، إنما على ضوء وجودهم الجماعي ضمن جماعة اجتماعية أو تاريخية تابعة لصفة سياسية أو قومية أو أيدولوجية، وتالياً يتعين على هؤلاء الاصطفاف دائماً من أجل التحرير والانتصار والدفاع عن كياناتهم والأفكار المقدسة، الأمر الذي جرى مع قوى عديدة مثل تحويل قضية فلسطين إلى معركة الأمة الإسلامية للدفاع عن المقدسات أو مع سوريا وموقف إيران التي تدافع عن العتبات المقدسة".
يستغرب مصطفى الذي يعيش في غزة على صفحته على فيسبوك، انهيار منظومة الماء والدواء والكهرباء والصرف الصحي منذ الأسبوع الأول للعدوان على غزة.
في المقابل، يقول جمال سلامة (39 عاماً)، وهو صحافيّ سوري فلسطيني، يعيش في الداخل السوريّ، باسمه المستعار، لرصيف22: "لا أرى أنه من المنطقيّ تحميل حماس مسؤولية العدوان على غزة، وأرى أنّ غياب العدالة لهذه القضية وغياب الدولة الفلسطينية وعدم إعطاء الفلسطينية حقوقهم، هي ما ولدت عملية المواجهة التي تحدث. وهي ما يدفع الفلسطينيين باتجاه استخدام العنف".
ويتابع: "لكن إذا عاد الزمن بحركة حماس إلى 7 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، فلن تفعل ما فعلته لأسباب عديدة، أولاً لأنها عندما دخلت لم تكن تتوقع -كما هو منطقي- أن تدخل بكل هذه السهولة واجتياز الحدود لتجد جنوداً نائمين وتركيزهم متراجع، وأنّ عملية الاستنفار على الجبهات ليست على أكمل وجه، وتالياً عندما دخل عناصر الفصائل الفلسطينية لم يلقوا مواجهةً حقيقيةً، فتصرفوا بإطلاق النار بعشوائية لتحقيق أكبر عدد من الإصابات على أساس الكم وليس النوع، وهذا -بتقديري الشخصيّ- لم يكن متفقاً عليه بين العناصر والقيادات".
في حضرة "الأرقام": إياكم والكلام عن انتصارات
"الخصال التي تمجّد الموت في الثقافة أو الثقافات العربية موجودة، وكثيراً ما تكون بارزةً وفاقعة الظهور في الخطابات الدينية والشعارات الوطنية والأغاني الحماسية وغير ذلك. والملاحظات حول هذا الموضوع هي بلا شكّ صحيحة، ويمكن التعمّق في دراسة أشكال هذه الظاهرة الثقافية والأخلاقية ومسبباتها بطرائق شتّى يمكن أن تنتج ثقافةً بحثيةً غنيّةً"، يقول فادي أبو ديب، وهو كاتب وشاعر ومتخصص في الفلسفة الدينية لرصيف22.
ويتابع: "ولكن من الصحيح أيضاً أنّ هذا المزاج الجمعيّ يمكن أن يُنظَر إليه من زاوية كونه وسيلةً دفاعيةً تلقائيةً لأشخاص وأوساط اجتماعية تعاني من مشكلات حياتية عميقة وطويلة الأمد أو معرّضة لاضطهاد شديد أو فشل مستديم أو مظالم متراكمة لا يمكن معالجتها بطريقة بسيطة. ولذلك فالشعارات التي تمجّد الموت من أجل الوطن هي من حيث المبدأ وعبر الأزمنة ليست مقتصرةً على المجتمعات العربية. وكثيراً ما يكون الزهد في الأشياء، وحتى في الحياة نفسها، الطريقة الوحيدة التي تجعل الإنسان يتخلص من القلق المفرط حول تفاصيل هذه الحياة التي تعقّدت خيوطها وانسدّت دروبها المضيئة، ولسان حاله يقول: 'أسوأ ما يمكن أن يحدث لي هو الموت، فليمت الخوف من كل ما عداه!'".
ورداً على هنية وقيادات حماس، ترفض المواطنة الغزية إيمان عودة، إعلان أي انتصار، وتحذر من التبجح بالصمود على جثث الشهداء الفلسطينيين: "إياكم والكلام عن انتصارات أو صمود، هتافاتكم والشعارات الرنانة احتفظوا بها لأنفسكم، نحن نُمحى من سجلات الحياة برغم أننا نحفظ غيباً الكثير من الأشعار والأغاني الوطنية".
قبل أن ينظر إلينا العدوّ والحكّام على أننا أرقام يستخدمها تارةً للدفاع عن مصالحة، وكورقة ضغطٍ على المُجتمع الدولي تارةً أخرى، ألا تكرّس ثقافتنا الجمعية النظر إلى أنفسنا بوصفها أرقاماً وجماعات جاهزةً للانتحار الجماعيّ في سبيل أي قضيةٍ نُجيَّشُ ونُدجَّن لأجلها؟ هذا لا يعني أنّ القضية غير مُحقة أو غير عادلة، ولكننا في كثيرٍ من الحالات وجدنا أنفسنا مستغَلّين (بفتح الغين)، وضحايا لأصحاب المصالح والأيديولوجيات.
لا أفضل من جعل المجتمع يرى نفسه رقماً من الأغاني الوطنية والقومية، فهي مقفاةٌ وذات إيقاع جميل يحفر في الذاكرة الأفكار والمفردات بسهولةٍ تامة: "بالأحمر كفّناه، بالأخضر كفّناه"، وقد تحتوي على إشارة صريحة لرقمٍ معيّن: "وين الملايين؟"،و"عالأقصىرايحين شهداء بالملايين".
وعن أسباب نظرة المجتمعات العربية إلى نفسها كأرقام، يقول مدير البرنامج السوري في مرصد الشبكات السياسية والاقتصادية، الدكتور كرم شعار لرصيف22: "إنّ تركيزنا على قوتنا العددية، وأن لدينا مهما خسرنا من الأفراد، المزيد، هو محاولة لتعويض الفقر التقني، حيث أن وزن أي طرف على أرض المعركة يعتمد على عاملين رئيسين هما القدرة التقنية والكثرة العددية، لذا نعوّض نقص الكفاءة بالزيادة العددية".
أرقام في مراسيم الترفيع وحسابات البطاقة الذكية
لا يُمكن المرور على ذكر فلسطين دون الحديث عن سوريا، التي هي من أكثر البلدان تعاطفاً وتضامناً مع القضية الفلسطينية (على المستوى الشعبيّ على الأقل)، لكنها اليوم شريكة فلسطين وغزة في جراحها. مدنٌ تحوّلت إلى ركام وصودرت أملاك أهلها وقُصفت مشافيها وانعدمت أسباب الحياة فيها، ويتصدّر ذلك تحوّل سكانها إلى أرقامٍ في نشرات الأخبار وبيانات المنظمات الدولية، وأوراق ضغط في يد ميليشيات تسرق إرادة الناس.
وعليه، يقول هاني (55 عاماً)، وهو مهندسٌ مدنيّ ونازحٌ من ريف حلب، يعيشُ في دمشق مع أولاده في شقةٍ ضيقةٍ مُخالفة لكل شروط الحياة والهندسة كما يصفها: "عندما قرأتُ خبر وفاة الشقيقين السوريين في بئرٍ في السودان، بعد محاولة أحد الأخوين إنقاذ عاملٍ سودانيّ سقط فيها، ليلقى السوريّ حتفه اختناقاً، فداءً للعامل السوداني، ويلحق به الأخ الثاني 'الثالث على وجه الدقة'، ويموت أيضاً، تذكرتُ حقيقة الشعب السوريّ الذي لا يتعامل مع أي شخصٍ على أنه رقمٌ أو ناقص إنسانية. لقد نظروا إلى هذا العامل على أنه إنسانٌ لديه عائلة تنتظره على وجبة الغداء. نظروا إليه كما نظر هذان الأخوان إلى بعضهما، وتأكدت في نفسي أن ذلك الطيار ما كان ليقصف منزلي في الأتارب، لولا أنّ النظام قد أخبره بأنّ هذا بيتُ إرهابيين، ولو كان فيه أطفالٌ فهم مشروع إرهابيين سيكبرون ليقتلوك كما فعلوا في ريف الرقة واللاذقية وحمص وغيرها من تفجيرات استهدفت مدنيين. هذا النظام الذي يرى مؤيديه ومعارضيه أرقاماً، لا يبالي حتى بإحصائها".
وتقاطعاً مع كلام هاني، يروي منذر (35 عاماً)، وهو جنديٌّ سابق في الجيش السوريّ النظاميّ، أدى خدمته الإلزامية في محافظة درعا: "أدّيتُ خدمتي الإجبارية التي لم تكن برغبةٍ مني، ولا أستطيع الهروب منها بأي شكل، فالساحل ليس كالسويداء. المهمّ أنّ سنوات خدمتي الستة كانت سنوات عجافاً، فالطعام الذي يُقدمونه سيئ وقليل، ولا يمكن لشخصٍ عاديّ الاعتماد عليه، فما بالك بجنديّ يخوض المعارك؟ وكنت أسمع من الكثير من الشبّان الذين خدمتُ معهم عن ضباطٍ يُرسلون عناصرهم إلى مناطق خطرة ودون حماية (على دراجة نارية مثلاً)،بلا سببٍ وجيه. سمعنا لاحقاً أنّ زيادة عدد الشهداء عند الضابط تزيد من فرصه في 'الترفيع'، ويُنظر إليه على أنه 'يشتغل'. شباب سوريا وورودها هم أرقامٌ في مراسيم الترفيع".
هنا يُفصّل الدكتور راتب شعبو، الكاتب والمعتقل السياسيّ في حديثه إلى رصيف22: "النظر إلى أنفسنا كأرقام يمكن أن يعود إلى أمرين مختلفين، الأول سياسي ويدل على عدم اعتبار الفرد أمام جبروت الدولة، ولاسيما حين تكون الدولة ذات استقلال سلطوي عن المجتمع، أي ليست هناك آلية متفق عليها لتفويض السلطة أو عزلها. من هذه الزاوية يبدو أن الفرد أعزل ولا وسيلة لديه لحماية نفسه من هذا الغول الذي اسمه الدولة سوى المزيد من الانصياع للسلطات الحاكمة".
أمّا عن العامل الثقافي،فيقول شعبو: "يدل على أن الجماعة، العائلة الممتدة أو العشيرة أو الطائفة أو حتى الحزب، تعلو فوق الفرد. لكن في هذه العلاقة توجد مصلحة متبادلة، ذلك أن الفرد يحصل على حماية من الجماعة، والجماعة تحصل على القوة من التزام أفرادها. قد لا يجد الفرد من يحميه في وجه سلطة الدولة المستبدة سوى الجماعة. وغالباً ما تعمل السلطة المستبدة، باسم الحداثة، على تحطيم الجماعات الحامية أو على تحويلها إلى وسيلة ضبط في يدها".
ويضيف: "في ظل الثقافة الشرقية الجماعاتية، تقلّ قيمة الفرد، ولكن مقابل خدمات تقدّمها الجماعة. أما في ظل الأنظمة التسلطية،فتتضاءل قيمة الفرد دون أي تعويض مقابل، وهكذا يتحول الأفراد إلى مجرد أرقام للموت أو لحسابات البطاقة الذكية، كما هي حالة نظام الأسد في سورية".
بين حقن فيصل للدماء وأنفة العظمة
يدفعنا كل هذا للعودة إلى التاريخ قليلاً، لنحاول كشف جذور ما يحدث لنا، فهل كنا طوال الوقت أرقاماً يستخدمها الحاكم للدفاع عن كرسيّ أو الحفاظ على كبريائه وعناده وتمسكه بأوهام السلطة؟ أم أنّ هنالك لمحاتٍ مضيئةً نتمنى اليوم وجودها، علنا كنا نُقلل "الأرقام" التي نقرؤها بعد كل معركة أو انتصار؟
راتب شعبو: "في ظل الثقافة الشرقية الجماعاتية، تقلّ قيمة الفرد، ولكن مقابل خدمات تقدّمها الجماعة. أما في ظل الأنظمة التسلطية، فتتضاءل قيمة الفرد دون أي تعويض مقابل، وهكذا يتحول الأفراد إلى مجرد أرقام للموت أو لحسابات البطاقة الذكية، كما هي حالة نظام الأسد في سوريا".
من الجدير بالذكر أنه بعد تنفيذ الجنرال غورو لإنذاره الشهير واحتلاله دمشق، انسحب الملك فيصل مع رفاقه إلى درعا، بعد تهديد فرنسا بقصف المدن في حال عدم الاستسلام،مُفضّلاً تقبّل الهزيمة والهروب لقناعته بأنّ ذلك لا يعني سوى المزيد من الضحايا،فـ"في الليلة الظلماء يُفتقد البدر"، يقول سوريون، والتقى قادة العشائر الذين دعوه إلى بدء ثورةٍ جديدة ضد القوات الفرنسية، لكنه رفض، وفضّل حقن الدماء مرةً أُخرى وتجنيب البلاد والعباد ويلات معارك غير متكافئة مع الجيش الفرنسيّ.
على نقيض الملك فيصل، جمع الضابط في الجيش العثماني يوسف العظمة، ثلاثة آلاف شابّ (غير مُدرّبين على الحرب بغالبيتهم)، ليُلاقي الجيش الفرنسي في ميسلون، في معركةٍ كان يعلم العظمة أنها خاسرةٌ سلفاً وغير متكافئة، لكنها كانت تعبيراً عن مشاعر العزة والكبرياء برفض دخول القوات الفرنسية إلى دمشق دون قتال.
اختفى الحديث عن ثلاثة آلاف شابّ مع أهلهم وأطفالهم وأصدقائهم، وبرزت ميسلون في مناهج وزارة التربية والتعليم في سوريا كمثالٍ يُحتذى للتضحية والفداء دون أن تحقق تلك التضحية مستقبلاً أفضل، أو تغيّر مجرى المعركة أو تبعث الأمل في ذلك، بل استُغلت في التأكيد على أهمية الشهادة في سبيل الوطن، مع التشديد على أن الوطن هو القائد، والقائد هو الوطن.
وفي حادثةٍ أخرى تُذكّر بعدم اكتراثنا بالخسارة مهما كان حجمها ونوعها، ومحاولة التقليل من شأنها بشتى الطرق، فإنه بعد نحو سنة من هزيمة العرب في حرب 1967، أصدر صادق جلال العظم كتابه "النقد الذاتي بعد الهزيمة"، الهزيمة التي رفضها العرب "لغوياً" وأسموها "نكسة"،برغم ما انطوت عليها من خسائر فادحة في الأرواح والطائرات والدبابات والأراضي.
يحاول الكاتب في مؤلفه إقناع العرب بأنهم "هُزموا"، ويعدّه متابعون أوّل من وصفها بأنها هزيمة، لكنّ تسمية "النكسة" كانت بمثابة إخلاء المسؤولية وتبرؤاً من أي مساءلة، وترجمةً لحالة الإنكار الجماعي التي عاشتها الأنظمة العربية "التقدمية" والشخصية العربية الجَمعية، التي ابتلعت أي شخصية فردية تُريد إعلاء قيمة الإنسان بصفته الفردية أولاً، قبل تقديمه "بالجملة" على شكل قوافل من الشهداء وقرابين على مذبح الوطن والقضية.
يقول كرم شعار: "لعل أكثرالتجليات التاريخية للثقافة العددية وضوحاً هي الحرب العراقية الإيرانية 1980-1988، حيث كان العراق متفوقاً من الناحية التقنية على إيران (قبل أن تدعمها الولايات المتحدة في السرّ)، لذا لجأوا إلى تعويض هذا الفارق عبر إرسال أمواج بشرية (قوّات الباسيج)، وكان منهم أطفال يفجرون أنفسهم بالقوات العراقية. كانت العائلة تستيقظ صباحاً فتجد رسالةً على وسادة طفلها يُخبرهم فيها بأنه ذهب للجهاد ضد العراقيين. صحيح أنّ الكفاءة مُنخفضة، ولكن بسبب الكثرة العددية للانتحاريين كان لهم وزن في أرض المعركة".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ ساعتينرائع
مستخدم مجهول -
منذ 5 أيامربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحبيت اللغة.