كنتُ أسكن وحدي في شمال القطاع، أعمل منذ قدومي من تونس التي قضيت فيها 11 عاماً على تأسيس عملي الخاص في المجال المسرحي. أب أعزب عمره 44 عاماً، لابن رائع في الـ12 من عمره يقيم مع أمه.
علمت منذ البدء أن العملية ستكون طويلة، وأن النتائج لن تكون مسبوقة، لذلك حملت ما أستطيع حمله من منزلي يوم نزح الجميع إلى أواسط غزة من الشمال. توقع الآخرون أن العملية ستكون معتادة، وأن الرحيل سيكون قصيراً، فلم يأخذوا شيئاً يُذكر. لعلي الأكثر حظاً بينهم، لقد استطعت حمل أوراقي الرسمية وحاسوبي المتنقل، وعطر زوجتي السابقة، الذي أحمله معي منذ 12 عاماً. كنت أحاول ألا أترك خلفي شيئاً قد آسف عليه إن لم أعد، كنت أريد أن أحمل كل هويتي معي.
النزوح
نزحت أنا ومئة شخص آخرين إلى بناية مكونة من 4 طوابق فقط، ننام في أي مساحة يمكن وضع "فرشة" فيها... في غرف النوم، غرف الجلوس، الممرات، المطابخ، وأي مكان محاط بأربعة جدران، يستر حياتنا وموتنا.
إن كنتم تظنون أن أوامر الإخلاء هي أمر يسبق أي قصف، فذاك ليس صحيحاً. كثير من الأبنية لم تأتها أوامر إخلاء وقُصفت، وأخرى أتاها الأمر ولم تقصف. يبدو الأمر وكأنه عدوان نفسي بالأساس، وتهجير قسري بالتدريج نحو الجنوب. هل سيحشروننا جنوباً ويبيدوننا هناك؟
كيف تضعوننا في هذا الموقف الرهيب؟ في هذا الغموض؟ في هذا الخوف دون اعتبار للنهاية؟ كل هذا ثمن لماذا؟
المكالمات الهاتفية، هي الطريقة الأكثر شهرة لتلقي أوامر الإخلاء. عادة ما تكون باللغة العربية، ومن داخل إسرائيل. هناك حالات أقل شهرة تصلها رسائل صوتية مسجلة. لا وجود للتيار الكهربائي أصلاً منذ الأسبوع الأول، فكيف يشحن الناس هواتفهم، لتلقي إشعارات موتهم؟
مخاطرة استعادة جرة الغاز
حاولت بعد أسبوع من النزوح أن أعود لمنزلي في الشمال لإحضار "جرة الغاز". جرة الغاز الآن هي غنيمة، قد تتوقف عليها حياتك. كان رجوعي إلى المنطقة لإحضارها مغامرة خطيرة. لم أجد أية سيارات تستطيع حملي إلى المناطق الشمالية، فاستأجرت "توك توك" بعد جهد جهيد، وبـ4 أضعاف السعر، عشرين شيكلاً، وحياتي، لأنقذ جرة الغاز.
الليل يبدو طويلاً ومرعباً، نغلق الأبواب عند التاسعة أو العاشرة على أقصى تقدير، ونجلس تلك الجلسة التي أراها حميميةً ولطيفة، نتحدث عما حدث في يومنا، وكيف سنتدبر أمورنا ونتحصل على أشيائنا غداً، كيف سنحضر الماء، وكيف سنوفر الكهرباء، كيف ننسق الفوضى، وكيف ندير البناية، وكيف نقتصد في استهلاكنا. نتحدث عمن خرج من شمال القطاع أو مدينة غزة، من استشهد، ومن بقي حياً أو معطوباً من العائلات. نتخيل نهاية الحرب، وإلى أين ستؤول أمورها، وماذا ينتظرنا بعد يوم واحد من نهاية الحرب.
ثمن لماذا؟
لا أستطيع التفكير ليلاً سوى بامتهان إنسانيتنا التي وضعتنا فيها هذه الحرب، أفكر بعدم الاكتراث لآدميتنا التي يشاهدها العالم على شاشات هاتفه.
كيف تضعوننا في هذا الموقف الرهيب؟
في هذا الغموض؟
في هذا الخوف دون اعتبار للنهاية؟
كل هذا ثمن لماذا؟؟
كل هذه الفوضى التي لا يوجهها أحد، قمامة في كل مكان، اكتظاظ على كل شيء، طوابير المخبز، طوابير النزوح للمدارس، اسطبلات حمير، طوابير على الصراف الآلي، وآلاف البشر أمام المستشفيات. لماذا؟
في النهاية، الصراع السياسي والعسكري هو من شأن السياسين، رغم أن من يدفع الثمن هي الأكثرية الأخرى. فنحن وقود الحرب.
حاولت بعد أسبوع العودة لمنزلي في الشمال لإحضار جرّة الغاز. فهي الآن غنيمة. لم أجد أية سيارات تستطيع حملي إلى المناطق الشمالية، فاستأجرت "توك توك" بعد جهد جهيد وبـ4 أضعاف السعر... 20 شيكلاً وحياتي لأنقذ جرة الغاز
ثم ننام، وإن كان النوم لا يتجاوز 5 ساعات على أحسن تقدير، وليست ساعات متصلة بالتأكيد. نستيقظ عشرات المرات، حسب زخم القصف وقربه. في الواقع إن كان القصف في الشمال، فما زلنا نسمعه قريباً في الجنوب والوسط.. كم نقضي الليل في الدعاء.
ما يعطيني الأمل كل صباح، أني بأعجوبة أستيقظ حياً.
شكراً أيها العدس
غزة معتادة على انقطاع الكهرباء المتعمد، وإن لم يكن لهذه المدة أبداً. لذلك تحتوي بعض بيوتها على مولدات السولار، خمسة أو عشرة كيلوات. ولكن لعدم توفر السولار بسبب الحرب قمنا بتحويل المولدات لتعمل على الغاز، رغم شح وجوده حالياً.
نتناوب على استخدام المولدات التي تعمل لأربع ساعات يومياً، ساعتين لشحن هواتفنا النقالة، وساعتين لنقل الماء عبر الموتورات إلى خرانات المياة. بعض البيوت، وإن كانت نادرة، تستخدم الخلايا الشمسية الصغيرة لتوليد الكهرباء.
وكذلك بالنسبة لشبكة الإنترنت، المرتبطه بوجود الكهرباء لشحن الراوترات المنزلية. هذا في حالة لم يتم تدمير البنية التحتية في المنطقة.
أعدّوا لنا وجبة غداء، كانت تعطي انطباعاً بأنها "مرقة بامية"، لم تكن تحتوي على البامية أو اللحم. بل باذنجان بصوص البامية. كانت وجبة مليئة بالكوميديا السوداء التي ضحكنا عليها لساعات.
أما بالنسبة للغذاء، فيعتبر من الأساسيات الأكثر حظاً بالمقارنة مع الأساسيات الأخرى، كالماء والكهرباء والوقود والمواصلات. انقطعت اللحوم منذ الأيام الأولى، والفواكه كذلك، في حين تبقت بعض خيارات الخضار كالبصل، البندورة، والبطاطا، والبقوليات كالعدس والفول.
هناك خيارات عديدة في استخدام العدس في المطبخ الغزي، فنستطيع التحايل على الجوع من خلالها.
أعدّوا لنا في البناية التي أسكن فيها وجبة غداء، كانت تعطي انطباعاً بأنها "مرقة بامية"، لم تكن تحتوي لا على البامية ولا على اللحم. كانت تحتوي على باذنجان بصلصة البامية. وجبة مليئة بالكوميديا السوداء، التي جلسنا نضحك عليها لساعات.
لا أحد يتحدث معنا
بسبب دمار البنية التحتية، وانقطاع الماء المتعمد من الجانب الإسرائيلي منذ الأيام الأولى، أصبح خيار مياه البلدية غير متاح. اعتمادنا حالياً على موزعي المياه الحلوة الصالحة للشرب. ورغم استشهاد عدد من العاملين في هذه الوظيفة، أو توقف آخرين عن العمل، وتضرر محال آخرين، قام بعض الناس بالعمل في هذه المهنة بشكل طارئ لتوفير المياه للسكان رغم خطورتها وصعوبتها. لذا زادت الأسعار بشكل ملحوظ، وأصبح الوصول إلى الماء أو الموزعين أمر بالغ الصعوبة.
الجدير بالذكر أن الخروج من المنزل لتوفير حاجياتنا الأساسية محكوم بساعات النهار فقط، أي قبل الغروب. صحيح أن الخطر موجود طوال الوقت، ولكنه يزداد في العتمة.
أما وقتنا على الإنترنت فمحدود جداً، لذلك نكون مقتضبين فيما نريد متابعته. الأصغر سناً يتابعون فيديوهات الدمار وتشييع الشهداء. أما الأكبر فغالباً نتوجه إلى متابعة الأخبار، والتواصل مع الأصدقاء والأقارب داخل وخارج غزة. مضطرين دائماً أن نجيب بـ "الحمد لله إحنا عايشين" فقط لطمأنة أهلنا في الخارج، لا شيء جديد نحن فقط ننتظر، ولا نعلم ماذا ننتظر.
نحصل على الأخبار من قنوات التلغرام أو الواتس أب، ومن صحافيين عشوائيين يرسلون الأخبار لسكان القطاع، ويتداولها الناس. لكنها بالتأكيد أخبار غير متوازنة، تركز على خسائر الجانب الإسرائيلي، وتهمل ما يحدث عندنا من معاناة.
نحن مفتقدون تماماً لفهم ماذا يحدث، خصوصاً من القائمين رسمياً على قطاع غزة. نحتاج خطاباً يخص أهل القطاع، لتوجيههم كيف يتصرفون، من أين يوفرون حاجياتهم، وكيف يبتعدون عن الخطر. الناس تتصرف بعشوائية وتحصل على معلوماتها من السكان الآخرين. البيانات الرسمية الوحيدة هي تلك الصادرة من وزارة الصحة، ووزارة الداخلية، وكلها تخص الإحصائيات. تلك الإحصائيات التي تزيد رعبنا رعباً، كلما سمعنا بمجزرة جديدة، بأعداد مهولة.
السكن مع غرباء
لعل الشيء الوحيد الإيجابي في هذه الحرب، أن تنام بجوار شخصٍ لا تعرفه، أن تتقاسم معه الطعام، والأحاديث، الهموم والمخاوف. جعلني ذلك أشعر أننا كلنا شخص واحدُ في نهاية المطاف، وأن الناس وإن بدوا أغراباً فالحرب تجعلهم في ليلة وضحاها قريبين من بعضهم البعض بشكل حميمي. أحسست بوحدة الكون، ووحدة الإنسانية، وأن المصادفة البحتة هي من جعلت هذا الشخص الغريب غريباً. إننا في النهاية متشابهون بدرجة عظيمة.
نحصل على أخبار عشوائية من قنوات التلغرام والواتس أب، لكنها تركز على خسائر الجانب الإسرائيلي، نحن مفتقدون تماماً لفهم ما يحدث من القائمين رسمياً على القطاع. نحتاج خطاباً يخص أهل غزة لتوجيههم كيف يتصرفون، من أين يوفرون حاجياتهم، وكيف يبتعدون عن الخطر
يحضر أحد سكان البناية عدة الحلاقة من عند أحد الحلاقين، يجلس في وسط غرفة الجلوس، ويبدأ بحلق شعر شباب البناية ويهندمهم، وكلما سقط الشعر على الأرض قال ممازحاً للجميع: "يلا حاسبوني". حالة التضامن والتشاركية بين الناس هي ما تجعل الوجع محتملاً.
نتقاسم مع جيراننا في البنايات الأخرى موتور الماء والكهرباء، ونوزع المهام بيننا، أحدنا يوفر الماء، والآخر يوفر الغاز. إن طلب أحد نازحي الحي العون، هب جميع الغرباء لمساعدته. ستسمع الغرباء دائماً يسلمون على بعضهم في الشوارع كل صباح "حمد الله عالسلامة".
بماذا يشعر الأطفال يا تُرى؟
يفتقد الأطفال الحوار مع الكبار، فلا وقت لذلك حقاً. هم في هذا الخضم لا يفهمون شيئاً ولا يدركون ماذا يحدث. هُجّروا فجأةً من بيوتهم، وفجأةً كثر الناس من حولهم، وأجبروا على التعايش مع قلة الماء والطعام واللعب، وتجديد رعب القصف كل ليلة، خسر كثير منهم أهلهم أو بعضاً من أهلهم. كل ما نستطيع إخبارهم به، وبطريقة عصبية " تلعبوش" أو "إلعبوا شوي شوي" أو "إدخلوا جوا". كله حوارٌ عصبي مشوبٌ بالخوف، لا أعرف إن كان ذلك يهدىء من روعهم ساعة القصف أو يزيد من رعبهم.
" تلعبوش" أو "إلعبوا شوي شوي" أو "إدخلوا جوا". كل حديثنا مع الأطفال هو حوارٌ عصبي مشوبٌ بالخوف.
سُئلت عدة مرات من الأطفال حولي: "ليش اليهود بدهم يموتونا؟ ليش قصفوا الجامع؟" كما سألوني عن معنى "استشهد"، حين استفقدوا وجود ابن خالي. فأجبتهم "راح عند سيدو"، الذي وافته المنية قبل عام.
افتقد أن أذهب إلى البيت، أن أنام في الوقت الذي أريده، أفتقد للأمان المصحوب بأمان إبني، وأهلي، وأصدقائي. أفتقد القراءة، وعملي وأحلامي. أفتقد للموسيقى تصدح في الغرفة، بدلاً من رعب القصف، أفتقد كل شيء.
جعلني الخوف ممتناً لكل مسلمات الحياة، كالماء والكهرباء. متمسكاً برغبة عارمة بالحياة، ومتشبثاً بالأشياء التي أحب، والناس التي أحب.
من قال إننا نحب الموت؟ نحن نعشق الحياة. لكنه وإن كان حتماً، فحتى الموت لا يهزمنا.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 4 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...