شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!

"الشيكل"... عدوّان لعملة واحدة، هل يستطيع الفلسطينيّون امتلاك عملتهم؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

سياسة

الخميس 21 ديسمبر 202303:41 م

بعد شهرين من الحرب على غزة، ارتفعت نسبة الفقر في الأراضي الفلسطينية من 26.7% إلى 34.1%، ويُتوقع أن ترتفع إلى 45% إذا دخلت شهرها الثالث، بحسب التوقعات التي صدرت عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي.

كما تشير التقديرات نفسها إلى خسارة الاقتصاد الفلسطيني نحو 1.7 مليار دولار منذ بداية الحرب، أي أن إجمالي الناتج المحلي الفلسطيني انخفض بنسبة 8.4% وستنخفض النسبة لتصل إلى 12.2% في الشهر الثالث.

وهذه الأرقام لا تشمل الخسائر الفادحة في البنية التحتية والاقتصادية التي أصابت قطاع غزة، والتي تشير التقديرات الأولية إلى أنها تجاوزت حاجز 713 مليون دولار في الشهر الأول من الحرب فقط، بحسب تقرير الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، بينما توقع مدير عام الإحصاءات الاقتصادية أن تصل الخسائر الاقتصادية للقطاع الخاص في غزة إلى أكثر من مليار دولار خلال الشهر الثاني من الحرب الإسرائيلية في تصريحات لوكالة أنباء العالم العربي.

على الجانب الآخر، وفي تقرير اقتصادي نشرته صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية بتاريخ 19 كانون الأول/ ديسمبر، قال نحو 20% من الإسرائيليين الذين استجابوا لاستطلاع أجري في تشرين الثاني/ نوفمبر 2023 إن دخلهم انخفض بشكل كبير أو كبير جداً منذ بداية الحرب على قطاع غزة.

وقد أظهر الاستطلاع الذي أجرته مؤسسة "لاتيت" الخيرية الإسرائيلية المعنية بالأمن الغذائي أن 45% من الإسرائيليين يخشون الصعوبات الاقتصادية بسبب الحرب إذ قامت جمعيات الإغاثة الخيرية بتوسيع أنشطتها بشكل كبير منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول.

الكيانان مرتبطان بسياسة نقدية واحدة، وبالشيكل كعملة موحدة للاقتصادين، والذي وصل إلى أدنى مستوى له منذ عشر سنوات.

فما هي العلاقة التي تربط اقتصاد العدوين؟ وهل بإمكان الاقتصاد الفلسطيني التحرر من التبعية لإسرائيل؟ والأهم، هل بإمكان الفلسطينيين سك عملتهم الخاصة في المستقبل القريب أو البعيد؟

اتفاق باريس

وُضعت أسس العلاقة الاقتصادية بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل بموجب البروتوكول الاقتصادي الملحق باتفاقية أوسلو، والذي وقعه الجانبان في العاصمة الفرنسية باريس بتاريخ 29 أبريل/نيسان 1994، ليُعرف لاحقاً باسم اتفاقية باريس الاقتصادية.

أحد أهم أسس هذه العلاقة هو "الشيكل" كعملة للاقتصاد الفلسطيني، عن هذا الالتزام يشرح الباحث في المركز الفلسطيني للدراسات الاسرائيلية، وطالب الدكتوراه في الجامعة العبرية في القدس وليد حباس لرصيف22، ويقول: "بموجب اتفاق أوسلو تم إلزام السلطة الفلسطينية باستخدام النقد الإسرائيلي، وبشكل غير رسمي يمكن استخدام الدينار الأردني، وبموجب الاتفاق يجب أن تؤسس السلطة الفلسطينية سلطة نقد أو بنك مركزي يتبع هيكلياً في الإجراءات البيروقراطية للبنك المركزي الإسرائيلي، حتى أن الاتفاق نص على أن أجهزة الكمبيوتر والبرامج التي تشتغل فيها سلطة النقد الفلسطينية يجب أن تؤخذ من المركزي الإسرائيلي، وبالتالي فسياسات النقد لدى السلطة تابعة بشكل كامل للمركزي الإسرائيلي".

بعد شهرين من الحرب على غزة، ارتفعت نسبة الفقر في الأراضي الفلسطينية إلى 34.1%، وخسر الاقتصاد 1.7 مليار دولار، وانخفض الناتج المحلي الفلسطيني بنسبة 8.4%.

ويضيف: "طبعاً تنشأ هنا العديد من الإشكاليات، فنظرياً اتفاق اوسلو أقام اقتصاداً فلسطينياً مستقلاً، وبالتالي فالتجارة بين إسرائيل والسلطة يفترض أن تكون بين دولتين مختلفتين، لكن من جانب آخر هما ليسا دولتين مختلفتين، بل أقرب إلى منطقتين اقتصاديتين يربط بينهما ما نسميه "Custom Envelope" أي علاقة تبادل ضريبي بين الكيانين، وبالتالي تستطيع إسرائيل التحكم بالسياسات النقدية -ولا أقول المالية- للسلطة الوطنية الفلسطينية".

هذه التحكمات تشمل رقم السيولة النقدية المسموح للسلطة الفلسطينية أن تمتلكه في بنوكها، وكم تستطيع البنوك الفلسطينية أن تعطي نسبة من المدخرات مقابل القروض، وهكذا.

ما كان يفترض أن يكون مؤقتاً صار دائماً

يقول لرصيف22 مدير عام معهد أبحاث السياسات الاقتصادية الفلسطيني (ماس) الدكتور رجا الخالدي: "بالنسبة لاتفاق باريس، لا شك أنه كان مصمماً لفترة انتقالية وليس لوضع دائم، قبل أن يتبين أنه صار الإطار القانوني الذي سيحكم لثلاثين سنة وليس فقط لخمسة سنوات، وبالتالي لا نستطيع أن نحكم على هذا الاتفاق في تصميمه، حيث أن انتهاكات إسرائيل في التسعينيات بدأت في تغيير تطبيقه، وبالتالي شوهت من إمكانية تطوره ليكون إطاراً لمسار تنموي".

ويشير الخالدي إلى أنه في التسعينيات، حين اقترب الفلسطينيون من موعد استحقاق الدولة الفلسطينية في نهاية المرحلة الانتقالية، بدأت إسرائيل تكسر الاتفاق على مزاجها وتماطل، وتبين في أكثر من دراسة لماذا هو ليس مناسباً لعلاقة أو مرحلة دائمة، فهذا الاتفاق ليس إطاراً تنموياً، بل كان يفترض أن يكون انتقالياً لنقل الصلاحيات وبناء نواة الاقتصاد الفلسطيني في التسعينيات. 

وُضعت أسس العلاقة الاقتصادية بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل بموجب اتفاقية باريس الاقتصادية، والتي ألزمت السلطة الفلسطينية باستخدام النقد الإسرائيلي، وأن تتبع بسياساتها لسياسات النقد الإسرائيلية كمرحلة انتقالية 

ويتابع: "التنمية بحاجة إلى استقلال وسيادة، وعليه، إذا تحدثنا عن استقلال القرار السياسي اليوم، فمن العدل القول إن اتفاق باريس لم يكن وحده الذي قوّض القرار السياسي الفلسطيني فهناك كثير من الظروف التي عملت بنفس الاتجاه. اتفاقية باريس باتت بعد الانتفاضة الثانية وحتى يومنا هذا، الإطار الناظم لتحكم القرار الأمني للاقتصاد الإسرائيلي بالوضع الاقتصادي الفلسطيني، وتم استغلالها أحياناً كجزرة وأحياناً كعصا. منذ وقت طويل انتهت صلاحية باريس كإطار للعلاقة الاقتصادية مع إسرائيل".

لا تحرر سياسي بدون تحرر نقدي

لكن عملية التحرير السياسي لا تتم بدون تحرر اقتصادي، وليس فقط من خلال التجارة أو العمالة بل أيضاً من خلال سك عملة نقد خاصة، فهل تستطيع السلطة الفلسطينية التخطيط لهذا الأمر على المدى البعيد؟

يجيب الخالدي: "فيما بتعلق بموضوع العملة، نعود إلى اتفاق باريس، فلم يكن ممكناً حينها التفكير بعملة فلسطينية ليس لأسباب سياسية فقط، وإنما لأسباب اقتصادية بالأساس، وما زالت الكثير من الأسباب التي تحول دون التفكير بعملة فلسطينية قائمة، وأهمها أنك إذا لم تكن تملك حدودك أو اقتصادك أو حدود اقتصادية للدقة وسيادة داخل اقتصادك، من حيث التجارة والأسعار والأجور، لن تتمكن من سك العملة، يجب أن يكون لديك موازين معينة معتمدة عالمياً في ميزان المدفوعات ووضع معين، لتقدر أن تتحكم في عملة".

أما الحباس فيقول: "سك العملة يستدعي أن تأتي هذه الخطوة ضمن مشروع تحرري شامل، فلا نستطيع أن نسك نقداً خاصاً بنا ونحن لا نمتلك حدودنا ولا نسيطر على جغرافيتنا، ولا نمتلك مقدرات لإعطاء قيمة للنقد الذي سنسكه، وبالتالي في ظل غياب السيادة على الأرض، وعلى ما في جوف الأرض، وعلى المعابر والتي من خلالها تدخل المعدات التي تعزز الصناعة وحركة التصدير، سنظل رهناً للسياسات التي تضعها إسرائيل لأنها هي المسيطرة".

ويلفت إلى أن عدم وجود النقد عند السلطة أضعفها، ولكن الأسوأ أنه عزز تبعيتها، وبالأخص في رسم السياسات وقدرتها على التحكم برفاه الناس، وبطبيعة القروض ونسب الفائدة. 

مع اقتراب موعد استحقاق الدولة الفلسطينية في نهاية المرحلة الانتقالية في التعينيات، بدأت إسرائيل تغير في اتفاق باريس على مزاجها وتماطل به، وما كان يفترض أن يكون قواعد لمرحلة انتقالية لخمس سنوات صار القواعد الحاكمة لثلاثين سنة، وأوقف عجلة التنمية الفلسطينية 

ويشرح: "التبعية النقدية هي من الجوانب التي قلّما اهتم بها الناس، فمعظمهم ينظر بالأساس إلى التجارة وأنها تعتمد على بضائع إسرائيلية، وإلى أننا لا نستطيع التصنيع، وإلى وجود حوالى 250 ألف عامل داخل إسرائيل، إذا لم يشتغلوا سترتفع نسبة البطالة، لكن هذا النوع من التبعية كلاسيكي، أما الاستقلالية النقدية فأهم بكثير، وللأسف فالسلطة غير قادرة عليه حالياً، ولا بد هنا من التوضيح أن هذا الأمر لا يتوقف عند إن كانت السلطة ترغب أم لا ترغب، بل هي ممنوعة عنه بموجب الاتفاق".

ربط الاقتصادين بدأ قبل اتفاق باريس

من قبل أوسلو، ومن قبل اتفاقية باريس وإنشاء السلطة الفلسطينية، تأسست روابط اقتصادية قوية بين الفلسطينيين والإسرائيليين، أولاً بحكم الوجود الجغرافي وضرورة التبادل الزراعي والصناعي، والأهم لأن مسؤولية تأمين الخدمات والبضائع الأساسية تقع على عاتق المحتل بحسب القانون الدولي.

مشروع "الجسور المفتوحة" كان البداية، وهو أقرب إلى سياسة اقتصادية اعتمدتها إسرائيل بعد احتلال 1967 للتنفيس عن غضب الفلسطينيين والاستفادة من اقتصادهم.

بموجب هذا المشروع أتاحت إسرائيل للفلسطينيين في الأراضي المحتلة في القدس وغزة والضفة أن ينشئوا علاقات اقتصادية حرة مع إسرائيل. وقد ساهم هذا المشروع في إضعاف العلاقات الاقتصادية التي كانت تربط الضفة بالأردن من جهة، وغزة بمصر من جهة أخرى. حيث وجدت المصانع الإسرائيلية في الأرض المحتلة سوقاً استهلاكياً لمنتجاتها. 

أكثر من 88% من صادرات الأراضي الفلسطينية تذهب إلى إسرائيل أو من خلالها، بينما لا تتعدى الصادرات الإسرائلية لها  3% 

يقول الحباس عن هذه الإستراتيجية: "كانت هناك الكثير من الأوامر العسكرية والإجراءات التي تمكنت إسرائيل من خلالها من قطع الحبل السري الذي كان يربط إقتصاد الضفة في الأردن، وكذلك بين غزة ومصر، وهنا نشأت لدينا علاقات مصالح، التجار والمصنعين صاروا ينتجون ما يطلبه السوق الإسرائيلي، فعلى سبيل المثال تجار النسيج صاروا ينتجون البضائع التي تناسب الإسرائيليين، وأعادوا تكييف مشاريعهم الإنتاجية بناء على هذا، وهناك مثال آخر أوضح، ففي العام 2004 سنت إسرائيل قانوناً لحماية البيئة فأغلقت مصانع البلاستيك التي داخل إسرائيل، وفي الواقع هي لم تغلقها، فأصحاب المصانع باعوا الماكينات لتجار من الخليل وطلبوا منهم الاستمرار بالتصنيع وأن يعيدوا بيعه لهم، وكانت علاقة "win win" لكن بين التجار فقط، وبالتالي تعززت التبعية مع كل رابط اقتصادي جديد.

من المتضرر الأكبر؟

بحسب بحث نشره موقع "منقبون" المختص بالتحليلات الاقتصادية الفلسطينية الإسرائيلية، فإن إسرائيل استوردت 88.3% من إجمالي الصادرات الفلسطينية خلال العام 2023. بينما تبلغ قيمة الصادرات الإسرائيلية إلى السوق الفلسطيني 3% من مجمل الرقم.

ويقصد بالرقم بحسب التقرير، أن نحو 88.3% من إجمالي قيمة الصادرات الفلسطينية يتم تصديرها إلى إسرائيل أو من خلالها إلى دول العالم، بينما النسبة المتبقية 11.7% يتم تصديرها مباشرة.

لكن ماذا لو انقطعت هذه العلاقات الاقتصادية فجأة، من سيتضرر أكثر الفلسطينيين أم الإسرائليين؟

يقول الخالدي: "أهمية الاقتصاد الفلسطيني لإسرائيل تكاد تكون لا شيء، إذ لا تتجاوز التجارة مع فلسطين 3% من جميع صادرات إسرائيل في أحسن الأحوال، هذه العلاقات مهمة بالطبع لبعض القطاعات الإسرائيلية أكثر من سواها كالقطاع الزراعي، ولكن أيضاً ليس كما في السابق". 

ما زالت الكثير من الأسباب تحول دون التفكير بعملة فلسطينية قائمة، وأهمها عدم السيطرة على الحدود، وغياب السيادة، وعدم تحكم السلطة بالتجارة والأسعار والأجور، وعدم وجود المعايير المعتمدة عالمياً في ميزان المدفوعات

ويضيف: "باعتقادي، ليس هناك سياسة إسرائيلية تجاه فلسطين، هناك استراتيجية استخدام الاقتصاد لأغراض أمنية وسياسية، وما تبقى هي أمور هامشية لأي صانع سياسة اقتصادية إسرائيلي، فهو لا يضعنا في الحسبان، لأنهم في عالم اقتصادي ونحن في عالم آخر".

أما الحباس فيقول: "كلاهما سيتضرر، لكن ضرر إسرائيل سيكون مباشراً وعلى المدى القصير، أما على المدى الطويل فتستطيع اسرائيل استبدال الأسواق والتصدير، هذا ليس نفس الأمر بالنسبة للفلسطينيين، إذ ستعتبر نكبة بالنسبة للاقتصاد لعدم وجود بدائل، مثلاً ربع العمالة الفلسطينية تعمل في إسرائيل، ويُدخل هؤلاء ما قيمته 22% من الناتج المحلي الإجمالي الفلسطيني، وحين بدأت الحرب منعتهم إسرائيل من الدخول، مما تسبب بأزمة اقتصادية إذ لم يكن لديهم بديل للعمل في الأردن مثلاً أو بلد آخر، وبالتالي إذا انقطعت العلاقة ستكون كارثة للفلسطينيين لعدم وجود بديل".

ويختم: "إسرائيل اليوم لديها خطط لاستبدال العمالة الفلسطينية بعمالة رخيصة من تايلاند والفلبين والصين، لكن هذا إجراء طويل لأنه يستدعي إقامة علاقات واتفاقيات تتعلق بالحوالات المالية وحقوق العمال وضمان العيش الكريم، ولن يحدث بيوم وليلة، لكنه ممكن على المدى الطويل، فالعلاقة هنا لا تشبه العلاقات الاستعمارية الكلاسيكية القديمة، مثلاً في جنوب إفريقيا دولة البيض كانت قائمة على العمالة الإفريقية، والاستغناء عنها يعني الانهيار الاقتصادي، أما هنا فالوضع مختلف". 


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image