لنقل إنني فتاة في نهايات العشرينيات، ولنفترض أنني تعرّضت في حياتي لمصائب كبرى اتحدت مع مرض الاكتئاب المزمن، لتكوّن مني شخصاً حزيناً أغلب الأوقات، ولنفترض كذلك أنه في أثناء رحلتي القصيرة جداً في الحياة، تعلمت أن أي مبادئ وقناعات لم تختبر فهي واهية، لا يعتمد عليها ولا تعتبر جزءاً أساسياً من الفرد، وأول قناعاتي التي اختبرت كانت المعتقدات الدينية وإيماني بوجود إله، لأجد نفسي مع الوقت أتحوّل، من مسلمة متديّنة للغاية إلى لا دينية غير مكترثة، ترى الله بقلبها وتحبه، ولكنها مع ذلك لا تؤمن بدين معين أو شعائر معينة عليها اتباعها لمعرفة ومخاطبة الله، هو فقط موجود في قلبها وبنور ذلك تسير في الحياة.
وجزافاً سنطلق عليّ "حور حُنين"، حور من حوريات البحر الماكرة، وحُنين من بقايا الحنان الموجود في نفسي بعد ما أرهقتني الحياة وجعلت مني شخصاً صارماً. واليوم ستخبركم حور عن رحلتها غير المتوقعة لزيارة الأراضي المقدسة وأداء مناسك العمرة، حكاية صادقة عن تجربتها كاملة، ترويها فقط لأنها مختبئة وراء اسم وهوية مزيفين.
وجدت نفسي مع الوقت أتحوّل، من مسلمة متديّنة للغاية إلى لا دينية غير مكترثة، ترى الله بقلبها وتحبه، ولكنها مع ذلك لا تؤمن بدين معين أو شعائر معينة عليها اتباعها لمعرفة ومخاطبة الله
ما كل هذه المعاكسات؟ ألا يريدني الله؟
بشكل غير متوقع تماماً، وأثناء قيامي بأحد تلك الأشياء التي تعد من "الكبائر" في الدين الإسلامي، تلقيت مكالمة هاتفية ملخصها أنني سأكون في السعودية خلال أسبوع تقريباً، ليس الهدف من الزيارة هو أداء مناسك العمرة، ولكنها ستكون عرضاً جانبياً لرحلة عمل، فقط عليّ استخراج جواز سفر سريع، ولحسن الحظ هذا متاح في بلدي.
يمكن اعتبار العمرة والالتزام بمعايير الدين الإسلامي، كالصلاة وارتداء الحجاب، أشياء إضافية لرحلة قد تكون ممتعة، وظهر هنا السؤال: هل سأكون مهتمة بوجودي في مثل هذه الأجواء التي أصبحت بعيدة كل البعد عن تفضيلاتي في الحياة؟ لتظهر الإجابة لاحقاً في دماغي، أنه لا داعي لأخذ موقف ضد ديانة معينة فقط لأننا انتمينا إليها في يوم من الأيام، وأنه بالتأكيد سأكون مهتمة حقاً بالذهاب لرؤية أو أداء مناسك التقديس المسيحي، أو مشاهدة الروتين اليومي لراهبي التبييت عن قرب، بالتالي لا داعي لرفض الصفقة برمتها بسبب رواسب مشاعر لدين كنت أنتمي له.
بدأت رحلتي في استخراج جواز السفر السريع، وفي حياتي بأكملها لم أتعرض لمعاكسات مستمرة في استكمال شيء ما مثلما حدث معي في استخراج هذا الجواز اللعين، حتى بعدما دفعت ضعف المبلغ المالي الذي من المفترض أن أدفعه، الذي هو ثلاثة أضعاف مبلغ استخراج الجواز غير السريع.
معاكسات ومشاوير حكومية بلا فائدة، حتى بكيت في منتصف الطريق من كثرة الإحباطات، وهنا مزح صديق معي: "شكل ربنا مش عايزك ولا ايه؟"، وكان هذا المزاح هو بداية ثورة من غضب لم يهدأ ابداً: لماذا لا يريدني الله؟ أو بمعنى أدق: لماذا ينصّب أحدهم نفسه في موقع الحكم إن كان الله يقبلني أم لا؟
ومع التحضيرات الفعلية للسفر والتي تتضمن حزم الحقائب وتجهيز الملابس المناسبة للسفر، أدركت أنني حينما وافقت على هذه الصفقة نسيت أنني سأتخلّى عما حاربت كثيراً للحصول عليه: هويتي.
خذلني بيتك يا الله ولم يهدأ غضبي
في رحلة معرفتي بانتمائي الديني الحقيقي -وهو اللادينية- كان عامل "الحجاب" من أهم العوامل التي ساعدتني على معرفة أن هذا الطريق ليس بطريقي. فكرة وجوب تغطية شعري المميز، الذي يعبر عن هويتي بشكل كبير، لم تكن مقنعة لي إطلاقاً، وأثناء خلعي للحجاب، كانت إجابتي لسؤال: "ألا تخافين الله؟"، هي: "الإله الذي أعبده أكبر من أن يلعنني بسبب شعري"، والكثير الكثير من الكلام عن عدم منطقية القصص التي تتعلق بالفروض ووصفها بقصص الأطفال.
وبسبب قوانين البلد وظروف شخصية، اضطررت لارتداء الحجاب قبل وصولي المطار في بلدي، ومع الوقت وقبل وصولي حتى للأراضي المقدسة، بدأ الندم. الندم الذي يصل لحد الاختناق، بدأت إدرك مدى خطأ قراري. الحقيقة أنه كل ما كنت أفعله في الأعوام الماضية هو أنني، عامدة، أحطت نفسي بمن يشبهونني فقط، دينياً وفكرياً وحتى شكلياً، بالتالي أصبح وجودي في مكان مع أناس لا أتلاقى معهم في أي منطقة مشتركة مأزق حقيقي لي.
خوف مستمر من الحكم علي لأي سبب، بداية من أظافري الملفتة للنظر- التي بالمناسبة لم أستطع التخلي عنها بأي شكل- وصولاً لأفكاري التي بالتأكيد لا تناسب المجتمع المحيط بي.
ما شعرت به حقا أن الله، الإله الذي أعبده وأحبه، ليس له علاقه بهذا المكان، أو أي مكان آخر، فهو موجود في كل مكان بنفس المقدار
كل ذلك جعلني على يقين أنني في نهاية هذه الرحلة أما سأعود مسلمة مؤمنة، أو سيتأكد سؤالي الذي يشغلني منذ سنين: "أحقا أنا لا دينية أم أنني فقط لست أدري؟".
وطوال رحلة طويلة، تعمّدت ألا أتحدث العربية مطلقاً، حتى أتجنّب أكبر قدر ممكن من النقاشات والنصائح الدينية. وصلت لليوم الذي سأرى فيه الكعبة لأول مرة، وقبل وصولي لهذه اللحظة، وحتى بعدها، كان يراودني إحساس خانق أن مشكلتي الحقيقة ليست مع الدين وتعاليمه، إنما مع أتباعه الذين يرفضون أي مختلف عنهم، ولا يمانعون إطلاقاً التنكيل به، بل قتله إن لزم الأمر أم لم يلزم.
وأثناء أداء مناسك العمرة التي لم أقتنع بأي جزء منها، ولكن قمت بها من باب إتمام التجربة كاملة، كانت مفاجأتي الكبرى أنني لم أشعر بأي شيء مطلقاً، وددت ولو قشعريرة بسيطة تسري فوق عنقي عند رؤية الكعبة... فرحة، سعادة أو حتى غضب، غضب من الله الذي تركنا في الأرض/ مع الإنسان وشرّه وجلس في السماء ولم يقم بأي شيء، ولكن حتى هذا لم أشعر به.
ما شعرت به حقا أن الله، الإله الذي أعبده وأحبه، ليس له علاقه بهذا المكان، أو أي مكان آخر، فهو موجود في كل مكان بنفس المقدار. وعدت وأنا الآن فقط أدري، أدري أنني ما زلت لاأدرية. عدت وأنا وعلى يقين أن إيماني بالله أكبر من أن يقولب في دين واحد فقط.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...