عندما رأيت نفسي بصورة واقعية موضوعية، وكففت عن الرغبة في أن أكون شخصاً آخر، الكثير من طاقتي النفسية كانت تتبدّد في محاولتي أن أكون شخصاً آخر، أو أتوقع أكثر من قدراتي واستطاعتي، فأحبط وأشعر بالعار لهذا الضعف، ولا أستطيع تقبل الحقيقة.
ثقتي بنفسي كإنسان متفرد وأصيل، أستحق القبول والاحترام والتقدير والحب بذاته، دون شروط أو اعتماد على مظهري ومؤهلاتي وقدراتي وإنجازاتي الخارجية التي يمكن أن أكتسبها وأنميها وأطورها، برغم ذلك أمتلك تقييماً ذاتياً موضوعياً، لأدرك مميزاتي وعيوبي، قوتي وضعفي، بدون جنون عظمة أو تواضع زائف.
أؤمن أن نجاحي مشوار لا يقاس بصورة مطلقة، فليس النجاح ما وصلت إليه الآن، ولكنه المقدار الذي به تحرّكت إلى الأمام مقارنة بالأمس، إن كنت أتقدم إلى الأمام ثلاث خطوات ثم أرجع خطوتين، فإنني أتقدم خطوة واحدة، إذن أنا شخص ناجح، قد لا ألاحظ نجاحي وتغييري، لكن من حولي يلاحظونه أكثر مني.
إن القياس العادل للنجاح يضع في اعتباره الظروف المحيطة، فإذا أكملت تعليمي في ظروف أسرية صعبة، أنا أكثر نجاحاً ممن يتفوق في ظروف أسرية مثالية، وإذا حافظت على عملي برغم تحديات المرض، فأنا أكثر نجاحاً ممن ينال ترقية في ظروف سهلة
نجاحي يقاس بنوع المادة الخام التي معي، فيُعتبر صنعي لتمثال صغير من الحجر، أكثر نجاحاً ممن يصنع تمثالاً ضخماً من الطين. إن القياس العادل للنجاح يضع في اعتباره الظروف المحيطة، فإذا أكملت تعليمي في ظروف أسرية صعبة، أنا أكثر نجاحاً ممن يتفوق في ظروف أسرية مثالية، وإذا حافظت على عملي برغم تحديات المرض، فأنا أكثر نجاحاً ممن ينال ترقية في ظروف سهلة. نجاحي الحقيقي هو أن أعرف مواهبي وإمكانياتي وأستغلّها كي أحقق رسالتي الفريدة في الحياة.
المقارنة سم الإحباط والتسليم مصل الثقة
أتذكر القصة التي قرأتها في صغري، عن السلحفاة المثابرة التي سبقت الأرنب المغرور.
عندما أعدت التفكير في هذه القصة، التي ربما كان كاتبها يحمل نية إيجابية للتشجيع على المثابرة والنشاط ورفض الغرور والكسل، لكن وجدتها تبثّ فكرة سامة أخرى، لماذا قبلت السلحفاة السباق من الأساس؟ ماذا تريد أن تثبت للأرنب إذا كانت واثقة بنفسها وتحترم قدراتها؟
المقارنة والتحدي هنا غير عادلين، وهذا لا يقلل من السلحفاة ويعلى من شأن الأرنب. صحيح أن الأرنب أسرع منها وبديهي أن يفوز في الظروف العادية، لكن ما عند السلحفاة ربما يكون مميزات أخرى: مثل طول العمر والدرقة التي تحمي جسدها وتكيف حرارته مع الوسط الخارجي، وهو ما لم تشر له القصة، بل وجهت تفكيرنا نحو مقياس استعراضي، حدّده الأرنب ولم تحدّده هي، وهو يدل على تفاهة وسوء نية الأرنب. اعتمد فوز السلحفاة في السباق على تعثر الأرنب في ظرف استثنائي، ليس على قدرتها الفائقة المستحقة، فماذا لو لم يرتح الأرنب؟
ربما هذا ما يشار له في المنطق، بمغالطة المقارنات الخاطئة أو التكافؤ الكاذب، المقارنة العادلة الوحيدة، هي أن أقارن أدائي اليوم بأدائي في وقت سابق، حتى أتمكن من قياس تقدمي، وإذا قست نفسي بشخص آخر، يجب أيضاً أن أقارن موقفاً ما ليس حكماً عاماً، وأن أفعل ذلك مع وعي شديد بالاختلافات التي بيننا، كي لا أطالب نفسي بأكثر أو أقل مما أستطيع فعله، بلا مبالغة في نقاط القوة والضعف.
وهم التنمية البشرية السامة
عندما كنت مراهقاً، خارجاً من طفولة وظروف أسرية قاسية، أدت لأداء ومعدل دراسي واجتماعي متدن، كنت موهوماً بالتنمية البشرية، وأعني كلمة وهم هنا بمعناها الحرفي، أي أنني كنت أعتبرها المارد السحري الذي سيغير حياتي للأفضل، وهذا هو الوهم الذي يبيع لي كلاماً مجانياً عن النجاح، ويضرب أمثلة بالناجحين الاستثنائيين الخارقين للعادة حول العالم، ومرورهم بعقبات شديدة الصعوبة، وفشلهم المتكرّر في البداية، ثم تمردهم وكسرهم للقواعد وتحقيق الإنجازات العظيمة.
بافتراضي النوايا الحسنة لمروّج تلك الأفكار، إلا أن تأثيرها عادة ما يكون كالطريق إلى الجحيم المفروش بالنوايا الحسنة، لأنها تعرض أفكاراً وقصصاً صحيحة جزئياً، بأداء مسرحي حماسي جذاب، لكنه يفتقد المضمون، ويبالغ في التعميم. يعطيني جرعة حماس وطاقة زائفة عند حضور محاضرة أو قراءة كتاب، دائماً ما يبطل مفعولها عند البدء بالتجربة والعمل، كأني مريض يعيش على مسكنات، ولا أعالج مرضي. ربما أحتاج لتلك الجرعات من حين لآخر، لكن سماع أغنية أو موسيقى تحفيزية يوفرلي وقتي ويفيدني في اكتساب حالة إيجابية مؤقتة، إذا كنت أحتاج لتلك الجرعة بلا توهم.
المرض هنا هو مثال عن مشكلاتي العميقة التي كانت تحتاج لحل جذري، وبمعناه الحرفي أيضاً، أقصد المرض النفسي الذي يحتاج لعلاج كلامي أو دوائي، تهمل التنمية البشرية ضمنياً دور علم النفس، حتى وإن أكد المدرب على دور الطبيب، لكن يدعي أن ما يعرضه علم مستقل، بينما هو خليط هجين من المعلومات التي تنتج أفكاراً هشة لا تؤدي لنتائح فعالة حقيقية، فهي توهمني أنني أستطيع تحقيق أي شيء، وتخطي أي مشكلة حياتية، وأن العيش بسعادة قرار لا يتحكم به أي سبب خارجي، تلك الأفكار التي تدعوني، للتفاؤل الساذج السام، فيؤدي إلى نتائج فاشلة تجلب الإحباط والخزي.
التنمية البشرية جعلتني أتعامل مع نفسي والآخرين بسطحية، لا أنظر بداخلي بعمق، فلم أنتبه إلى المعاني الوجودية والمشكلات النفسية، فإذا كنت أستطيع التعامل مع أي مشكلة نفسية بالبرمجة اللغوية العصبية وقانون الجذب، أي بالتحكم بأفكاري ومشاعري، بما أنهم نتاج لبعضهم في حلقة متسلسلة، وهو كلام صحيح جزئياً كما ذكرت، لكنه يسطّح نفسي البشرية من عمقها، ويجردني من إنسانيتي، فيتجاهل، متعمداً أو غافلاً، ظروف بيئتي ونشأتي وتربيتي وطفولتي، والتي بالتبعية كونت عندي صورة ذاتية مشوهة، هي ما تحرك سلوكي الناتج عنهم، هذه الصورة كانت مثل شجرة متجذرة في نفسي، إذا كانت جذوري فاسدة لن أصلح حالي بتهذيب فروعي، كما لا يغير ما بداخل رأسي، أن أحلق شعري مثلاً.
إذا كانت جذوري فاسدة لن أصلح حالي بتهذيب فروعي، كما لا يغير ما بداخل رأسي، أن أحلق شعري مثلاً
مصطلح التنمية البشرية عالمياً، وللمفارقة الدالة، هو مؤشر يشير إلى مستوى رفاهية الشعوب، نتاجاً لقياس مستويات العوامل الحياتية المختلفة، تدلل على مستوى المعيشة والصحة والتعليم والعمل والأمن والتنمية والحرية. لكن التنمية البشرية في مصر، كمضمون فكري فارغ كما ذكرت وأكمل، يتجاهل تماماً كل هذه الظروف المفروضة، فهي لا تشير تماماً إلى تأثير الظروف الخارجية ممثلة في الدولة والمجتمع والأسرة، وتأثيرهم في تكوين وإخضاع شخصيتي حسب صورتي الذاتية.
تهمل التنمية البشرية تفردي واختلاف قدراتي عن شخص آخر، ما يجعلني أدرك مميزاتي وعيوبي معاً، أتيقظ في أحلامي، وأوازن فيها طموحاتي مع قبول واحترام ظروفي وقدراتي، وأجعل أهدافي واقعية تدرك احتمالية النجاح والفشل معاً، بدون مبالغة تجعل الفشل في مجال أو هدف معين نتيجة حتمية، لأن أهم من ما أرغب به، هو ما أستطيع تحقيقه.
كما تهمل التنمية البشرية صعوبة النجاح، ممثلة في تعليمي وعملي، كعمليات تحتاج إلى بذل وقت وتركيز وجهد، جاد ومستمر ومتطور، ممل ومرهق ومحبط لحالتي المزاجية في أغلب الأحيان، لذلك فتحمّسي اللحظي لمجال أو فكرة ما، لا يستمر عند البدء في التنفيذ، حتى إذا كنت أعمل ما أحب، ما يجعلني أكمل هو قوة الإرادة والعادات الإيجابية التي تربي الاجتهاد والإصرار والعزيمة.
كما تحصرني التنمية البشرية في نجاحي العملي، ما يجعلني أشعر أنني لا أستحق المحبة إلا تحت شرط النجاح، وليس النجاح العادي المتوازن في كافة جوانب الحياة، بل تقلّل من شأن ذلك، وتحفّزني على الطموح والنجاح الخارق الذي يتحول إلى رغبة سامة، بانحصاره في نموذج رأس المال، ما يجعلني أنجح ليس فقط من أجل الحصول على المحبة، بل من أجل مكايدة الآخرون الذين نعتوني بالفاشل.
أستبعد عن التنمية البشرية كتب أو محاضرات أخرى، تقع عادة تحت تصنيف أكثر انضباطاً، وبمضمون أكثر واقعية، تهدف للمساعدة والتطوير الذاتي، بأفكار مبنية على مبادئ واقعية وعميقة، مستخلصة من علم الإدارة وعلم النفس، بل وتنتقد تلك المحتويات الأخرى، التي تلجأ للإيهام بالأفكار الخرافية والنصب بالحلول السريعة المعلبة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع