شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
يوم أكلت لحم الخنزير لأوّل مرّة

يوم أكلت لحم الخنزير لأوّل مرّة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والحريات الشخصية

الجمعة 22 ديسمبر 202311:29 ص

مثل أي فتاة في أسرة عربية مسلمة، تربيت على أن كل شيء في حياتي يجب أن يخضع لمقياس الحرام والحلال، ولا فرصة لتجريب أي شيء خارج هذه المساحة، ولو من باب الفضول حتى. وبسبب حياتي في مصر التي لا يذكر فيها اسم الخنزير إلا للإهانة والسبّ، وذكره المحدود في بعض روايات نجيب محفوظ، عن الطبقة البرجوازية القديمة التي لم تكن تصوم رمضان وكانت تأكل سندوتشات لحم الخنزير، لم يجمعني أي فضول أو رغبة سابقاً في التجربة، ولكن عندما سافرت إلى أوروبا ووجدت لحم الخنزير أمامي في بوفية الفندق لأول مرّة، قرّرت المغامرة والتجريب بحظّي من الجنّة والنار، رغم الرجفة التي كانت تنتابني حين كنت أسمع عن تناوله من قبل بعض المسلمين حين كنت صغيرة.

قبل أن أحكي عن أي شيء، أريد الإشارة إلى أن لدي اضطرابات هضمية مرتبطة باللحوم، على سبيل المثال، فأنا لا أستطيع تناول لحم البقر والأرانب والحمام والبط والإوز، يمكن القول باختصار إني أتناول لحم الجاموس والدجاج فقط، شرط ألا يكون مسلوقاً، لذا كانت تجربة تناول لحم الخنزير متضاربة في ذهني، فكنت أخشى من أنها ستكون تجربة مؤذية، وستؤلم معدتي مثلما تفعل أنواع اللحم الأخرى، التي ربما تؤلم معدتي لأيام وتجعلني أشعر بالقرف من نفسي، إن تناولتها، وبين الأفكار الذهنية المتوارثة عن الخنزير ككائن قذر، وأن لحمه بالضرورة سيعكس هذه القذارة.

أخذت قطعة وأخفيتها بهدوء حتى لا يأتي أحد من  زملائي العرب الذين أقابلهم لأول مرة، ويعلّق على ما أفعل، أياً كان تعليقه، خاصة وأني محجبة. أكلت أول قضمة، وفوجئت بأنه كان لذيذاً فعلاً

أمام البوفيه، سألت صديقاً لي بشكل سريع عنه، وأكّد لي ما رأيته أمامي، فهناك ثلاثة أنواع متاحةHam, Peacon, pork. ثلاثة أنواع تبدو تماماً مثل اللانشون المصنّع الذي نعرفه نحن المصريين، واحد يمكن تناوله كما هو والآخر تم شيّه على النار، والثالث قطع مستديرة صغيرة لونها أفتح وفيها بقع دهن بيضاء. أخذت من النوعين الأولين شرائح صغيرة، وقلت لأجرب.

في البداية، أخذت قطعة وأخفيتها بهدوء حتى لا يأتي أحد من  زملائي العرب الذين أقابلهم لأول مرة، ويعلّق على ما أفعل، أياً كان تعليقه، خاصة وأني محجبة. أكلت أول قضمة، وفوجئت بأنه كان لذيذاً فعلاً، بل أطعم من أنواع لحوم أخرى لا أحبها، والأهم أني فهمت أنه لا يجب أن نقارن لحم الخنزير باللحوم التي نتناولها في الشرق الأوسط، لأن طريقة طهيه أساساً مختلفة، فلحم الخنزير صالح للتناول على الإفطار وبشكل خفيف وفي سندويتشات، لا أن يقدم كوجبة يطهى عليها أطعمة عدة، مثلما نفعل في مصر مثلاً.

للحظات، كنت أنظر لنفسي وأنا أرتكب معصية بهذه البساطة والسهولة، لكن... لم تنته الدنيا، ولم يكن سيئاً مثلما توقعت، خاصة مع كل الاضطرابات الهضمية التي أعاني منها، وشعرت للحظات أني مسيطرة على جسدي وأفعل ما أريد. ها هو نوع آخر من المحظورات أجرّبه الآن، دون أي سلطة من أحد.

جرّبت لحم الخنزير بأنواعه المختلفة عدة مرات خلال إقامتي، ولكن المثير أني في كل مرة أبدأ بتناوله، كانت تجتمع كل الأفكار السلبية عنه في ذهني، حول مدى حقارة هذا الحيوان، وحول حرمانيته، وحول تربيته وسط القاذورات. تشوّش الأفكار المسبقة ذهني في كل مرة، رغم أني أكلته مراراً وتكراراً واستمتعت بطعمه في كل المرات، إلا أن الأفكار أحياناً توقفني لدقائق وتجعلني أفكّر، لكن الأهم من أي أفكار، كان الانطباع السلبي الأقوى من أي شيء آخر، رغم عدم اهتمامي الديني بالأشياء، أو حتى شعوري بالذنب لما أفعل، إلا أن الموروثات الثقافية كان لها وقع ثقيل علي، فكأني لا آكل لحماً عادياً بل قائمة من الممنوعات والأحاديث الدينية.

الآن وانا أكتب هذه المقالة، لا أتذكر طعم اللحم الشهي الذي تذوقته، بل أتذكر أفكاري المتضاربة التي كادت تجعلني أتقيأ وأنا أتناول شيئاً استمتعت بمذاقه حقاً، وما ضايقني بعد ذلك هو تعليق أحد زملائي الذين قابلتهم لأول مرة، حوله. أخبرني بهدوء: "على فكرة هذا لحم خنزير"، ورددت عليه متفاجئة: "أووه فعلاً، شكراً لك"، وعلق كذلك على  شرائح الدجاج التي كنت أتناولها، والتي تشبه "اللانشون" أيضاً بأنها ليست حلالاً، فهم يقتلونها بطريقة غير إسلامية، بالصعق وغير ذلك... يا إلهي، متى ينتهي هذا.

جعلني كلامه أرغب بالتقيؤ، رغم أن طعمها كان لذيذاً. أولاً، لماذا يتدخّل شخص في شيء لا يعنيه، وفي موضوع شخصي جداً مثل ماذا آكل، ما الذي يعينه في ذلك أو يضره؟ ولماذا يجب أن أفكر في تفاصيل ذبح الدجاج وطرق التعامل معه قبل طهيه، وأنا على بعد ثوان من بلعه وإدخاله جسدي؟ لماذا يفرض المسلمون، باختلاف جنسياتهم، وصاية دائمة على الآخرين وما يفعلونه؟ ولم يصبح الطعام شأناً عاماً يتدخّل فيه الجميع دون إذن أو طلب؟

بعد أن تركني هذا الصديق، أكملت أكلي رغم كل الأفكار المستفزّة التي صعدت لرأسي، وشعرت أني بحاجة لعلاج تراكمات اضطراباتي مع الطعام، فالأفكار تشتت ذهني وتؤلم معدتي، ولكن، بينما كنا نتناول الغداء الذي كان بالأساس كرات لحم بقري مستديرة وبيضاء اللون، كنت أتناولها على مضض لعدم توفّر بدائل، أتى صديق آخر يحاول إقناعي، بمزاح ثقيل، بأنها لحم خنزير، قائلاً: "انظري كيف أنه أبيض اللون، رائحته سيئة، الدهون فيه عالية"... وغيرها من الجمل التي جعلتني أصرخ في وجهة: "كفاية"، وتوقفت عن تناول هذه الكرات طوال فترة إقامتي.

فكأني لا آكل لحماً عادياً بل قائمة من الممنوعات والأحاديث الدينية

في وقت لاحق، حكيت لصديق يدّعي أنه منفتح على أكلي للحم الخنزير، فوبخني وصاح في بشكل مبالغ فيه، لا لأني فعلت شيئاً محرّماً بل لمدى احتقاره لهذا الحيوان، ومدى قرفه مما فعلته، وهذا ما أدركته حينما تحدثت مع بعض أصدقائي عن التجربة، وأخبروني أن أكثر الملحدين انفتاحاً يقفون عند الخنزير. لا أحد يأكله أو يرغب في محاولة تذوقه.

انتهت إقامتي الأوروبية وقد تناولت الكثير من الهام والبورك، وأصبحت أكثر تصالحاً مع نفسي، رغم صعوبة الحصول على هذه النوعية من اللحوم في مصر، وفي بيتنا بالأخص، إلا أنني استمتعت بها وتركت نفسي لأجرّبها عندما تحين الفرصة.

شاءت الصدفة أن أسافر إلى دولة عربية الأسبوع الماضي، ولأني أقمت في فندق عالمي، أحتوى البوفيه على لحم خنزير أيضاً. بكل سعادة وضعت شريحة في طبقي، لأتناوله بهدوء، ورغم أن الأغلبية كانوا عرباً ومسلمين، حتى من تناولت الإفطار معهم. سألني صديقي المصري أمام جمع من الأصدقاء العرب: "أيه دا أنت بتاكلي بورك"، فقلت: "آه باكل بورك، وإذا كان عاجبك بقى"، فصمت تماماً وأخذت أتناول نصيبي من اللحم الشهي دون الالتفات لأحد.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

خُلقنا لنعيش أحراراً

هل تحوّلت حياتنا من مساحةٍ نعيش فيها براحتنا، بعيداً عن أعين المتطفلين والمُنَصّبين أوصياء علينا، إلى قالبٍ اجتماعي يزجّ بنا في مسرحية العيش المُفبرك؟

يبدو أنّنا بحاجةٍ ماسّة إلى انقلاب عاطفي وفكري في مجتمعنا! حان الوقت ليعيش الناس بحريّةٍ أكبر، فكيف يمكننا مساعدتهم في رصيف22، في استكشاف طرائق جديدة للحياة تعكس حقيقتهم من دون قيود المجتمع؟

Website by WhiteBeard
Popup Image