شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
في محبة  ودفء

في محبة ودفء "طبق العدس"

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والتنوّع

الثلاثاء 19 ديسمبر 202311:15 ص

كانت ليلة أشد برودة من ليلتي هذه، ويوما أقل بؤساً من أيامنا هذه. متكتكاً من البرد، رغم أننا في بداية فصل الربيع، أقف أمام دار القضاء العالي، برفقة حفنة من الأصدقاء والرفاق، نعلّق أعيننا كلنا بسيارة الترحيلات التي يُحتجز بداخلها ثمانية رفاق آخرين، تم إلقاء القبض عليهم أثناء مظاهرة سلمية مناهضة لغزو أمريكا للعراق، في حرب الخليج الثالثة عام 2003.

انطلقت المسيرة من أمام نقابة الصحفيين ونقابة المحامين في وسط البلد بالقاهرة، وجالت شوارع المنطقة المحيطة بالهتافات ضد أمريكا والإمبريالية والحرب، قبل أن تحاصرها جحافل الأمن المركزي، ويلقون القبض على عدد من قادة المظاهرة، ويحتجزونهم في السيارات التي كانت تقل العساكر قبل ساعات.

 خمس سيارات امتلأت بالمتظاهرين وتفرقت في آخر اليوم، لتنقلهم إلى أماكن بعيدة عن أماكن المظاهرة، وتوزعهم على أقسام القاهرة، قبل الإفراج عنهم في الصباح أو بعد عدة أيام، كما هو المعتاد في أيام "مبارك".

أمسك أحد الرفاق المحتجزين بالشباك الحديدي الصغير من داخل السيارة التي لحقنا بها، واستقرت أمام دار القضاء العالي، وصاح: "يا جماعة أنا عايز أكل عدس"، لينطلق ثلاثة من الواقفين بجواري لشراء العدس من أحد المطاعم التي تشتهر ببيعه. عادوا بأكياس كبيرة محملة بعلب بلاستيكية بداخلها العدس. وزعوها على الجميع، وأنا من ضمنهم، ثم استأذنوا ضابط الأمن لإدخال الطعام لرفاقنا المحبوسين منذ أكثر من 12 ساعة دون طعام، داخل السيارة.

كنت الطفل الذي يقلد شقيقه الأكبر في كل شيء، حتى في كراهيته لطبيخ العدس دون أن أتذوقه. كان ذلك قبل أن أكبر ويخبرني العدس بنفسه، في هذه الليلة الشتوية القارصة، بخطأ أخي الأكبر في كراهيته له

كنت أنا الآخر جائعاً وبرداناً وجسدي الهزيل لا يحتمل البرد الذي لم أعمل حسابه هذا الصباح وأنا أرتدي قميصاً خفيفاً. تمنيت أن أكون داخل عربة الترحيلات مع الآخرين لأتقي شر هذا الصقيع المفاجئ. والآن لن أرفض أي طعام أجده أمامي، فما بالك بطعام ساخن، حتى لو كان هذا الطعام  هو "العدس" الذي لا أحبه.
دفّأت يدي أولاً بعلبة العدس وأنا أجلس على الرصيف بمحاذاة باقي الرفاق وعلبهم في أيديهم، قبل أن أنزع الغطاء ويلفحني بخار ذو رائحة ذكية جعلتني أغمض عيني وأتشمّمها بتلذذ، رائحة أوصلتني لمطبخ أمي في برهة من الزمن. 
كنت الطفل الذي يقلد شقيقه الأكبر في كل شيء، حتى في كراهيته لطبيخ العدس دون أن أتذوقه. كان ذلك قبل أن أكبر ويخبرني العدس بنفسه، في هذه الليلة الشتوية القارصة، بخطأ أخي الأكبر في كراهيته له. يا الله... ما هذا المذاق الساحر اللذيذ. كل هذا الدفء الذي يبعثه في الروح والجسد. من يومها بدأت أعي أن الحياة أرحب من وجهة نظر أخي وذائقته. وقرّرت مراجعة كل ما يتعلق بما تعلمته منه، وكل الفضل في معرفتي الشخصية وتجاربي الحياتية، لطبق العدس ذاك.
قبل حكايتي مع أخي بآلاف السنين، جرت واقعة أخرى بين شقيقين آخرين، بسبب العدس أيضاً، عندما باع عيسو ابن اسحق، بكوريته لشقيقه يعقوب مقابل طبق من العدس، كما يذكر سفر التكوين في إصحاحه الخامس والعشرين، فيقول: "وطبخ يعقوب طبيخاً فأتى عيسو من الحقل وهو قد أعيا. فقال عيسو ليعقوب أطعِمني من هذا الأحمر لأني قد أعييت، لذلك دعي اسمه أدوم. فقال يعقوب بعني اليوم بكوريتك. فقال عيسو: ها أنا ماض إلى الموت فلماذا لي بكورية. فقال يعقوب احلِف لي اليوم، فحلف له فباع بكوريته ليعقوب. فأعطى يعقوب عيسو خبزاً وطبيخَ عدس، فأكل وشرب وقام ومضى، فاحتقر عيسو البكورية".

وربما لهذه القصة أثر في نفس أخي المؤمن ليحتقر بدوره العدس، الذي كان سبباً في شق الخلاف بين الشقيقين. كل هذه الحكايات تعد معاصرة لسيرة طعام يعتبر أحد مكونات الحضارة الإنسانية، منذ اكتشاف زراعته وطبخه قبل 13 ألف عام، ويعرفه كل سكان العالم تقريباً، لذلك ليس عجيبا أن يكون طعاماً مقدساً في كل الديانات الإبراهيمية، وليس مستغربا أن يثور بنو اسرائيل على طعام الرب ونبيهم موسى، وطالبوه بإعادتهم لمصر ليأكلوا من "عدسها وبصلها".

في مصر، كل الأمهات يعتبرن العدس، بجوار الفول، هما عماد الإنسان لمقاومة الجوع، ولا غنى عنهما في المطبخ المصري منذ القدم، وليس للأمر علاقة بالمستوى الاجتماعي والاقتصادي. فكل المصريين يعشقون الفول والعدس، لكن يتفوق العدس بعدة مزايا، أهمها سرعة طبخه وهضمه، مقارنة بالفول أو باقي البقوليات الأخرى، وهو كذلك غني بالبروتينات والألياف والفيتامينات والمعادن، والأهم من كل ذلك أنه الحل الأمثل، وكان الأرخص حتى وقت قريب، لمقاومة صقيع الشتاء وغدر البرد في شوارع مصر وليلها القاسي. 

تمتلئ المسيحية بقصص عن أنبياء وقديسين رفضوا أكل اللحوم، وكانوا أشدّاء وأصحّاء بسبب أكل العدس، ويعرف عيد "خميس العهد" في مصر باسم "خميس العدس"
وفي مصر أيضاً، نتأكد نحن الأبناء من قدوم الشتاء عندما تقوم أمهاتنا بطبخ أول حلّة عدس، أواخر شهر نوفمبر مع بداية برد أواخر الخريف. هنا فقط نبدأ في التحصّن من البرد. وبالنسبة لأمي، وكل المسيحيين في مصر، يعتبر العدس رفيق المسيحي المؤمن، بداية من نفس الفترة بسبب بدء صوم الميلاد لمدة 43 يوماً (تبدأ من 15 نوفمبر وحتى 6 يناير) وطوال أيام  وشهور الصيامات الأخرى الطويلة صيفاً وشتاء. ليس للرهبان والنسّاك فقط، ولكن تقريباً في كل بيت مسيحي مصري. وتمتلئ المسيحية بقصص عن أنبياء وقديسين رفضوا أكل اللحوم، وكانوا أشدّاء وأصحّاء بسبب أكل العدس، ويعرف عيد "خميس العهد" في مصر باسم "خميس العدس"، لارتباطه الوثيق بالصوم المسيحي ومقاطعة اللحوم ومنتجات الحيوانات.
لكني بعد سن الأربعين خانني القولون وأصبحت لا استطيع أكل الفول، لكني أنتظر قدوم الشتاء الذي لا أتحمّله، فقط بسبب أنه يحمل نسمات ورائحة طبيخ العدس في بيتنا، الذي لا يوجد طريقة مثلى في طبخه، فهو يقبل كل الإضافات ليحولها إلى طعم واحد، عدس. فهو  يستقبل في طبخه كل أنواع الخضروات والتوابل تقريباً، حيث يمكنك تقطيع بطاطس عليه وهو يغلي، ويقبل تقطيع الكوسا والطماطم والبصل، والجزر الأصفر، ثم يضرب الخليط جيداً بالخلاط، ليخرج في النهاية عدس أصفر جميل، ينتظر وضع "طشة الثوم" فوقه، مع الشعرية أو بدون، وإضافة قطعة زبدة صغيرة، إذا لم تكن مسيحياً صائماً، ويؤكل مع حلقات البصل الحمراء والعيش المحمر. وبالهنا والدفا.

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image