كانت ليلة أشد برودة من ليلتي هذه، ويوما أقل بؤساً من أيامنا هذه. متكتكاً من البرد، رغم أننا في بداية فصل الربيع، أقف أمام دار القضاء العالي، برفقة حفنة من الأصدقاء والرفاق، نعلّق أعيننا كلنا بسيارة الترحيلات التي يُحتجز بداخلها ثمانية رفاق آخرين، تم إلقاء القبض عليهم أثناء مظاهرة سلمية مناهضة لغزو أمريكا للعراق، في حرب الخليج الثالثة عام 2003.
انطلقت المسيرة من أمام نقابة الصحفيين ونقابة المحامين في وسط البلد بالقاهرة، وجالت شوارع المنطقة المحيطة بالهتافات ضد أمريكا والإمبريالية والحرب، قبل أن تحاصرها جحافل الأمن المركزي، ويلقون القبض على عدد من قادة المظاهرة، ويحتجزونهم في السيارات التي كانت تقل العساكر قبل ساعات.
خمس سيارات امتلأت بالمتظاهرين وتفرقت في آخر اليوم، لتنقلهم إلى أماكن بعيدة عن أماكن المظاهرة، وتوزعهم على أقسام القاهرة، قبل الإفراج عنهم في الصباح أو بعد عدة أيام، كما هو المعتاد في أيام "مبارك".
أمسك أحد الرفاق المحتجزين بالشباك الحديدي الصغير من داخل السيارة التي لحقنا بها، واستقرت أمام دار القضاء العالي، وصاح: "يا جماعة أنا عايز أكل عدس"، لينطلق ثلاثة من الواقفين بجواري لشراء العدس من أحد المطاعم التي تشتهر ببيعه. عادوا بأكياس كبيرة محملة بعلب بلاستيكية بداخلها العدس. وزعوها على الجميع، وأنا من ضمنهم، ثم استأذنوا ضابط الأمن لإدخال الطعام لرفاقنا المحبوسين منذ أكثر من 12 ساعة دون طعام، داخل السيارة.
كنت الطفل الذي يقلد شقيقه الأكبر في كل شيء، حتى في كراهيته لطبيخ العدس دون أن أتذوقه. كان ذلك قبل أن أكبر ويخبرني العدس بنفسه، في هذه الليلة الشتوية القارصة، بخطأ أخي الأكبر في كراهيته له
وربما لهذه القصة أثر في نفس أخي المؤمن ليحتقر بدوره العدس، الذي كان سبباً في شق الخلاف بين الشقيقين. كل هذه الحكايات تعد معاصرة لسيرة طعام يعتبر أحد مكونات الحضارة الإنسانية، منذ اكتشاف زراعته وطبخه قبل 13 ألف عام، ويعرفه كل سكان العالم تقريباً، لذلك ليس عجيبا أن يكون طعاماً مقدساً في كل الديانات الإبراهيمية، وليس مستغربا أن يثور بنو اسرائيل على طعام الرب ونبيهم موسى، وطالبوه بإعادتهم لمصر ليأكلوا من "عدسها وبصلها".
في مصر، كل الأمهات يعتبرن العدس، بجوار الفول، هما عماد الإنسان لمقاومة الجوع، ولا غنى عنهما في المطبخ المصري منذ القدم، وليس للأمر علاقة بالمستوى الاجتماعي والاقتصادي. فكل المصريين يعشقون الفول والعدس، لكن يتفوق العدس بعدة مزايا، أهمها سرعة طبخه وهضمه، مقارنة بالفول أو باقي البقوليات الأخرى، وهو كذلك غني بالبروتينات والألياف والفيتامينات والمعادن، والأهم من كل ذلك أنه الحل الأمثل، وكان الأرخص حتى وقت قريب، لمقاومة صقيع الشتاء وغدر البرد في شوارع مصر وليلها القاسي.
تمتلئ المسيحية بقصص عن أنبياء وقديسين رفضوا أكل اللحوم، وكانوا أشدّاء وأصحّاء بسبب أكل العدس، ويعرف عيد "خميس العهد" في مصر باسم "خميس العدس"
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
حوّا -
منذ يومينشي يشيب الراس وين وصل بينا الحال حسبي الله ونعم الوكيل
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامكل هذه العنجهية فقط لأن هنالك ٦٠ مليون إنسان يطالب بحقه الطبيعي أن يكون سيدا على أرضه كما باقي...
Ahmed Mohammed -
منذ 3 أياماي هبد من نسوية مافيش منطق رغم انه يبان تحليل منطقي الا ان الكاتبة منحازة لجنسها ولا يمكن تعترف...
مستخدم مجهول -
منذ 4 أياموحدث ما كنا نتوقعه ونتأمل به .. وما كنا نخشاه أيضاً
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 4 أيامصادم وبكل وقاحة ووحشية. ورسالة الانتحار مشبوهة جدا جدا. عقاب بلا ذنب وذنب بلا فعل ولا ملاحقة الا...
mahmoud fahmy -
منذ أسبوعكان المفروض حلقة الدحيح تذكر، وكتاب سنوات المجهود الحربي، بس المادة رائعة ف العموم، تسلم ايديكم