شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!

"الهروب من المصفوفة"... علمونا أن السعادة صعبة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والتنوّع

الخميس 21 ديسمبر 202311:00 ص

عندما شاهدت سلسلة أفلام "ماتريكس" أو المصفوفة، وقت ظهورها؛ أحببتها وأعجبتني الفرضية التي يطرحها الفيلم عن وجود البشر جميعاً داخل محاكاة غير حقيقية؛  عقولنا موصلة بأجهزة وأجسامنا ترقد بخمول، بينما نعيش وهم الحياة في عقولنا فقط.

 ويعيش عقلنا تلك المحاكاة على أنها الواقع؛ بينما هذا الواقع هو مجرد برامج مصمّمة لخداع العقل البشري، ولكن وقتها – ومع إعجابي الشديد بفكرة الفيلم- كنت أتعامل مع الفكرة على أنها مجرد خيال علمي، أمر لا يمكن أن يكون حقيقة.

ومع مرور الزمن؛ اكتشفت أن المصفوفة حقيقية؛ ربما ليست بالمعنى الحرفي الذي طرحه الفيلم؛ ولكن بالمعنى القيمي.

يولد الإنسان وفِكره وروحه متحرّران من أي برمجة مسبقة، صفحة بيضاء جاهزة للكتابة، مثل جهاز جديد مستعد لاستقبال نظام تشغيل، ومهندسو البرمجة في هذه الحالة هم الآباء، والبرامج التي يتم تحميلها وتشغيلها في عقل وروح هذا الطفل؛ هي البرامج والأكواد المتوارثة عن الأجيال السابقة؛ صنعها البشر بأنفسهم وافترضوا أنها الحقيقة ومرّروها من جيل إلى الجيل.

ماذا لو كان صاحب المعلومات الأولى في الحياة مخطئاً أو متلاعباً؟ ماذا لو كانت البرمجة والأكواد التي وضعت للمرة الأولى، وعلى أساسها نعيش مصفوفة كاملة، كان مضللاً، وظلّت المعلومة تنتقل من وعي إلى وعي دون التفكير فيها؟ 

 ومن يضع تلك الأكواد والبرمجة؟

من لديهم السلطة حتماً، سواء كانت سياسية أو دينية أو اجتماعية، والتي يندرج تحتها بند السلطة الأبوية.

أتذكر هذا اليوم جيداً؛ حين أمسكت ابنة أخي بالملعقة- وهي الطفلة الوحيدة التي تعاملت معها طوال حياتي عن قرب- وسألتني: ما هذا؟

وفي لحظة إدراك فريدة من نوعها بالنسبة لي، استوعبت أن ما سأقوله الآن سيخزّن في برنامج وعيها للأبد، وقلت: "ملعقة... نأكل بها". هكذا أخبرتني أمي، وهكذا أخبرتها أمها من قبل، ولكن ماذا لو أخبرت الطفلة أن تلك الأداة في يدها هي مفتاح، لا يفتح سوى باب سحري لا يمكن الوصول إليه إلا في أعماق الصحراء، ووراء هذا الباب كل ما تشتهيه الأنفس، ولكن لأن أحداً لم يجد تلك الأبواب أبداً، قرّرنا استخدام تلك المفاتيح المكدسة لشيء مفيد، وهو تناول الطعام.

ستصدقني وستخزّن تلك المعلومة، وستكون تلك حقيقة لا جدال فيها، وربما تعيش بقية حياتها في رحلة بحث محمومة عن هذا الباب السحري الذي لا وجود له إلا في خيالي أنا.

 اعذروني على المثال البسيط، ولكن ما أقصده: ماذا لو كان صاحب المعلومات الأولى في الحياة مخطئاً أو متلاعباً؟ ماذا لو كانت البرمجة والأكواد التي وضعت للمرة الأولى، وعلى أساسها نعيش مصفوفة كاملة، كان مضللاً، وظلّت المعلومة تنتقل من وعي إلى وعي دون التفكير فيها؟

وقتها، فيما يخصّ الملعقة سيكون الأمر هيّناً، ولكن ماذا لو كانت مفاهيم مثل الحب والخير والسعادة؛ قد تمت برمجتها في عقولنا منذ البداية؛ برمجة مضلّلة؛ لتتناسب مع متطلبات مصفوفة وضعها آخرون ذو سلطة، لا يريدون منا سوى أن نكون تروساً في ماكينة مخبأة في قبو الحياة؛ نسمع وقع أقدام فوقنا، دون أن ندري أنها صدى لصوت الحياة الحقيقية، والتي استطاع أصحابها أن يكسروا برمجتها ويعيشوا خارج مطحنة تروسها؛ ليس لسبب إلا لأنهم من يملكون أكواد تلك المصفوفة ويمكنهم التحكم فيها.

أرى أن التعود والتأقلم هما أسلحة الماتريكس الأساسية، وحتى نتمرد على الاثنين يجب أن ندرك كيفية عملهما، والتي تعتمد كلياً على العقل الباطن أو اللاوعي، والذي عليه أن يخزن المعلومات التي تمارسها بشكل يومي، مثل غسل الأسنان والأعمال اليدوية اليومية البسيطة، بحيث تستيقظ من النوم كل يوم، وتتحرّك بشكل "آلي" لتنفذ طقوس الصباح، دون الوعي بكل تفصيلة صغيرة فيها.

 فإذا سألتك الآن: كيف تربط رباط الحذاء؟ ستفكر كثيراً، وتحرّك يدك وكأنك تربطه لتستعيد حركات اليد المطلوبة لربط الحذاء، فمن الصعب وصفها بكلمات دقيقة وسريعة، لأنها في العقل الباطن أو  "المتحكم الآلي"، كما يطلق عليه أطباء النفس.

وجدت السعادة وهي تخصني وحدي، وأجدها في لحظات الهروب من المصفوفة والبحث المحموم في أعماق الصحراء عن باب سحري يدخلني في عالم السلام النفسي

تخزين تلك المعلومات البسيطة في اللاوعي يسهّل الحياة علينا، ويجعلنا نفكر في الأشياء الأكبر في الحياة، في القيم والمشاعر والطموحات، ولكن صُنّاع الماتريكس استخدموا العقل الباطن – هذا السلاح الفتاك- ضدّنا، وتمّ تخزين وبرمجة حياتنا كلها بالكامل عليه، فأصبحنا نسير في الحياة بشكل آلي.

مفهومنا عن السعادة نستخدمه من البرمجة القادمة من الإعلانات والدراما، ومفهومنا عن حقوق الإنسان نستمده من سلطات لا تعرف عن الإنسان إلا كيفية ترويضه.

التمرّد على المصفوفة والهروب منها ليس أمراً سهلاً، ولن أخبركم أنني قد انفصلت عنها؛ فهذا أمر لا يأتي في يوم وليلة، ويصعب تحقيقه كلياً طالماً لازلت على قيد الحياة، ولكن الإنجاز الحقيقي الذي يشعرني ببعض من الرضا، انني اكتشفت...

اكتشفت أن المال جزء من المصفوفة، مفتاح لباب سحري خيالي قالوا لنا إنه من سيطعمنا في الحياة، وأن السعادة في نظر المصفوفة ليس لها تعريف، وأنها شيء وهمي، وأنها مجرد لحظات مسروقة.

 يجب أن تصدق – وفقاً لقوانين المصفوفة- أن السعادة صعبة للغاية، الوصول لها يحتاج كفاحاً، وربما لا تشعر بها أيضاً بعد كل هذا الشقاء. تخبرك المصفوفة أن التخرج من الجامعة والزواج وإنجاب الأطفال هو السعادة.

يتم برمجة المتحكم الآلي داخلك على تلك المعلومة منذ الصغر، وبعد سنوات طويلة من الكفاح للوصول للأهداف الموضوعة لك، لا تشعر بالسعادة! فتظن أنها غير موجودة، وهذا هو المطلوب، حتى تكون ترساً صامتاً، غير طموح، يكدح من أجل لقمة العيش، ولن أقول أيضاً إنني تمردت على هذا الوضع، ولكني وجدت السعادة وهي تخصني وحدي، وأجدها في لحظات الهروب من المصفوفة والبحث المحموم في أعماق الصحراء عن باب سحري يدخلني في عالم السلام النفسي، وإذا لم أجد الباب، فمن الأفضل لي أن أعيش وهماً من صنعي، بدل الوهم المتفق عليه منذ مئات الأجيال.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

ثورتنا على الموروث القديم

الإعلام التقليديّ محكومٌ بالعادات الرثّة والأعراف الاجتماعيّة القامعة للحريّات، لكنّ اطمئنّ/ ي، فنحن في رصيف22 نقف مع كلّ إنسانٍ حتى يتمتع بحقوقه كاملةً.

Website by WhiteBeard
Popup Image