ليس عيد الميلاد في فلسطين مثله مثل سواه في أي مكان في العالم. فالاحتفالات التي لا تأخذ طابعاً مادياً أو استهلاكياً، تظل متواضعة كما يجب أن تكون في بلد ميلاد المسيح، لكنها أكثر روحانية وأعلى رمزية. وإنارة شجرة الميلاد في بيت لحم، رغم أنها لا تنافس "ديكورات" أشجار عواصم العالم، لكنها تعتبر مناسبة "عالمية" يحضرها مسيحيون من كل البلاد، ويتابعونها في كل العالم.
اعتادت مدينة بيت لحم أن تقيم استعراضاً كبيراً للمجموعات الكشفيّة في شوارعها في فترات الأعياد، مصحوباً بالموسيقى والتراتيل التي تعلو لدى استقبال رؤساء الكنائس الآتين من القدس إلى بيت لحم للاحتفال.
"هذه الاحتفالات أصبحت جزءاً لا يتجزأ من هويتنا الفلسطينيّة، كون عيد الميلاد مناسبة فلسطينيّة بامتياز، الاحتفالات ستُلغى هذا العام لكن الصلوات ستستمر" يقول لرصيف22 راعي كنيسة الميلاد الإنجيليّة اللوثريّة في بيت لحم القسيس منذر إسحاق.
"من شأن هذا الإلغاء أن يقول للعالم الذي يراقب ويترقب هذا العيد، أنَّ الفلسطينيين حزينون، فاقدون للأحباب، مدمرون، أطفالهم يقتلون، وعائلاتهم تشرد، وبيوتهم تزال عن وجه الأرض"
لا احتفالات في ساحة المهد
للمرة الأولى منذ بدء الاحتفالات الحديثة وببيان مشترك بين الكنائس، لن يُزيَّن مسقط رأس المسيح بشجرة الميلاد في ساحة المهد، وبدلاً من الاحتفالات فقد عُبّر عن الميلاد في كنيسة الميلاد بمغارة وأنقاض بينما الطفل يسوع وسط هذه الأنقاض.
عن هذا يقول إسحاق: "إلغاء الاحتفالات من قِبل رؤساء الكنائس هو تعبير عن الواقع؛ فالشعب لا يشعر بأن من المناسب أن يحتفل، كيف نحتفل وأهلنا في غزة يتعرضون لإبادة؟ القرار تعبير عن واقع وعن ألم، وعن انكسار".
ويتابع: "أرضنا تحتاج السّلام، ونريد وقف عاجل وفوري لحرب الإبادة هذه، كل المسيحيين في الأردن وفلسطين ملتزمون بهذا الأمر"، مشيراً إلى وجود حالة من القلق والخوف حول مصير الناس في غزة، خاصةً وأنها حرب ضد كل الفلسطينيين وليست مجرد فئة ضد فئة، لافتاً إلى تشابه التهجير الحالي بنكبة 1948 وهو ما "يؤكد وحدة المصير في هذه الأرض" بحسب كلماته.
للمرة الأولى منذ بدء الاحتفالات الحديثة وببيان مشترك بين الكنائس، لن يُزيَّن مسقط رأس المسيح بشجرة الميلاد في ساحة المهد، وبدلاً من الاحتفالات فقد عُبّر عن الميلاد في كنيسة الميلاد بمغارة وأنقاض، بينما الطفل يسوع وسط هذه الأنقاض
من جهته، يوضح نائب حراسة الأراضي المقدسة الأب إبراهيم فلتس لرصيف22 أنَّ "الشعب الفلسطيني ينتظر هذه المناسبة كل عام للصلاة واللقاء والاحتفال والتنافس والإبداع في إظهار الصورة المشرقة والأمل إلى العالم أجمع، ولكن نظراً لما يعيشه الشعب من إبادة لم يُشهد لها مثيل منذ الحرب العالمية الثانية قرر مجلس الكنائس في القدس والذي يمثل كل المسيحيين، إلغاء كل الاحتفالات المرافقة للعيد والاقتصار على المراسم الدينية".
ويضيف: "من شأن هذا الإلغاء أن يقول للعالم الذي يراقب ويترقب هذا العيد، أنَّ الفلسطينيين حزينون، فاقدون للأحباب، مدمرون، أطفالهم يقتلون، وعائلاتهم تشرد، وبيوتهم تزال عن وجه الأرض".
ويتساءل: "كيف لعائلة فقدت أحد أبنائها أن تحتفل بالعيد؟ ولكن الفقدان لا يمنع ولا يجوز أن يمنع الصلاة".
كنائس الأردن تلغي الاحتفالات
مطلع تشرين الثاني/ نوفمبر 2023 كان مجلس رؤساء الكنائس في الأردن قد أعلن بداية عن إلغاء جميع فعاليات وأنشطة ومظاهر عيد الميلاد المجيد الاحتفالية لهذا العام احتراماً للشهداء في غزة وعموم فلسطين.
وجاء في بيان له: "جميع تقديمات الكنائس ليومِ الأحد القادم والمُوافِق 12.11.2023 سيكونُ ريعَها لصالح قِطاع غزة وأهله بحسب الأصول والمَعمول به، كما نَحثُّ الجميع للمبادرة بالتّبرع من خلال القنوات الرّسمية التي وفرتها بعض كنائسنا للغرض ذاته".
نائب حراسة الأراضي المقدسة: "من شأن هذا الإلغاء أن يقول للعالم أنَّ الفلسطينيين حزينون، فاقدون للأحباب، مُدمرون، أطفالهم يُقتلون، وعائلاتهم تُشرد، وبيوتهم تُزال عن وجه الأرض".
وساندت "المبادرة العربيّة المسيحيّة" ما أسمته "عروبة قرار المجلس، ولأن المواطنين الأردنيين المسيحيين يشكلون جزءاً رئيساً من نسيج الأمة العربية"، بحسب ما جاء في مؤتمرٍ صحافي عقدته المبادرة الأُسبوع الماضي.
تعلّق عضوة المبادرة رندة نفّاع لرصيف22: "القيم المسيحيّة والإسلاميّة دعت لاحترام الحزن والمصائب، طول عمرنا لو جارنا مات ما بنحتفل، فما بالك لو إبادة؟ إلغاء الاحتفالات مرتبط بقيمنا المتأصلة في المجتمع الأردني".
ويتفق معها عضو المبادرة أيضاً إميل الغوري: "ما يحصل في غزة قاس ومرعب وغير إنساني، ولا يمكن الاحتفال خلال حدوثه، فالمسيحيون في الأردن لا ينظرون إلى أنفسهم بأنهم مكوّن أو طائِفة، الأردن توأم فلسطين، وحين نوقف الاحتفالات فنحن نقف مع أنفسنا".
بلاد عربية أخرى
قرر مسيحيو العراق إلغاء الاحتفالات كذلك لعدة أسباب، وقد أعلنت البطريركية الكلدانية في أربيل إلغاء جميع فعاليات الاحتفال لهذا العام، احتجاجاً على سحب المرسوم الجمهوري من رئيسها الأعلى في العراق والعالم الكاردينال لويس روفائيل ساكو، واحتراماً لضحايا حريق صالة المناسبات في الحمدانية، واستمرار سقوط ضحايا الحرب في غزة.
وفي تقرير نشر في 16 كانون الأول/ ديسمبر 2023 بعنوان "الصراع في جنوب لبنان يخيم بظلاله على احتفالات الميلاد"، قال صاحب مطعم وفندق لبناني "لم يشترِ أحد زينة لأن الجنوب في حالة حداد وألم"، فيما تراجع الإقبال على الشراء ببعض المناطق السوريّة، لكن لم يتم الإعلان عن إلغاء الاحتفالات بشكلٍ رسميّ في البلدين".
صلوات فقط... لأجل المظلومين
حول أهميّة الاحتفالات يقول الأب فلتس: "بسبب مركزيّة العيد بالنسبة للعالم أجمع فإن الميلاد محط أنظار الجميع، ولهذا جرت العادة أن تتسابق القنوات الفضائية العالمية للبث المباشر ورصد كل حركة، ودأبت حراسة الأراضي المقدسة على التأكد من بث قداس عشية الميلاد إلى العالم، والترجمة الفورية لمعظم اللغات لإيصال رسالة العيد وتمكين ملايين المسيحيين وغير المسيحيين من المتابعة. في العيد الحالي أُلغيت كل الاحتفالات المرافقة للعيد واقتُصر الأمر على المراسم الدينية من قداديس وصلوات، والمراسم البروتوكولية؛ لإبقائها وتثبيتها في ظل ضياع الحقوق الحالية للفلسطينيين".
أعلن مجلس رؤساء الكنائس في الأردن عن إلغاء جميع فعاليات وأنشطة ومظاهر عيد الميلاد المجيد الاحتفالية لهذا العام احتراماً للشهداء في غزة وعموم فلسطين. وأن بعض تقديمات الكنائس سيكونُ ريعَها لصالح قِطاع غزة وأهله
ويؤكد الأب فلتس أن كل القضية هي قضية حق وحقوق تاريخية وإنسانية. ويشير إلى أنَّ إلغاء الاحتفالات لم يحدث كثيراً بالرغم من ظروف فلسطين التاريخية، والإلغاء يتم عندما تكون هناك ظروف قاهرة إنسانية، أمنية أو صحية تعصف أو تهدد فلسطين وشعب فلسطين، أو العالم، مثلما حدث خلال جائحة كورونا، وهو قرارٌ موحد بين جميع الكنائس ولم يحدث قط، أن انفردت كنيسة بهكذا قرار.
يسري قرار مجلس الكنائس على كنيسة القدس وتشمل فلسطين التاريخية والأردن، وبالرغم من تضامن الجميع مع الشعب الفلسطينيّ فإن الجغرافية والتاريخ يحكمان القرارات والانتماء، وهناك إلغاء واجب الحدوث لأصحاب القضية.
وفي الأردن لم تكن المرة الأولى التي تُلغى فيها الاحتفالات؛ إذ أُلغيت عام الماضي بعد أن فقدت البلاد 3 مرتبات من الأمن العام خلال مداهمةٍ لخليّةٍ "إرهابيّة"، وأُلغيت عام 2016 على خلفية وقوع ضحايا عسكريين ومدنيين على خلفية هجومٍ "إرهابي" في قلعة الكرك جنوبيَّ البلاد، كما أُلغيت خلال جائحة كورونا وانتشار الوباء. إذ ترى الكنائس في العالم العربيّ أن إلغاء الاحتفالات رسالة حداد على الأرواح وتضامن مع الآخرين.
الميلاد في غزة
أما الميلاد في غزة فقد جاء بنكهة الموت والخوف والدمار، إذ التجأ معظم المسيحيين للكنائس التي لم تسلم من القصف وإطلاق النار، وهم وكثير من المسلمين وجدوا فيها ملاذاً من الموت.
أعلنت البطريركية الكلدانية في أربيل إلغاء جميع فعاليات الاحتفال لعدة أسباب، من بينها سقوط الضحايا في غزة.
كان المستشفى المعمداني في حي الزيتون هو أول مستشفى تقصفه إسرائيل منذ بدء الحرب على القطاع، ثم قصفت الكنيسة الأرثذوكسيّة بعده، كما قتلت سيدتين أمام كنيسة اللاتين في غزة مطلع الأسبوع الحالي.
لفلسطين أهمية كبرى من حيث أساس مركزيّتها لمسيحيي العالم، ففي بيت لحم ولد المسيح، وفي نهر الأردن تعمّد، أما القدس فهي المكان الأقدس لأن المسيح قام في كنيسة القيامة بحسب الاعتقاد المسيحيّ.
هذه المكانة تجعل إلغاء الاحتفالات والإبقاء على الصلوات ذا معنىً ورسالة واضحين للعالم أجمع بأن الجميع يرفضون المجزرة والإبادة الحاصلة، وأن لا أضواء ميلادية ما دام الميلاد يُسرق من الفلسطينيين في غزة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.