شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
أمي التي تحلم بزيارة القدس... هي وآلاف الأقباط المصريين

أمي التي تحلم بزيارة القدس... هي وآلاف الأقباط المصريين

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والخطاب الديني

الأحد 26 نوفمبر 202303:09 م

طوال عشرين عاماً، احتفظت أمي بهدية شقيقها الغالية، التي أهداها لها "خالي المقدس" بعد عودته من رحلة الحجّ لمدينة القدس، مطلع الألفية الجديدة، ليكون أول "مقدّس" في القرية منذ نصف قرن تقريباً، حيث توقفت رحلات حجّ المصريين إلى القدس طوال خمسين عاماً. كان آخرها رحلة جدي أيضاً عام 1966، قبل النكسة بعام واحد، ومن بعدها تم منع الأقباط في مصر من زيارة بيت المقدس، بأمر من الكنيسة القبطية والبابا الراحل كيرلس السادس وقتها، واستمر المنع طوال عهد البابا التالي له، شنودة الثالث، وحتى وقت قريب. 

صليب خشبي من القدس 

"صليب خشبي صغير، شمعة صفراء من الحجم الكبير مقسومة لنصفين، زجاجتا حسك وبخور، زجاجتا زيت مقدس، وثلاثة مناديل صغيرة مطرزة بالصلبان الملونة"، هذه هي حصيلة ما تبقى لأمي من هدية خالي، بعدما وزعت على أبنائها وأحفادها الكثير من الصلبان والشموع وزجاجات الزيت، ليتبقى لها القليل الذي تحتفظ به ملفوفاً بعناية داخل صندوقها الخشبي الصغير، والذي يحتوي أيضاً على إنجيلها وأجبيتها، ونظارتها التي ترتديها وهي تقرأ في الكتاب المقدس كل مساء، بصوت خفيض يكاد يسمعه أبي على السرير بجوارها، وهو ينصت في خشوع لكلام الرب على لسان أمي. 

طوال عشرين عاماً، احتفظت أمي بهدية شقيقها الغالية، التي أهداها لها بعد عودته من رحلة الحجّ لمدينة القدس، مطلع الألفية الجديدة، ليكون أول "مقدّس" في القرية منذ نصف قرن تقريباً

عاش جدي طوال حياته، التي تجاوزت التسعين، يحكي بنفس الشغف تفاصيل زيارته الاستثنائية للقدس في العام 1966. يدبّ الحماس في صوته الخفيض وهو يصف مشهد استقبال ملك الأردن الراحل الحسين بن طلال، للحجاج المصريين، ومصافحتهم له يداً بيد، ومن بينهم جدي.

أتذكر بريق عينيه وهو يحكي القصة بفخر وحنين. بعدها نزلوا الأردن ليتبرّكوا بنهرها المقدس، الذي عُمّد فيه المسيح على يد يوحنا المعمدان، وكانت زيارة نهر الأردن ضمن طقوس رحلة القدس حتى ذلك الوقت. وعندما عادت رحلة جدي إلى مصر، استقبل الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر الحجاج في قصر الرئاسة. 

جدي أيضاً زار القدس 

يضحك من هم حول جدي في جلساتهم المسائية على "مصطبة" دواره القديم، ويقولون له: "أنت رُحت قفلت القدس وجيت"، فقد كانت بالفعل الرحلة الرسمية الأخيرة لأقباط مصريين للحج وزيارة القدس، قبل هزيمة مصر في 5 حزيران/ يونيو 1967 في حربها مع إسرائيل، بعدها صدرت الكنيسة المصرية برئاسة البابا كيرلس السادس، قراراً بحرمان الأقباط من زيارة القدس، قبل تحريرها من الاحتلال ودخولهم رفقة المسلمين، وهو القرار الذي استمر لعقود طويلة. 


وحتى بعد "نصر أكتوبر" 1973 وتوقيع معاهدة "كامب ديفيد"، ظلت زيارة القدس مرفوضة، على المستويين الشعبي والديني الرسمي، من الأزهر والكنيسة المصرية. وأكد البابا السابق شنودة الثالث منع أقباط مصر من السفر لإسرائيل اعتراضاً على إعلان إسرائيل للقدس، بما فيها القدس الشرقية، "عاصمة موحدة وأبدية" لها في العام 1980. وقد ترأس شنودة الكنيسة القبطية الأرثوذكسية لمدة 41 عاماً بين عامي 1971 و2012، لم يزر القدس، لا هو ولا البابا كيرلس السادس الذي تولى قيادة الكنيسة منذ العام 1959 وحتى العام 1971. 

البابا تواضرس يمنع زيارة القدس 

وسط المنع كانت هناك بعض الرحلات ذات الأعداد القليلة، أغلبهم لمسنين، مثلما هو الحال مع خالي وغيره، حيث سمح الأمن المصري لهؤلاء بالسفر إلى إسرائيل للحجّ، كما سمحت لهم كنائسهم، الكاثوليك والبروتستانت، بالزيارة، فيما ظلت الكنيسة الأرثوذكسية على موقفها تحت قيادة البابا الراحل شنودة الثالث، ومن بعده سار على نفس النهج البابا تواضروس الثاني، قبل أن يسمح مؤخراً، في تصريحات للتلفزيون الرسمي، بزيارة الأقباط للقدس، معترفاً أن المنع كان قراراً خاطئاً، لا سيما مع وجود ممتلكات للكنيسة القبطية في القدس، مثل "دير السلطان"، ووجود مطران قبطي مصري منذ القرن الثالث عشر ميلادي في القدس، وزيارة الحجاج المصريين لهذه المعالم بات أمراً ضرورياً لتأكيد أحقيّتنا لها، مؤكداً أن عدد الأقباط في القدس تراجع من 2000 أسرة إلى ألف أسرة فقط بسبب عدم زيارة المصريين للقدس، والمضايقات التي يلاقونها من الجانب الاسرائيلي.   

سمعت أمي تدعو "السما تنتقم منهم" ليلة قصف كنيسة القديس "برفوريوس" في غزة وبعد أن سمعتْ عن مقتل الأطفال والنساء الذين ذهبوا ليحتموا ببيت الرب. 

اعتادت أمي أن تُخرج صندوقها الثمين لتراجع محتوياته وتلمعها وتعيد ترتيبها كل فترة، كانت آخرها ليلة قصف قوات الاحتلال لكنيسة القديس "برفوريوس" في غزة الشهر الماضي، أحد أقدم الكنائس في العالم، بعد أن شاهدت الأخبار في التلفزيون، وسمعت عن مقتل الأطفال والنساء داخل الكنيسة، والذين ذهبوا ليحتموا ببيت الرب. تدعو أمي على الفاعل "السما تنتقم منهم"، وتصلي ليعود أصحاب الأرض لبيوتهم سالمين قبل نهاية العام، وأن تستطيع هي في العام القادم تحقيق حلمها المؤجل طوال عقدين، لزيارة القدس مدينة السلام ودخول كنيسة القيامة وقبر المسيح، ومشاهدة النور المقدس وهو يخرج من القبر. 

كلام السياسة لا بيودي ولا بيجيب 

ذكرني صندوق أمي وعاداتها تلك بمشاهد العجائز من الرجال والنساء وكذلك الأطفال في غزة والأردن، وهم يحملون مفاتيح بيوتهم في قراهم الفلسطينية التي تركوها ونزحوا طوال 75 عاماً مضت، وحتى أمس، وفي عيونهم حلم العودة ولو بعد حين. 

كانت رحلة جدي للقدس هي الأخيرة لأقباط مصريين قبل هزيمة 67، بعدها أصدرت الكنيسة المصرية برئاسة البابا كيرلس السادس، قراراً يمنع الأقباط من زيارة القدس، قبل تحريرها من الاحتلال ودخولهم رفقة المسلمين،

لا يهم أمي كلام الساسة، وتصفه بأنه كلام "لا بيودي ولا بيجيب"، لكنها كمسيحية مؤمنة كانت تلتزم بقرار الكنيسة والبابا، وترفض الذهاب إلى القدس "في الدَس"، أي في الخفاء، فدخول القدس بالنسبة لها عرس منتظر ستطلق فيه الزغاريد وتردد الترانيم بصوت عال. وحتى وقت رفع الحصار عن زيارة أقباط مصر للقدس، بعد تصريحات البابا تواضروس، وزيادة أعداد الحجاج، من عشرات قبل ثورة 25 يناير 2011 إلى 5 آلاف حاج في موسم عيد القيامة العام الماضي، في رحلات معلنة من قبل شركات سياحة مصرية، وتستخدم خطوط "مصر للطيران" و برعاية الأمن المصري، ووزارة السياحة المصرية، ظلت أمي تفكر كل عام في أمر رحلة العمر المؤجلة، مرات بسبب المنع والحرب، وأخرى بسبب الأوبئة، وآخر التأجيلات حصلت بعد أن أصيب والدي بأزمة صحية مؤخراً ألزمته الفراش، ولا تستطيع أمي السفر بدون أبي حتى لو كانت لزيارة "القدس"، لكنها لا زالت تنتظر متمسكة بالأمل.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

قد لا توافق على كل كلمة ننشرها…

لكن رصيف22، هو صوت الشعوب المضطهدة، وصوت الشجعان والمغامرين. لا نخاف من كشف الحقيقة، مهما كانت قبيحةً، أو قاسيةً، أو غير مريحة. ليست لدينا أي أجندات سياسية أو اقتصادية. نحن هنا لنكون صوتكم الحرّ.

قد لا توافق على كل كلمة ننشرها، ولكنك بضمّك صوتك إلينا، ستكون جزءاً من التغيير الذي ترغب في رؤيته في العالم.

في "ناس رصيف"، لن تستمتع بموقعنا من دون إعلانات فحسب، بل سيكون لصوتك ورأيك الأولوية في فعالياتنا، وفي ورش العمل التي ننظمها، وفي النقاشات مع فريق التحرير، وستتمكن من المساهمة في تشكيل رؤيتنا للتغيير ومهمتنا لتحدّي الوضع الحالي.

شاركنا رحلتنا من خلال انضمامك إلى "ناسنا"، لنواجه الرقابة والترهيب السياسي والديني والمجتمعي، ونخوض في القضايا التي لا يجرؤ أحد على الخوض فيها.

Website by WhiteBeard
Popup Image