منيل الأشجار الكثيفة، توت ومانجو وفيلات بديعة المعمار. "يومها كان الكون براح". كورنيش النيل في تلك المساحة الهادئة من القاهرة القديمة يتسع للجميع عشاقاً وزواراً للاستمتاع بالجلوس ومتابعة تهادي أمواج النهر العظيم مجاناً.
كنا أطفالاً، نجمع التوت والمانغا فرحين بكنزنا الكبير والجيران يلتقون ويتزاورون ويتبادلون أطباق الفاكهة والحلوى، وكنا أطفالاً وشباباً نلعب كرة في الشارع من دون خوف من لصوص يتربصون أو عربات مسرعة تمر وسط البيوت بلا اعتبار. أتذكر الزهو الذي انتابنا عندما شاركنا هشام يكن لاعب الزمالك والمنتخب وقتها في إحدى مبارياتنا على الأسفلت.
كنت أمارس السباحة بنادي القاهرة محاطاً بالفاتنات اللواتي لم يتجرأ عليهن أحد، بعد ذلك بسنوات تم فصل الرجال عن النساء، وأصبح هناك يومان فقط مخصصين للنساء للسباحة من دون الرجال. أتعجب كثيراً عندما يمنع الأطفال دون السادسة من الاقتراب من حمامات السيدات الآن.
كانت الشواطئ العامة تمثل 98%من مجمل الشواطئ، انقلبت الآية وأصبحت الشواطئ المدفوعة الأجر هي الأساس، واحتلت النقابات والهيئات والمؤسسات شواطئ مصر، وغطت كورنيش البحر والنهر ببلوكات حجرية غبية، فلم يعد أحد قادراً على رؤية البحر أو النهر رؤي العين
كانت هناك حفلات موسيقية وأخرى سينمائية وحفلات راقصة كل خميس، كنت أشاهد نجمات ونجوم السينما يصورون معظم أفلامهم على حمامات السباحة في النادي بالمايوهات وكنت أذهب للنادي بمفردي في سن التاسعة أو العاشرة وأعود بلا خوف. كانت البيرة تقدم مع المشروبات الغازية من دون نظرات تستنكر خيارات الشاربين.
عشت طفولة رائعة في مجتمع منفتح ومحترم، الآن حلت المايوهات الشرعية والملابس الطويلة والحجاب ولكن اختفت الأخلاق مع اختفاء البحر والنهر والرصيف. نفس التحرر كنت تراه في شواطئ ميامي والمعمورة والمنتزه وغيرها فلم يكن المايوه للنساء عاراً.
كان لدى والدي شمسية وكراسي بلاج خشبية مريحة، تغيرت إلى أخرى بلاستيكية متعبة وبالأجر في منتصف الثمانينيات تقريباً. كانت كراسي أبي بأقمشتها الجميلة المريحة مكونة من كرسيين صغيرين واثنين "شيزلونج". يضرب أبي شمسيته في أي شاطئ يريده بدون دفع أية رسوم.
لم أصدق أن شارع المنيل الذي تمت توسعته وتزيينه بشكل جميل من أشهر قليلة، أصبح مقصداً لإلقاء القمامة، لماذا وكيف اختفت صناديق القمامة الكبيرة؟ لا أصدق كم الأشجار التي قطعت من جذورها عمداً، وحجم البلوكات السكانية التي ارتفعت فوق أنقاض الفيلات البديعة التي كانت مقصداً لمخرجي الأفلام طوال فترة الأربعينيات حتى السبعينيات لروعة معمارها
كانت الشواطئ العامة تمثل 98%من مجمل الشواطئ، انقلبت الآية وأصبحت الشواطئ المدفوعة الأجر هي الأساس، واحتلت النقابات والهيئات والمؤسسات شواطئ مصر، وغطت كورنيش البحر والنهر ببلوكات حجرية غبية، فلم يعد أحد قادراً على رؤية البحر أو النهر رؤي العين.
كان بائع الفريسكا يمر فنشعر كأطفال بنشوة لا مثيل لها، ونسبح في مياه جميلة نقية. لكن في زمن مبارك، تمت الموافقة على مشاريع صرف صحي تلقي حمولتها في مياه البحر بالتعاون مع شركات أمريكية، لم تعد الإسكندرية التي نعرفها، فهاجرنا إلى مرسى مطروح التي ظلت لسنوات بعيدة عن التلوث لبُعدها عن القاهرة، ولكن سرعان ما لحق بها ما لحق بالأسكندرية من فرض رسوم دخول، وكراسٍ بلاستيكية وشمسيات مهترئة لا تقي من الشمس! ومخلفات لوثت البحر ولكن لم تصل المجارى للبحر بعد.
في طفولتي كنت أسعد بالجلوس في "ديليس"* متناولا الحلوى اللذيذة، وقمة الإثارة عندما كنت ألعب "جوز ولّا فَرْدْ"** مع بائع المكسرات، لكن بعد مرور ثلاثة عقود جلست مع والدي ثانية وصدمت عندما رفض بائع المكسرات لعبة جوز ولّا فرد، وقال لي: "أصل الناس بقت قريبة من ربنا".
لم أصدق أن شارع المنيل الذي تمت توسعته وتزيينه بشكل جميل من أشهر قليلة، أصبح مقصداً لإلقاء القمامة، لماذا وكيف اختفت صناديق القمامة الكبيرة؟ لا أصدق كم الأشجار التي قطعت من جذورها عمداً، وحجم البلوكات السكانية التي ارتفعت فوق أنقاض الفيلات البديعة التي كانت مقصداً لمخرجي الأفلام طوال فترة الأربعينيات حتى السبعينيات لروعة معمارها.
لم أصدق أن الحجر قتل الشجر.
قديماً كانت المواصلات العامة هي القاعدة، والخاصة هى الاستثناء. انعكس الأمر الآن… زحف القبح، وتحول كل شيء إلى مقصد للربح، حتى ولو كان ملكية عامة مغتصبة، وكان طبيعياً أن تغزو التكاتك حي المنيل.
رفعت النوادي اشتراكاتها السنوية بدون وجود جمعية عمومية تقر ذلك، واستغلت كل جمعية أو مجلس إدارة أو جهة مسؤولة عن مجموعة أفراد مواقعها لتحقيق منافع شخصية، وتحولت لجهة جابية للرسوم المُضاعَفَة، واستغلت أعضاء من المفترض أن تدافع عن حقوقهم.
ضاعف الأطباء أجورهم وصارت الاستشارة برسوم جديدة، وبعضهم يكبدونك أشعة وتحاليل غير ضرورية، وبعضهم يجرى لك جراحات لا ضرورة لها. تضاعفت الأمراض وأسعار الخدمات الصحية والأدوية.
كيف استطاع والدي وهو معلم ووالدتي وهي محامية تربيتنا وتعليمنا. وكيف عشنا في مستوى اجتماعي لائق، أجاهد الآن عبثاً من أجل توفيره لأسرتي الصغيرة، رغم أن راتبي أكثر من 20 ضعفاً راتب والدي وقتها؟ هو سؤال عن التضخم وعما جرى للجنية المصرى
الحرفيون استغلوا الموقف وضاعفوا أجورهم مع خدمات رديئة، زاد الغش والكذب وعدم الإتقان والخداع، تضاعفت أسعار كل الخدمات عدة مرات، قل التفاعل الاجتماعى وزاد العنف وازدادت العزلة وسقط الناس في العلاقات الوهمية للإنترنت.
أرصد عمليات تسميم وقتل كلاب وقطط الشوارع، في شوارع المنيل وحدها رأيت ثلاث قطط شيرازي وكلب لولوه، تخلص أصحابها منهم هرباً من تحمل نفقاتهم.
انزوت الطبقة التي كانت متوسطة، وانكمش كل ما هو حقيقي. تضاعف عدد المتسولين وبائعي السلع التافهة، زحف "التوك توك" للأحياء الراقية والمتوسطة، واختفي الرصيف الآمن الممهد للمشاة مع إختفاء النهر والبحر.
ذكريات الطفولة تحاصرني بجمالها، وأسأل نفسي: كيف استطاع والدي وهو معلم ووالدتي وهي محامية تربيتنا وتعليمنا. وكيف عشنا في مستوى اجتماعي لائق، أجاهد الآن عبثاً من أجل توفيره لأسرتي الصغيرة، رغم أن راتبي أكثر من 20 ضعفاً راتب والدي وقتها؟ هو سؤال عن التضخم وعما جرى للجنية المصرى.
لا أريد شيئاً لنفسي ولا أعرف كيف سيكون مستقبل أولادي، ولكن ما لا أتحمله هو غياب البحر والنهر والشجر والرصيف والأخلاق الحسنة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
HA NA -
منذ 3 أياممع الأسف
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.
Eslam Abuelgasim (اسلام ابوالقاسم) -
منذ أسبوعحمدالله على السلامة يا أستاذة
سلامة قلبك ❤️ و سلامة معدتك
و سلامك الداخلي ??
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعمتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينعظيم