نصف الشعب اللبناني توقف عن الذهاب إلى المستشفيات، ونحو 70% من الأفراد توقفوا عن الذهاب إلى الأطباء، بحسب الباحث محمد شمس الدين، استناداً إلى "الدولية للمعلومات". فقد أظهر مسح أجري على عيّنة تمثيلية في عدد من المستشفيات في لبنان تراجعاً ملحوظاً في عدد عمليات الدخول إلى المستشفى بنسبة تتراوح بين 40 و50%.
وتبيّن أنّ زيارات الأطباء انخفضت بنسبة 70%، مقابل اللجوء إلى المستوصفات، بسبب توفر خدماتها بكلفة أقلّ.
وفي مجال الدواء، هناك انخفاض في نسبة شرائه بنسبة 40%، إذ بات المرضى يشترون أدويةً مستوردةً من بعض الدول، مثل سوريا وتركيا ومصر، نظراً إلى توافرها بكلفة أقلّ خارج الصيدليات، وفق ما يكشف شمس الدين في حديثه إلى رصيف22.
أما السبب فيعود إلى الأزمة المالية، وارتفاع كلفة الاستشفاء ودولرة هذا القطاع، في حين أن نسبةً كبيرةً من الرواتب لا تزال بالليرة اللبنانية.
اللافت أن هذا التوجّه يتزايد منذ نهاية العام 2019، ووصل إلى هذه النسب بعد أكثر من 4 سنوات من تعميم الفقر.
وقد أكّد التقرير السنوي لـ"هيومن رايتس ووتش"، أنّ 70% من الأسر اللبنانية تعاني من صعوبة في تغطية نفقاتها، وبات 85% من اللبنانيين/ ات تحت خطّ "الفقر المتعدّد الأبعاد".
الصيدلاني طبيباً
ما لا تقوله الإحصاءات يكشف عنه عدد من الأطباء، فقد بات المرضى "يطبّبون أنفسهم"، من خلال الدخول إلى شبكة الإنترنت وطرح أسئلة، وهكذا تحول "غوغل" إلى الطبيب الذي يأتي بالوصفات، ويشرح أسباب الأوجاع وكيفية الشفاء منها، من دون أن يرى المريض/ ة، أو يعرف شيئاً عنه/ ا.
في ظل هذه المعطيات، تؤكد طبيبة الأمراض الداخلية في الجامعة الأميركية، الدكتورة ديانا عبود، على وجود انخفاض واضح في الإقبال على خدمات المستشفى: "هناك فئات من المرضى لم نعد نراها، وفئة أخرى من المرضى لا تطلب الطبابة إلا في مرحلة متأخرة من المرض، أي بعد أن تصبح العوارض غير محمولة".
وتعلّق عبود على أن بعض المرضى يفضلون البحث عن الأعراض التي تظهر عليهم/ نّ على الإنترنت أو التحدث مع أقاربهم الذين ربما عانوا من الأعراض نفسها، أو حتى اللجوء مباشرةً إلى الصيدلاني الذي يمكنه توفير الدواء دون الحاجة إلى فحص طبي.
بات المرضى "يطبّبون أنفسهم"، من خلال الدخول إلى شبكة الإنترنت وطرح أسئلة، وهكذا تحول "غوغل" إلى الطبيب الذي يأتي بالوصفات، ويشرح أسباب الأوجاع وكيفية الشفاء منها، من دون أن يرى المريض/ ة، أو يعرف شيئاً عنه/ ا
من جهة أخرى، وعند الحديث عن المستوصفات، توضح عبود لرصيف22، أن وجود مستوصف في الجامعة الأميركية ليس جديداً، إلا أنه في ظل الظروف الراهنة، أصبحت الجامعة تُولي اهتماماً خاصاً له، بحيث تستفسر عند طلب موعد عما إذا كان المريض يفضل الحصول على الخدمة في المستوصف، أو في العيادة.
تجزم عبود بأن القطاع الطبي يدرك تماماً صعوبات الوضع الاقتصادي: "تتجه الجهود نحو توفير الدعم والمساعدة لجميع فئات المجتمع"، وتشجع الأفراد على الاعتناء بأنفسهم/ نّ وعدم التهاون في الحفاظ على صحتهم/ نّ: "الصحة تُعدّ أغلى ممتلكاتهم وأهمها".
"سلامة" تتحرك
إذا كان هذا الحال بالنسبة إلى الأمراض الخطيرة، فما حال الأمراض الجنسية أو الصحة الإنجابية؟
تقوم جمعية "سلامة" اللبنانية بدور فعّال كعضو في الاتحاد الدولي لتنظيم الأسرة، حيث تركز على قضايا الصحة الجنسية والإنجابية وتعمل على تعزيز الوعي وتقديم الخدمات ذات الصلة.
في هذا السياق، أطلقت الجمعية مبادرةً توعويةً حول مخاطر البحث غير الموجه على غوغل، وتحديداً استقاء المعلومات من المواقع غير الموثوقة.
"في ثقافتنا، خاصةً في مجالات الصحة الجنسية والإنجابية، يتجنب الكثيرون/ ات اللجوء إلى الأطباء بسبب الخوف، مما يجعلهم/ نّ يعتمدون/ ن بشكل كبير على البحث عبر الإنترنت، وهو أمر يتسم بالتزايد خاصةً في ظل الأزمة الاقتصادية الحالية"
تؤكد لينا صبرا، المديرة التنفيذية للجمعية، أن المراهقين/ ات والشباب يتجهون/ ن غالباً إلى التحدث مع أصدقائهم/ نّ والبحث على الإنترنت للحصول على معلومات محددة: "لهذا السبب، قررت الجمعية العمل على نشر الوعي بين جميع فئات المجتمع، بدءاً من الكبار إلى الصغار".
وتضيف صبرا لرصيف22، أنّ الناس عادةً ما يلجأون إلى الإنترنت لسهولة الوصول وسهولة الاستخدام: "في ثقافتنا، خاصةً في مجالات الصحة الجنسية والإنجابية، يتجنب الكثيرون/ ات اللجوء إلى الأطباء بسبب الخوف، مما يجعلهم/ نّ يعتمدون/ ن بشكل كبير على البحث عبر الإنترنت، وهو أمر يتسم بالتزايد خاصةً في ظل الأزمة الاقتصادية الحالية".
في هذا السياق، يقوم العاملون في مجال الصحة بمجموعة من المبادرات لتقليل مخاطر وأضرار الوصول إلى معلومات غير صحيحة عبر الإنترنت.
من هنا، تشير القابلة القانونية في الجمعية ملاك ديراني، إلى أن "سلامة" تلعب دوراً رئيسياً في نشر التوعية بين الطلاب في المدارس والجامعات، وصولاً إلى المخيمات، وعبر وسائل الإعلام، مثل الراديو والتلفزيون ومواقع التواصل الاجتماعي.
وتبرز ديراني لرصيف22، أهمية استمرار توفير المعلومات وتحديثها: "لا يمكن اعتبار غوغل مصدراً موثوقاً إلا إذا كنا نبحث في مواقع علمية أو طبية، لكن هذا لا يلغي ضرورة زيارة طبيب/ ة متخصص/ ة لأنه في بعض الأحيان تكون هناك مبالغة".
وتختم حديثها بالقول: "يمكن أن يقدم غوغل فكرةً أوليةً فقط للمريض/ ة، لكن لا يمكنه أن يقدّم وصفةً علاجيةً بالتأكيد".
بين الحقيقة والوهم
في أثناء البحث عبر محرّك غوغل عن كيفية علاج الفطريات المهبلية، تبيّن لنا على أحد المواقع أنه يمكن علاجها بالخل، الثوم، الكمون وزيت جوز الهند، بينما يجمع الأطباء على أن هذه الوسائل غير فعالة لا بل مؤذية.
في المقابل، يعرض موقع "مايو كلينك" العلمي، أن العلاج يكون بالأدوية المضادة للفطريات والتي تتوفَّر على شكل كريمات ومراهم وأقراص وتحاميل.
في عالم متسارع ومتصل بشكل دائم، بات غوغل فيه صديق الجميع، يتحدّث العاملون/ ات في جمعية "سلامة" عن تأثير الإنترنت السلبي، الذي يدفع كثيرين/ ات إلى أن يفقدوا/ ن الثقة تماماً بالمعلومات الطبية الرصينة.
تعليقاً على هذه النقطة، يشرح مقدّم الخدمات في الجمعية، جورج عبود، عن بعض الذين يتبعون مساراً غير تقليدي في الرعاية الصحية، كاشفاً عن تجارب واقعية تظهر درجة الشك والارتباك التي يمكن أن يتسبب فيها الاعتماد المفرط على محركات البحث الإلكترونية.
في هذا الصدد، يروي عن إحدى الحالات التي واجهها، وذلك حين زاره شخص بعد إجراء فحوصات طبية، لكنه استند في تحليله للنتائج إلى ما قرأه على غوغل، ما أثار شكوكه وعدم رضاه عن النتائج الطبية التي أجراها في الجمعية، قائلاً: "بحثت على غوغل ووجدت أن مدة الفحص يجب أن تستغرق 10 دقائق، ونتيجتي هنا لم تستغرق هذه المدة".
تكشف تلك القصص عن تحول ملحوظ في علاقتنا بالمعلومات الطبية، حيث يجد البعض أنفسهم في صراع بين ما يقرؤونه عبر الإنترنت، وبين ثقتهم بالخبراء الطبيين، لكنّ الأكيد أنّ الفقر هو السبب الأوّل الكامن وراء تراجع طلب الاستشارة الطبية في لبنان
ويتابع عبود لرصيف22: "زارني شخص آخر، كان يعاني من بثرة كبيرة على وجهه، وقرأ على غوغل أن هذه 'الحبّة' من عوارض فيروس نقص المناعة البشرية HIV، فأجرينا الفحوصات اللازمة وأتت النتيجة سلبيةً، لكنّه لم يقتنع، فنصحته بزيارة طبيب جلد، فأجابني بأنّه زار واحداً قبل المجيء إلى جمعيتنا، لكنه غير واثق بالطبيب وواثق أكثر بما قرأه على غوغل".
تشير تلك الحالات إلى خطورة الاعتماد الكامل على المواقع الصحية وعلى محرّكات البحث كمرجع صحي فقط، حيث يمكن أن يتسبّب البحث من دون مرافقة علمية رصينة، في حالات "مرض وهمي"، يؤدي فيها القلق المستمر والتفكير السلبي بناءً على المعلومات المتناقضة وغير المؤكدة إلى الكثير من المضاعفات النفسية والجسدية الصعبة.
في ختام حديثه، يشدد عبود على أن خطورة محرّكات البحث على الإنترنت تكمن في قدرة الدماغ على أن تعلق فيه الجوانب السلبية التي يقرأها، وأن يغفل ما هو إيجابي، ما يؤدي إلى انعكاس ذلك على الحالة النفسية والصحية للأفراد.
تكشف تلك القصص عن تحول ملحوظ في علاقتنا بالمعلومات الطبية، حيث يجد البعض أنفسهم في صراع بين ما يقرؤونه عبر الإنترنت، وبين ثقتهم بالخبراء الطبيين، لكنّ الأكيد أنّ الفقر هو السبب الأوّل الكامن وراء تراجع طلب الاستشارة الطبية في لبنان.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...