شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!
شارلي شابلن اليمن الذي قاوم الاستعمار والسلاطين بالكوميديا

شارلي شابلن اليمن الذي قاوم الاستعمار والسلاطين بالكوميديا

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة نحن والتنوّع نحن والتاريخ

الأربعاء 3 يناير 202412:51 م

في ستينيات القرن الماضي، اعتلت الهوائيات الخاصة باستقبال البث التلفزيوني أسطح بيوت مدينة عدن جنوب اليمن، وبُثّت العديد من الأفلام والمسلسلات الأجنبية والعربية٫ إلا أن أفلام شارلي شابلن الصامتة، كانت قد عُرضت قبل ذلك بزمن طويل في الهنجرات (الهنغارات) والساحات الصغيرة، بفضل محمد حمود الهاشمي، الملقّب بمستر حمود، الذي أقام عروضاً متنقلةً عُرضت خلالها الأفلام الصامتة في الصالات والمواقع المتوافرة مثل مواقف السيارات والساحات في منطقة التواهي، بحسب الباحثة ياسمين الطويل.

ومع رواج المسرح والتلفزيون، شقّ الممثل شارلي شابلن، طريقه من السينما إلى المسرح في أوساط اليمنيين، وأثار ظهور الكاتب والممثل المسرحي والشاعر الشعبي المعروف مسرور مبروك، بشاربين قصيرين وبنية ضئيلة مقلّداً شخصية شابلن في مسرحية "مفتاح المصنع"، إعجابَ الجمهور وإن لم تتكرر هذه التجربة لاحقاً.

لا يرد ذكر شابلن في المسرح سوى مرة واحدة في مقالة موقعة باسم محمد إبراهيم الماس، في أحد أعداد صحيفة "النهضة"، التي اندثرت قبل عقود ولم تتبقَّ منها سوى أعداد مبعثرة، ويتحدث فيها الماس عن ظهور شابلن محلياً بين البراميل وآلات صدئة برفقة أحد الأطفال وممثلَين يرتديان زي العمال في مسرحية في الهواء الطلق.

مع رواج المسرح والتلفزيون، شقّ الممثل شارلي شابلن، طريقه من السينما إلى المسرح في أوساط اليمنيين، وأثار إعجابَ الجمهور ظهورُ الكاتب والممثل المسرحي والشاعر الشعبي مسرور مبروك، بشاربين قصيرين وبنية ضئيلة، مقلّداً شخصية شابلن في مسرحية "مفتاح المصنع"

دارت المسرحية حول مجموعة عمّال يُحبسون داخل مصنع، وقد أضاعوا المفتاح، ويردد أحد الممثلين بأن هنالك مَن أغلق عليهم المصنع من الخارج، بينما يردد آخر أن الطفل ربما بلع المفتاح، ويقول ممثل ثالث إن المصانع أصبحت تُصنع بلا أبواب حتى لا يغادرها أحد، في إشارة منه إلى العبودية الأبدية للعمال. ومن المؤسف أن الماس يورد أحداث المسرحية بشكل عرضي، إذ يسلّط الضوء على الشخصيات كي ينتقدها دون اكتراث بطبيعة القصة؛ لاعتقاده بأنها ليست ذات قيمة. ويختم كلامه بدعوتهم إلى الاهتمام بالقضايا المحلية. ومهما يكن، فإن قيمة المسرحية تكمن في دلالتها السياسية خصوصاً في ظل الاحتلال البريطاني لجنوب اليمن.

جمعت شخصية مسرور مبروك، بين شخصيتَي شابلن في فيلم "الطفل" (1921 The Kid)، وفيلم "الأزمنة الحديثة" (Modern Times 1936)، وقد أتاح هذا التحوير المحلي ظهور شخصية شابلن ناطقةً، مع ما يحمل هذا من إعادة توجيه نقد شابلن الرمزي للرأسمالية في الأزمنة الحديثة، لكن بتوظيف سخريته وتهكمه ضد الاستعمار البريطاني وسلاطين مدينة لحج لاحقاً.

في فيلم "الأزمنة الحديثة"، يُحبَس شارلي شابلن، الأكثر وعياً سياسياً في المجموعة الكوميدية، في مبنى تجاري ضخم في ليلة عيد. في ذلك الوقت، كانت بداية ظهور المولات وانتشارها في الأماكن التجارية. يقضي شابلن ليلةً كاملةً وحده في المول بين الجري واللعب. شابلن هنا يقدّم مرافعةً أكاديميةً مبكرةً في علم الاجتماع، ويسبق علماء الاجتماع الذين وجهوا نقدهم إلى مجتمع الاستهلاك مثل رولان بارت وجان بودريار، حيث يكشف كل وعود الرأسمالية بالرفاهية والرخاء والإشباع والترف، ويفضح أكاذيب الاستهلاك ووعود السعادة الزائفة على أنها حالة خواء داخلي كبير.

هذا المشهد العبقري داخل المول، سيتكرر بعد عقود في السينما الأمريكية المستقلة في "فجر الموتى" (1978)، لرائد أفلام الرعب جورج روميرو، عندما تختبئ الشخصيات الرئيسية في مركز تجاري، ويتجول الزومبي في مركز تسوق مهجور في إشارة مبكرة وساخرة إلى النزعة الاستهلاكية. وسيكرر المشهد نفسه المخرج الأمريكي جيم جارموش، في فيلمه "الموتى لا يموتون"، في سياق مناهض لسياسات ترامب المتطرفة.

وبالنسبة لمسرور مبروك، من غير الممكن الجزم بتوظيفه النقد المتضمن بشكل واعٍ، خصوصاً في ظل سلطة استعمارية حرصت على إبقاء المناطق المحيطة بمدينة عدن في حالة جهل، ولكن من الواضح اهتمام مسرور مبروك برموز الثقافة البريطانية، حيث سيعود لاحقاً بترجمة أول أعمال شكسبير "عطيل"، إلى اللهجة المحلية الدارجة لأول مرة في تاريخ المسرح اليمني. والمؤكد أن كوميدياه هذه أحدثت أثرها وتأثيرها على الناس بشكل عفوي، وقد اشتُهر بكتابة القصيدة الشعبية، وهو ما دفع الماس للنيل منه ودعوته إلى الاهتمام بالقضايا المحلية.

ويذكر المؤرخ أحمد السلامي، في كتاب "تلفزيون عدن من التأسيس إلى القناة الثانية"، تفاعل الجمهور في عدن مع شخصيات الأفلام وتقليد حركاتهم وتصرفاتهم إلى حد صاروا يطلقون معه على بعضهم البعض أسماء شخصيات الفيلم والمسلسل، فهنالك من أطلقوا عليه اسم عنتر، وآخر اعتمرَ قبعة البحارة مثل شخصية "جاليجان" وعلق به هذا الاسم، حتى أن الابن الأصغر لحسين الصافي (مدير عام الإذاعة والتلفزيون)، اتخذَ لنفسه اسمَ "بونانزا"، وارتدى ملابس رعاة البقر.

جمعت شخصية مسرور مبروك، بين شخصيتَي شابلن في فيلم "الطفل" وفيلم "الأزمنة الحديثة"، وقد أتاح هذا التحوير المحلي ظهور شخصية شابلن ناطقةً، مع ما يحمل هذا من إعادة توجيه نقد شابلن الرمزي للرأسمالية في الأزمنة الحديثة

وهكذا استمرت عروض مسرور مبروك على النمط الساخر نفسه في مدينة لحج بعد توسع المسرح حول المناطق المحيطة بمدينة عدن مطلع الأربعينيات، وتأسست فرقة العروبة للتمثيل على هذا الزخم الجماهيري كما يوثق المؤرخ المسرحي حسين الأسمر، وعرضت العديد من الأعمال الأجنبية والدينية والتاريخية، ولعل أكثرها شهرةً مسرحية مسرور مبروك "طرفيشة وشوربان شاه أبو ريشة"، كونها أول مسرحية كوميدية كاملة تُقدَّم باللهجة الدارجة فحسب، وإذا كان مسرور مبارك قد بدأ بالسخرية من الاستعمار البريطاني، فإنه سيعود بمسرحية "طرفيشة" للسخرية من السلاطين، إذ تصور المسرحية قصة صراع أميرين هما زعيما قبيلتين متناحرتين على النفوذ والسلطة. ثم يحاول أحدهما كسب ود الآخر بطلب الزواج من أخته، لكن الآخر يرفض الزواج فيعدّ الأول الرفض إهانةً له وانتقاصاً من هيبته، فيزداد الصراع ويشتعل بدلاً من أن يهدأ وينتهي.

بطلا المسرحية الرئيسان شوربان أبو ريشة وطرفيشة، هما من الخدم والأتباع وكل منهما ينتمي إلى قبيلة ويكنّ كل منهما للآخر حباً شديداً، ويطمحان في التقرب من بعضهما عبر الزواج، لكن آثار صراع القبيلتين فرّقتْ بين شوربان وحبيبته. وهذا هو المأزق الذي لا بد أن يسعيا معاً إلى الخلاص منه كي يحققا أمنيتهما. وبحسب رواية مسرور مبروك في حديث عابر مع حسين العولقي، فإنه قد اختار بطليه من الأوساط الشعبية ليسخرَ من خلالهما من الطبقة الحاكمة المتمثلة في الأميرين زعيمي القبيلتين، وذلك بأسلوب رمزي وكوميدي بارع وقد أحدثت صدى بين أوساط الجمهور.

نالت فرقة العروبة للتمثيل نجاحاً لافتاً في مدينة الحوطة، إذ تزايد إقبال الناس على المسرح، لكن هذا التأثير الكبير على الجمهور في ظل الأوضاع السياسية المضطربة آنذاك، دفع السلطان فضل عبد الكريم إلى إصدار أوامره بإيقاف النشاط المسرحي وطرد رجال المسرح من مواقعهم؛ خوفاً من انتشار الوعي السياسي بين الجمهور بواسطة المسرح فكان أنْ سلّمَ رجال المسرح مواقعهم إلى أشخاص أحالوها إلى نوادٍ كما يوثق العولقي، ووزعوا كل أدوات وملحقات أعمالهم المسرحية من ديكورات وأكسسورات وملابس وغيرها بما في ذلك النصوص المسرحية التي تبددت وضاعت ولم يبقَ منها شيء. وهكذا هو الحال بالنسبة إلى المسرح السياسي في اليمن، فكلما ازدادت قوة العمل الفني وانتشاره وتأثيره بين أوساط الجمهور، تجمعت كل الأسباب لزواله.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

ماضينا كما يُقدَّم لنا ليس أحداثاً وَقَعَت في زمنٍ انقضى، بل هو مجموعة عناصر تجمّعت من أزمنة فائتة ولا تزال حيّةًً وتتحكم بحاضرنا وتعيقنا أحياناً عن التطلّع إلى مستقبل مختلف. نسعى باستمرار، كأكبر مؤسسة إعلامية مستقلة في المنطقة، إلى كسر حلقة هيمنة الأسلاف وتقديم تاريخنا وتراثنا بعين لا تخاف من نقد ما اختُلِق من روايات و"وقائع". لا تكونوا مجرد زوّار عاديين، وانزلوا عن الرصيف معنا، بل قودوا مسيرتنا/ رحلتنا في إحداث الفرق. ساعدونا. اكتبوا قصصكم. أخبرونا بالذي يفوتنا. غيّروا، ولا تتأقلموا.

Website by WhiteBeard