بات تمثيل التجارب النسائية في مساحات مختلفة عن المعتاد يمثّل مرتكزاً فنياً يؤسس لخطاب يعيد تشكيل النظرة العامة تجاه المرأة عموماً، بداية من تقديم مشكلاتها في المشهد العالمي والمحلي على مستويات العمل والتخصصات التي كانت حكراً على الرجال؛ أو في سياق المشهد الأسري الأصغر الذي يكتشف العالم ثقل الأحمال الملقاة فيه على عاتق النساء، وصولاً إلى تقديم المرأة بطلة في عمل مليء بالأكشن والحركة الجسدية العنيفة نوعاً.
هذه المساحات التي حملتها السينما ثم التلفزيون وقدمتها في أعمال كثيرها ناجح؛ استطاعت إظهار إمكانات تقديم المرأة نفسها بشكل أنضج.
وعلى الرغم من محورية وأهمية كل ذلك، فإنه يطرح مساحة نقاش أكثر أهمية على المستوى الفني، حول قابلية الاعتماد على الأفكار العامة فقط لضمان كسب تعاطف الجمهور، وإن كان يمكن للأعمال التي تركز على عوالم أبطالها من النساء قد تؤدي نتيجة عكسية بدلاً من التعاطف المنتظر أن تحققه تلك الاهمال مع قضايا وأوضاع النساء.
ذلك التساؤل، وهذا التحول البطيء المثمر في إعادة النظر للمرأة عموماً، يمكننا تناوله من خلال نموذج منفرد لتلك القصص النسائية المكثّفة، من خلال الحديث عن المسلسل الأحدث "عنبر "6، الذي حقق نجاحاً كبيراً عند عرض جزأه الأول عام 2021، ليعود للجمهور في موسمه الثاني، الذي عرضت حلقاته قبل أسابيع، معتمداً على فريق العمل ذاته: المخرج علي العلي والتأليف لهاني سرحان ودعاء عبد الوهاب بالاشتراك مع ورشة كتابة جماعية.
هل يكفي تعريب الأفكار الناجحة لتقديم عمل درامي عربي مميز؟... لنبحث عن الإجابة في عنبر 6
مراجعة هذا العمل تتيح لنا فرصة تفكيك نقاط القوة والضعف، وإلقاء الضوء على نموذج عالمي وآخر إقليمي كانا في المسار ذاته للمسلسل، قبل تعريبه من خلال تفاصيل نسائية تشبه نساء هذا الجزء من العالم بمشكلاتهن، قد يكون هذا الحديث عن ذلك مفيداً لصناع الدراما والجمهور معاً
مراجعة هذا العمل تتيح لنا فرصة تفكيك نقاط القوة والضعف، وإلقاء الضوء على نموذج عالمي وآخر إقليمي كانا في المسار ذاته للمسلسل، قبل تعريبه من خلال تفاصيل نسائية تشبه نساء هذا الجزء من العالم بمشكلاتهن، قد يكون هذا الحديث عن ذلك مفيداً لصناع الدراما والجمهور معاً.
كل تلك الأعمال التي ارتكزت على قصص النساء التي نحاول تناولها هنا، اتخذت من عالم السجن سياق مغري لسرد تلك الحكايات النسائية شديدة الخصوصية، كانت جيدة كفاية لعدم تشتيت الأنظار، تترك المشاهد بين أربعة جدران مثل السجينات اللاتي يشاهدهن، ويفكر معهن في كل حركة شعورية وجدواها، فقط، نساء، وحوائط مغلقة، وعوالم لا تحركها سوى المشاعر البشرية في أرق درجاتها وأقسى مساحات استغلالها أيضاً.
تنويعات سبقت عنبر 6
عالمياً، لا يزال مسلسل "البرتقالي هو الأسود الجديد" Orange Is the New Black، ونشير له اختصارً هنا بـ OITNB الذي خرج في سبع مواسم مختلفة، عرضاً مغرياً مليئاً بالشخصيات النسائية التي يمكن إعادة إنتاجها في بيئات مختلفة تماماً، يصلح المسلسل لتدوير قصصه مرة بعد مرة، يقدم عالماً كاملاً داخل السجون ويحكي مآسي شخصيات نسائية مختلفة داخل تلك الحوائط المغلقة من حكايات الإفراجات والسجون، الظهور والاختفاء، الحب والخيانة، المرض والمزيد من الموت، كل هذا يحدث داخل تحولات عاصفة تجعل الإثارة مسيطرة على كل حلقة، نرى هنا السجين قد أصبح سجاناً، والشر ممتزج بالحقيقة، لا يمكن اعتباره شر محض بشكل سطحي، كل هذه القصص نراها من خلال عوالم وتفاصيل نسائية خالصة للنساء في اللحظة الراهنة استغلها المسلسل.
سعت شبكة نتفلكس من خلال السلسلة الطويلة للمسلسل التي جاءت بعد أعمال مثل House of Cards ومسلسل Hemlock Grove القديم، إلى تكوين جمهور بالاعتماد على أعمال أثبتت نجاحها في الأجزاء الأولى، ثم ترسيخ التواجد بمواسم أخرى في إطار الفكرة العامة ذاتها، ووجدت ضالتها في سرد قصص النساء في حُلّة السجينات.
فكرة أن الجمهور قد يكون متعطشاً لرؤية تمثيلات لنفسه في قصص تتجاوز حدود الطبقة والعرق والجنس والجنس وخلطت بين الكوميديا والدراما في إطار قصص نسائية مشوّقة كانت نقطة القوة الأكبر، استغلتها نتفلكس عالمياً ثم جاءت بعض الأعمال المحلية لتعمل على الاعتماد عليها شكلياً، مع البناء على قضايا نسائية شبيهة في سياق محلي أكثر، وتلك كانت نقطة التماس الأولى مع مسلسل عنبر 6 الذي أنتجته منصة شاهد العربية، فمنذ الموسم الخامس من OITNB الذي تدور أحداثه أثناء أعمال الشغب التي تودي ببعض النساء إلى السجن، والموسم السادس الذي يتناول آثار أعمال الشغب، أيضاً ثم الموسم السابع والأخير الذي يعتمد مباشرة على قصة تاشا أو "تايستي" التي تواجه السجن مدى الحياة بعد اتهامها بجريمة قتل لم ترتكبها أثناء أعمال الشغب، وربما كذلك تبدو شخصية ليلى (صبا مبارك) التي سنحكي عنها في سياق حديثنا التفصيلي على مسلسل عنبر 6 في الجزء الثاني.
بالرغم من أن المسلسل بطولة جماعية فإنه يفصِّل حكاية البطلة الرئيسية التي كانت رهف في البداية ثم ليلى بعدها، بشكل جيد ومتماسك وفيه تصاعد درامي مفهوم، بينما تنمو قصص موازية لأخريات بشكل ضعيف وغير مقنع تماماً
نقطة القوة الأولى التي اعتمدت عليها منصة شاهد التي أنتجت العمل، بمغازلة رغبات الجمهور في التلصص على العوالم المغلقة على النساء من خلال نقل فكرة المسلسل الأمريكي ذاته قبل التأكد من وجود نص قوي. اعتمدت على ذلك في مسلسل عنبر 6 تماماً كما اعتمدت هذا العام قبل أشهر قليلة على إنتاج أول فيلم موسيقي عربي من إنتاجها في "يوميات سكر"، وربما طغت الرغبة في التنوع على الإقناع في تسكين الأدوار والتطور الدرامي.
يقول صناع المسلسل العربي أنه كان بمثابة نسخة عربية معتمدة على المسلسل التركي "الفناء" بينما يبدو أن المرجعية الأولى لكليهما هو المسلسل الأكثر شهرة وعالمية OITNB ومثلما انطلقت النسخة العالمية الأمريكية والإقليمية التركية؛ خرج مسلسل عنبر 6 معتمداً على قصص نسائية متنوعة، لكن هذه المرة من الوطن العربي، بمشكلات تشبه نساءه، مسلسل سجون آخر، كفكرة مغرية ومضمونة الانتشار الجماهيري في دول مختلفة مع تجاهل أهمية وقوة معالجة الفكرة المقدمة.
عنبر 6… التسويق أهم من الصناعة
ببساطة كان مسلسل عنبر 6 الذي صُوّرت أحداثه في العاصمة اللبنانية بيروت يحاكي قصصاً مستوحاة من أحداث حقيقية لعدد من النساء اللواتي يواجهن تحديات الحياة وقسوتها خلف جدران أحد السجون، وجاءت أحداث الجزء الثاني حول صراعات مجموعة من النساء يواجهنها داخل السجن، وربما كان يصدّر الصنّاع تلك الديباجة دون أن نفهم سياقات بعض المصاعب التي أودت ببعضهن إلى هناك بشكل منطقي.
في الجزء الأول نتتبع الفتاة التي تبحث عن قاتل والدها، كقصة رئيسية إلى جانب عدد متنوع وكبير من قصص السجينات الأخريات، وبعد أن ينتهي الموسم الأول بحريق كبير في السجن، يستغل المسلسل هذا الحريق لإلغاء/ ادعاء موت بطلة الجزء الأول رهف (سلاف فواخرجي) التي اعتذرت عن العمل في الجزء الثاني، ليتطور دور ليلى (صبا مبارك) كخط درامي مؤسس لفتاة تبحث عن أهلها إلى جانب القصص الأخرى، ربما خلق هذا الاعتذار بعض الخلل والتسرع في معالجة الأمر عموماً.
ينتهي الجزء الأول من عنبر 6، دون إغلاق عدد من مسارات قصص كان فتحها بالفعل؛ بعيداً عن الحريق الكبير الذي يستغله الصنّاع للتخلص من بطلة الجزء الأول، سنجد خيط قوي وذكي بالرغم من عدم استغلاله جيداً في قصة الفتاة التي تبحث عن أصول عائلتها، أو بالتحديد في الهوية الضائعة التي تمثلها تلك الفتاة التي تشارك سجينات أخريات مصيراً مجهولاً.
وربما من هنا يمكن الوقوف أمام نقطة ضعف أخرى وقع فيها المسلسل؛ بالرغم من أن المسلسل بطولة جماعية فإنه يفصِّل حكاية البطلة الرئيسية التي كانت رهف في البداية ثم ليلى بعدها، بشكل جيد ومتماسك وفيه تصاعد درامي مفهوم، بينما تنمو قصص موازية لأخريات بشكل ضعيف وغير مقنع تماماً مثلما يحدث في قصة نانسي التي أقحمت فجأة على الجزء الثاني في خط درامي ضعيف لدرجة جعلها تنتهي بقصة حب وزواج مع سجّانها الوسيم أو أن تصبح في معارك مستمرة مع سجينات أخريات دون حماية الرجل الذي يحاول تهريبها أساساً.
بينما يبدأ الجزء الثاني من مشهد اقتحام السجن نفهم فيما بعد أنه كان من أجل تهريب تلك السجينة بتخطيط من زوجها رجل العصابة المهووس بها، التي تكرهه ولا ترى نفسها معه، يبدو سياق جيد لحكاية سيدة للمفارقة حررت أنوثتها بسجنها، بينما لم يستغلها الصناع جيداً، ولم تتطور شخصيتها في الداخل على الإطلاق، منذ اللحظة الأولى نرى تأكيد على حزنها في ذاته، تماماً مثلما نراه على وجه ليلى التي تبحث طوال الحلقات عن عائلتها الحقيقية قبل أن تكتشف أن والدتها ليست سوى خاطفة أطفال، بعد ملل سردي غير مبرر.
نقطة القوة الأكبر تصبح في اللحظة التي تتحول فيها رهف من فتاة لا تعرف شيئاً عن العالم إلى فتاة جريئة أنضجها السجن والنساء الحقيقيات اللاتي يعانين من القهر والحبس، في الجزء الأول، تماماً مثلما يحدث مع ليلى في الجزء الثاني التي ينتهي بها المطاف مع الصحفي الذي أنقذها، يتزوجا من أجل حياة جديدة، الاثنتان ينضجن من خلال السجن ومعرفة معاناة السجينات الأخريات فعلاً من الداخل.
في أحد مشاهد الجزء الأول، تجلس رهف في مشهد حزين وتخبر نفسها بحقيقة قاسية، تقول: "الحبس حررني من حب كداب". ينتهي الجزء الأولى وتموت فرضاً وتتغير الأحداث، في مشهد من الجزء الثاني تقول ليلى لنفسها: "كنت مفكرة لما أعرف المجهول هرتاح لكن الأمان الحقيقي باللي حوالينا"، كلاهما يدرك نجاته الحقيقة داخل أسوار السجن.
لا مكان للرجال
نقطة القوة الأكبر في العمل هو التعامل مع كل البطلات باعتبارهن لديهن الخير كما الشر، لا ينشغل العمل بالحكم عليهن في كل الأحوال أكثر مما يحاول أن يؤنسهن في سياق درامي، يشبّك قصصهن معاً، الفتاة التي خانها زوجها فأصابها الوهن مع السيدة التي شرّستها الدنيا بعدها اضطرت للبعد عن ابنتها الوحيدة، السيدة التي تخرج من السجن بعد تهذيبها تماماً والأخرى التي يدمر السجن رغبتها في الحياة كلها، جمعيهن نساء يصلحهن الحب والأمان اللذان يبحثان عنهما في الداخل والخارج.
في عنبر 6 لا يبدو للرجال حضور قوي، وهناك حضور غير مباشر نسبياً عن طريق الصحفي الذي يساعد ليلى في العثور على أهلها، لكن أغلب الشخصيات الرجال الذين ظهروا هم بمثابة معادلات تكميلية للعمل، يقدّم المسلسل أغلب الأزواج على اعتبارهم لا يتحملون مسئوليات جذرية كالنساء، وهو ما يجعلنا نتساءل أكثر عن مفهوم العمل النسائي أساساً، الذي لا يحتاج أن يكون كل أبطاله نساء فقط، ربما يمكن لتواجد الرجال بشكل أكبر يجعلنا نفهم أكثر بعض مشكلات السجينات في الداخل؟
في النهاية لا تبخل شاهد في صناعة عمل محترف ومكلِّف، يحمل كفاءة إخراجية وتصويرية تستحق الإشادة فعلاً، ومونتاج استطاع التعامل مع مشاهد المعارك لتقديمها بشكل هوليوودي ذكي بالرغم من عدم اتساقه مع القصة ككل، وتقديم محاولة مضنية إجمالاً لصناعة عمل فني يحاول الوصول إلى جمهور يعرف بعضه ويفهم مدى قرب قضايا نساءه، لكنه لم يوفّق تماماً في استغلال ذلك على مستوى المعالجة التي تحاول دمج كل تلك القصص، وربما يجعلنا العمل نتعلم أن قدراً بسيطاً من التشت يمكن أن يذهب بفكرة ذكية بعيداً عن الهدف من وراءها، وأن نفكر أن مشكلات النساء في ذاتها لا تكفي وحدها لصناعة مسلسل ناجح.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...