أعلنت ردود وتعليقات كثيرة موافقتها على دعوة أمين عام الأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، في 6 كانون الأول/ ديسمبر الجاري، إلى إعمال المادة 99 من ميثاق المنظمة الدولية. وتخوّل المادة مجلس الأمن إلزام الدول المتحاربة بوقف إطلاق النار، تحت علة موجبة هي الحؤول دون تفاقم نزاع أو حال تهدد السلام والأمن الدوليين. ويوكل صوغُ المادة إلى قوة القضية المعنوية، وتعلقها بالأصل القانوني الذي سوَّغ نشوء المنظمة الدولية (بناء عالم خالٍ من الحروب)، حلولها المضمر محل الفصل السابع من الميثاق، وتوسّله بالعقوبات المشدّدة إلى الصدوع بالقانون.
وسبقت الرسالة الأخيرة، علاجاً لشلل مجلس الأمن وعجزه عن صوغ قرار لا ينقضه أحد الأعضاء الدائمين الخمسة (الولايات المتحدة غالباً هذه المرة)، توصية اقترعت عليها 121 دولة في الجمعية العمومية، في أوائل تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، وناشدت إسرائيل و"حماس" وقف النار، وإغاثة المدنيين، الغزاويين، وإنشاء ممر إنساني، والإفراج عن الرهائن. وتولّت دولة الإمارات العربية كتابة مشروع القرار، وهو يسبغ على الرسالة حلّة تنفيذية وإجرائية. وبرر المشروع الإماراتي طلب الأمين العام بـ "أسباب إنسانية"، وأوجب "امتثال كل الأطراف لالتزاماتها" القانونية الدولية، "بحماية المدنيين".
وليس في ديباجتي رسالة غوتيريش ومشروع قرار الإمارات، على خلاف نص المادة 99 من الميثاق، دلالة بالاسم إلى الصفة الدولية. فالأمين العام نبّه إلى "كارثة ذات آثار محتملة، ولا رجعة فيها، على الشعب الفلسطيني كله، وعلى السلام والأمن في المنطقة". ولا يتخطى النص أفق الأخطار الإقليمية إلى أفقها الدولي، ولو من طريق التداعي اللفظي والآلي الشائع. والكارثة التي يصفها، ويخاف آثارها، حيوية أو بيولوجية وسكانية. وتلمح إلى التشويه الوراثي الذي يلحقه الجوع والعطش والرعب والقلق والأوبئة في سلامة الجماعات. والقانون الدولي الذي يستظهر به المشروع الإماراتي، ويلزم بحماية المدنيين من القتل والتنكيل (بواسطة الجوع والحرمان من الإغاثة الطبية)، إنساني في المرتبة الأولى.
الإنسانية
والتردُّد أو الترجّح في وصف العلاج الظرفي أو الموضعي "للأعمال العسكرية" التي تدور على أرض غزة قرينة ربما على تردد وترجّح في وصف هذه الأعمال، وتعريفها تعريفاً قد يلقى الإجماع. ومنذ اندلاع العمليتين المتكاملتين، "طوفان الأقصى" – "السيوف الحديد"، شهدت المحافل الدولية والإقليمية والمحلية والمنظمات المتفرقة، مناقشات وخلافات حادة موضوعها هو هذا: وصف العمليتين وعلاقة الواحدة بالأخرى، على أي ترتيب جرى التقديم أو التأخير.
فاجتماعات مجلس الأمن، وجمعية الأمم المتحدة العامة، ومجلس التعاون الخليجي، والتكتل من أجل المتوسط، والقمة العربية- الإسلامية الاستثنائية في الرياض، والقمم الثنائية مذذاك... تفرّقت على تأويل الحق في الدفاع عن النفس، وتناسب وتكافؤ الرد، وتحييد المدنيين أو التذرّع بهم، وعلى حد الإبادة، وصفة المتحاربين ("محاربون غير نظاميين" على وصف التشريع الأمريكي لمقاتلي "القاعدة"، أم "أنصار" يقاتلون احتلالاً على ما وصف مفاوضو الحلفاء في جنيف مقاتلي حركات مقاومة النازية)، جاهرت بتفرّقها أم سكتت عنه.
بينما يلبس القتال لباس حرب بين دولتين، أو كيانين سياسيّين، وسلطتين مركزيّتين تتمتع كلتاهما في بلدها بالمشروعية السياسية التي تخوّلها تمييز الصديق من العدو، تفتقر إحدى "الدولتين"، حماس، إلى التمثيل الكياني السياسي، فماذا سينتج عن ذلك؟
وبينما يلبس القتال لباس حرب بين دولتين، أو كيانين سياسيّين، وسلطتين مركزيّتين تتمتع كلتاهما في بلدها بالمشروعية السياسية التي تخوّلها تمييز الصديق من العدو وإعلان حال الطوارئ– على وجهين مختلفين من غير شك-، تفتقر إحدى "الدولتين"، حركة المقاومة الإسلامية (خارج السلطة الفلسطينية، وخارج مرجعيتها، منظمة التحرير الفلسطينية)، إلى التمثيل الكياني السياسي.
والافتقار هذا، فعلياً وعملياً، ليس نقصاً، بل هو عامل راجح وغالب في تكوين الحركة، وحيويّتها، واستمدادها من مرونتها ومراعاتها الظروف المتغيّرة القدرة على التجدُّد. وآية ذلك انتهاجُها خطاً معارضاً ومسلحاً حاداً في وجه منظمة التحرير، وجهازها الفتحاوي وانخراطها في نظام إقليمي هلامي (من غير قواعد مشتركة ومقروءة) ومتحجّر (ضيق هوامش الاستقلال والمبادرة) معاً.
فوسعها، في "الغاب" الغزاوي الذي أشرفت السياسة الإسرائيلية، من شارون إلى نتانياهو، على سن شريعته، دمجَ أهاليه، و80 في المئة منهم نازحون، مرة أولى وثانية وثالثة وعلى مشارف رابعة قاضية، في "مجتمع حرب" على حرف الثوران.
وهي، اليوم، في خضم الاضطرابات والمنازعات المحلية والإقليمية والدولية، معلّقة في اشتباه أو التباس سياسي لا مخرج واضحاً وسهلاً منه. فلا يجمع المعنيون الكثر، وهم العالم كله البعيد والقريب وما بينهما، إلا على "إنسانية" المعالجة المباشرة و"قانونيتها" العمومية والمبدئية. و"حركة المقاومة الإسلامية" كانت، من تلقاء نفسها وإرادتها السياسية والوطنية، المبادرة إلى الهجوم، وإلى الفصل الأول من الحرب، حُملت مبادرتها يومها على الابتداء أم حملت على فصل وسيط من فصول يعود "أولها" إلى 75 سنة، أو إلى قرن وسنة (إلى 1922، تاريخ إحدى المواجهات اليهودية- العربية الدامية الأولى). وهذه "الذات" السياسية والعسكرية الفاعلة، لا ممثل، أو مندوب، أو مفاوض، لها وعنها في المؤتمرات والمداولات التي تتناول حربها وقضيّتها، ومصير هذه وتلك.
ريع الخارج
والحلقة الأولى من هذا الغياب تعود إلى "الداخل" الفلسطيني، أو تبدأ فيه. فـ"حماس" واحدة من سلطتين فلسطينيتين تتولّيان "حكم" قطاعين، أرضاً وشعباً، من فلسطين. والسلطتان تتحاربان، وتفرّقهما خلافات على كل المسائل تقريباً. وعلى مثال عربي غالب، لكلتا السلطتين نفوذ وأنصار و"عملاء" في حَرَم أو حمى السلطة الأخرى، وفي الأبنية والأجسام الأهلية. وقول الرئيس الفلسطيني محمود عباس إن السلطة لم تخرج من القطاع في 2007، غداة انتصار "حماس" الانتخابي ثم طردها أطر "فتح" ورؤوس طاقم السلطة، أي استمرت على تسديد رواتب الموظفين- هو نظير ضعيف لحال "حماس"، أي تغلغلها في صفوف فلسطينيي الضفة والقدس، في المخيمات والمدن والبلدات، وفي أسلاك السلطة والجمعيات والهيئات البلدية.
يتجاوز الانقسام السياسي، وبطانته الأهلية والاجتماعية، شكل المعارضة إلى الانقسام المسلح. وكلا الطرفين لا يتورّع، ولم يتورّع عن التواطؤ على خصمه مع أجهزة الاحتلال، إما من طريق التنسيق الصريح أو المستتر
ويتجاوز الانقسام السياسي، وبطانته الأهلية والاجتماعية، شكل المعارضة إلى الانقسام المسلح. وكلا الطرفين لا يتورّع، ولم يتورّع عن التواطؤ على خصمه مع أجهزة الاحتلال، إما من طريق التنسيق الصريح أو المستتر (و"الحماية" لقاء التنسيق، على ما حصل في معالجة "عرين الأسود"، في جنين)، وإما من طريق التوريط والتخيير بين التعاون مع الاحتلال وبين التعرّض لقمعه في حال الإغضاء عن التصدي لبعض أعمال "حماس".
ويتوج النهجَ الملتبس هذا حرصُ "حماس" على البقاء خارج منظمة التحرير، وجبايةُ ريوع المعارضة المندّدة بضعف السلطة المهادنة، والطعنُ في صفة المنظمة "الممثل الوحيد للشعب الفلسطيني" والبرهان على خوائها، من وجه، والتصدي لحمل لواء القضية، والسعي في تصدر تمثيلها والاستحواذ على وحدانيته من غير شراكة مع المنظمات والفصائل الأخرى، ومن غير إبطال مرجعية "المنظمة" وإعلان الحلول محلها، من وجه آخر.
وهجوم 7 تشرين الأول/ أكتوبر هو ثمرة الالتباس المنهجي هذا. فعلى رغم انفراد حركة المقاومة الإسلامية بالمبادرة الضخمة، تخطيطاً وإعداداً طويلاً وتنفيذاً وقيادة ذيولها، أي الحرب المدمرة التي ما كان لأحدٍ أن يتصوّر إمساك إسرائيل عن شنّها على "الشعب" الفلسطيني، وربما التوسُّل أو التذرُّع بها إلى تهجير الفلسطينيين. ورغم هذا كله لم ينبرِ الفلسطينيون، ولا حتى السلطة، ولا انبرى عرب ("عرب إسرائيل"، على ما يسميهم إعلام "الممانعة" الخمينية والحرسية)، علناً، إلى التنديد بالانفراد، أو التنصّل منه، أو إلقاء تبعاته على عاتق أصحاب المبادرة.
معنى السيطرة
ولا شك في أن رد جواب الدولة العبرية على مجزرة المدنيين، بعد ظهر اليوم العتيد وصباح غداته، لم يترك فرصة تحفظ أو تشكيك أو معارضة. وتنبّهت "حماس" للوجه النفسي من تداعي الحلقتين، حلقة الهجوم وحلقة الرد، أم لم تتنبّه، فالأمر الذي لم يفتْها قطعاً هو الركن السياسي والمعنوي، أو الأيديولوجي، للتضامن معها، أو لشمولها، الجانبي غالباً، بالتضامن مع الفلسطينيين المهجرين تحت القصف والمحاصرين.
فهي تعلم، في ضوء تاريخ الحركات القومية العربية (المشرقية) الحديثة، أن في وسع أي جزءٍ من الكل الجامع القومي، أي الدولة الناجزة أو في طور الإنجاز، زعم تمثيل هذا الكل من غير مداولة ولا تعاقد ولا تكليف. وفي وسعه نقض (شبه) إجماع، سلبي في الأغلب، يحظى به الكل الجامع القومي، أو ما يقوم مقامه. وفي الحالين، يصدر زعم التمثيل والنقض عن "روح" القضية الخفي، وعن حبل سرة يصل صاحب الزعم بهذا الروح.
وعلى الأصلين أو المبدأين المتضافرين هذين جرى تاريخ علاقات الفصائل الفلسطينية المسلحة بمنظمة التحرير، منذ أن تولّت "فتح" ياسر عرفات قيادتها، في 1968، ويجري. وجرى تاريخ علاقات الجماعات الأهلية اللبنانية بدولتها، منذ 1943 على سبيل التقريب، ويجري. وسوَّغ استيلاءَ العسكريين على الحكم في بلدان المشرق التباسُ معنى السيطرة ("الغلبة في التكوين"، على قول ابن خلدون)، وأبنيتها وعملها. ومن نتائج الالتباس هذا الذي تضمره أجهزة السلطة تصدع "الدول" المتصل والجاري في سوريا وليبيا والعراق...
ويحول هذا الالتباس دون عزل مسألة العنف المنفلت من عقاله السياسي، وبالأحرى الأخلاقي، ودون معالجتها في الإطار السياسي العام والمقترح للمعالجة. وتثقل المسألة على خطة أو مشروع الدولة الفلسطينية وتكبله. فتصور هذه الدولة من غير غزة، ومن غير "حماس"، لا معنى له. ولا يعقل أن ترضى "السلطة" به، عل ما أسرع رئيسها إلى القول. والتخطيط لدولةٍ، "حماسُ" هي القوة الغالبة أو الراجحة فيها، وعلى أن تضطلع بهذا الدور من خارج منظمة التحرير، هو ضرب من عودٍ على بدء مغلق أو موصد. ولا نصير له غير بعض أجنحة "فيلق القدس"، و"نجباء" أكرم الكعبي، ومغاوير "أنصار الله"، و"قوة الرضوان" الخاصة.
وبينما تُسرّ اللجنة الوزارية المنبثقة عن القمة العربية- الإسلامية الاستثنائية، التنصّل من مجزرة المدنيين في غلاف غزة، فيكرر مقررها، وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان، أن المملكة تدين "أشكال العنف كافة واستهداف المدنيين منذ بداية الأزمة"، لا يصرح أحد بإدانة الواقعة، أو الشرارة التي "ألهبت السهل"، على قول ماوتسي تونغ.
يفتح التملُّص من الاحتلال وصفته القانونية عنف الحرب الدائرة على مصراعيه، وعلى شبهة نازعه إلى الإبادة، على ما نبّه المؤرّخ الإسرائيلي- الأمريكي عمير بارتوف
ويبرر المندوب الأمريكي في مجلس الأمن نقضه على مشروع القرار الإماراتي القاضي بوقف النار فوراً في غزة، والحائز على 13 صوتاً من 15، بـ"فشل هذا المجلس في إدانة هجمات (حماس) الإرهابية في 7 أكتوبر". ويَعْقد الموقف العربي-الإسلامي الأملَ في الخروج من التعليق، أو الانسداد، على "حرب الإبادة" الإسرائيلية، وعلى شيوع وصفها بهذه الصفة في الجمهور العالمي، وإدانات فظائعها وأهوالها الإنسانية. والحق أن التعويل هذا واقعي وعملي وإنساني، على المعنى الشائع في ظرفنا. ولكنه يترك هويّة الحلقة الخامسة من حروب غزة، منذ 2002، معلّقة وغائمة. ويترك، معها، هوية الحل أو صورته على الحال نفسها.
الاحتلال والاجتثاث
ويحرر دوام الاشتباه سياسة إسرائيلية عدوانية من بعض القيود القانونية. فالحكومة الإسرائيلية تزعم أن غزّة ليست أرضاً محتلّة، وليست جزءًا من السلطة الفلسطينية ومن الاتفاقات التي أنشأتها. ويترتب على هذا الزعم- ويكذبه حصار يأخذ بخناق أهل غزة منذ جلاء الجيش الإسرائيلي عنها، وتفكيك المستوطنات الإسرائيلية فيها، في 2005- إعفاء القانون الدولي الدولة المحتلة من قواعد قتال تحظر على الاحتلال استعمال سلاح الجو ومدافع الدبابات والميدان في القصف البعيد، وتلزمه بالقتال القريب. والحظر والإلزام هذان يمليان على الدولة المحتلة- ويفترض أن دوام احتلالها أو سبقه يلقي بعض المسؤولية عن اندلاع القتال عليها، وينبغي لها أن تتحمل بعض التكلفة عن هذه المسؤولية- تقييدَ الأسلحة التي يجوز لها استعمالها في حرب غير متكافئة، ويعرّضانها لخسائر بشرية عليها احتسابها في صوغ سياستها. ويفتح التملُّص من الاحتلال وصفته القانونية عنف الحرب الدائرة على مصراعيه، وعلى شبهة نازعه إلى الإبادة، على ما نبّه المؤرّخ الإسرائيلي- الأمريكي عمير بارتوف.
ولا تسهم مزاعم أو مطامع إقليمية توسُّعيّة، في تعريف الحرب الدائرة، وحروب سابقة وربما لاحقة "تشبهها". فغداة إلغاء زيارة الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي، إلى تركيا في 28 تشرين الثاني/ نوفمبر، "بسبب محاولة (رئيسي) الضغط على تركيا لاتخاذ موقف يتجاوز مجرد الخطاب الحاد ضد إسرائيل إلى قطع العلاقات..."، على قول صحيفة الشرق الأوسط (في 29/11)، قال علي خامنئي، المرشد الأعلى، إن عمليات "طوفان الأقصى" تستهدف "كيان الاحتلال الصهيوني" "ظاهراً". أما "في الواقع" فهدفها الحقيقي والعميق هو "اجتثاث أمريكا". وهي قد لا تجتث "أمريكا" اليوم، أو بعد أسابيع. ولكنها تمهد لغايتها هذه، ومنذ اليوم، من طريق "إرباك جدول عمل السياسات الأمريكية في المنطقة، وسوف تستمر (على إرباكه)".
وأمريكا هي أمريكا أو الولايات المتحدة، ظاهراً. وفي الواقع، كذلك، أمريكا هذه، الموشكة على الاجتثاث، هي "الحضارة والثقافة الغربية"، "التهديد الوجودي" على قول الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، حليف خامنئي، الديبلوماسي والعسكري والحضاري، في إطار "الجنوب العالمي". وحرب غزة، على هذا، فصل من فصول صراع "الجنوب" و"الغرب". وهذه المقالة، وهي جزء من المذهب الاستراتيجي الإيراني، لا تلزم "حماس" في شيء. واقتصرت "حماس" على الجمع بين إسرائيل و"الأمريكي" (الدعم، الاقتراع، السلاح) في موقف آني واحد. وجلي أن همها المحلي والوطني، الغزاوي، يطغى على الهم العالمي والحضاري، الخامنئي والحرسي.
وَلَفَتَ وزير الخارجية الإيراني، مير حسين عبداللهيان، على الصعيد الوطني الفلسطيني هذا، إلى أن "استشارة إيران في شأن أي تفاق يتعلق بفلسطين" أمر لا مناص منه (صحف 10/12). ودعم غزة، على قوله "يعود جزء منه إلى إطار (أو مجال) المقاومة"، والحركات التي تسلحها إيران وترعى حروبها "الفعلية المحدودة"، على قول أحد نواب "حزب الله" في المجلس اللبناني. وتوسيع الأطر "المشتركة"، على هذا النحو، يسهم في تكثير بؤر النزاع، وفي خلط هويات القوى السياسية المنخرطة فيها. ويعسّر تعريف أهدافها، ويؤجج الخلافات الوطنية الداخلية والإقليمية والدولية على التعريف هذا، وعلى الحلول المترتبة عليه.
عدمية عامة
وحين يكرر الإيرانيون الخمينيّون والحرسيون، وأنصارهم الإقليميون، الكلام على "إرباك" الغرب، والولايات المتحدة رأسه، وينصبون هذا الإرباك غاية مباشرة، ومحطة أو مرحلة على طريق "الاجتثاث" و"الأفول"- فهم يعلنون نهجاً شاملاً في النظر والعمل قد يصفه بعضهم، مبالغاً، بالشمولية. إلا أن قسمتهم العالم شطرين متنابذين ومتناقضين، واعتقادهم فلسفة تاريخ خلاصية وأخروية تتوّجها حروب الدجّال الأميركي والمهدي الجنوبي الطاحنة قبيل قيام الساعة، يقودانهم إلى عدمية تاريخية وثقافية وقانونية حقوقية. فإذا ألمح يورجين هابرماس، الألماني تاريخاً وثقافة و"وطنية دستورية"، إلى جواز المناقشة القانونية في وصف حرب إسرائيل على غزة وفيها بـ"الإبادة"، أعدم الكتبة المجندون، إلى هابرماس ومدرسة فرانكفورت، "الفكر الغربي منذ أكذوبة ديموقراطية الأثينيين"، على قول أحد هؤلاء. وذلك في ضوء فواتير الرواتب التي تقاضاها بعض أهل المدرسة، من دون فحص النصوص.
اقتصرت "حماس" على الجمع بين إسرائيل و"الأمريكي" (الدعم، الاقتراع، السلاح) في موقف آني واحد. وجلي أن همها المحلي والوطني، الغزاوي، يطغى على الهم العالمي والحضاري، الخامنئي والحرسي
ويشيع هذا، في الأثناء، عدوى الوصاية السلطانية على البؤر والجبهات المتفرقة والمشتعلة. فرجب طيب أردوغان، بعد إلغائه زيارة زميله الإيراني، وشريكه في التنديد بـ"الغرب الجماعي"، رفع بدوره راية "مقاومة الظلم". وهو ندب نفسه إلى جمل الراية، وقيادة معسكرها باسم السلطنة العثمانية وتاريخها الأوسطي. فقال: "لم نكن ظالمين في أي وقت من الأوقات في التاريخ، ولم نرضَ بالظلم، ولهذا السبب أصبحت جباهنا بيضاء. واليوم، اسودت وجوه الذين يصمتون" (6/12). ولا يستثني من أصحاب الوجوه السود إلا إسبانيا.
ودفاع أردوغان عن الحمساويين ("هم محرِّرون")- وهو كان أحد أولياء الأجنحة الإسلاموية في حركات "الربيع العربي"، وحاول أداء دور في حرب غزة في 2012، وناصب الحكم العسكري على مصر العداء بسبب فضه اعتصامات الإخوانيين بالقوة ومناوأته النفوذ التركي في مصر وفلسطين- صوَّر له ربما إمكان اضطلاعه بدور الوسيط في المعمعة الشرق أوسطية، الأليفة، والقريبة من فهمه السياسة الدولية والإقليمية.
وهو قطب بارز في بعض مواقع الدائرة هذه، في سوريا، والعراق، وليبيا، والسودان، وقطر، وفي جوارها الأسيوي، أذربيجان، القريب من إيران. والموقعان المشرقيان هما على تخوم الجبهة الملتهبة، وتحريكهما بيد الجار- الخصم الإيراني. ولكن أردوغان لا يلوح، على خلاف طهران، بحرب إقليمية، على رغم خشيته اشتعال الهشيم السوري، ولا يتوسل بالتهديد بها إلى ضبط الغلواء الإسرائيلية. ويقتصر تهديده على وصف المستوطنين بـ"الإرهابيين"، وعلى التلويح بالاحتكام إلى المحكمة الجنائية الدولية، ومقاضاة بنيامين نتانياهو، رئيس الوزراء الإسرائيلي، "مجرم الحرب" على قوله، أمامها.
تترجّح "حرب غزة"، على ما تسمى اختصاراً، وربما على سبيل التهوين من تشابكها، بين حروب كثيرة، ومحاربين كثر. فهي حرب "حماس" على الدولة والمجتمع الإسرائيليين. ويرد هذان على الحرب الحمساوية، في صيغتها الأخيرة، بحرب شاملة أو "كلية"، على ما دعا بعض الكتّاب الألمان الحرب العالمية الأولى، غير قاصدين عالميتها الأفقية والجغرافية بل فتكها، وتعبئتها وتطاولها إلى المرافق والدوائر كلها.
وتغلف هذه النواة أغلفة وأطواق توسعها إلى أمداء أخرى. فـ"حماس" تُصلي حروباً جانبية السلطةَ الفلسطينية الفتحاوية، والسياسات الوطنية والإقليمية والدولية التي أفضت إلى إنشائها من طريق المفاوضات، وانتهت إلى شلّها وتقزيمها. وتعضد "حماس" في حروبها، ومعارضاتها، الفرعية شبكة المنظمات والحركات التي تندرج في باب مناهضة الإمبريالية، على المعنى الذي عمّمته الأممية الثالثة (1920- 1939)، الشيوعية أو السوفياتية، وقصرت الإسم على دول الغرب الأوروبي والأطلسي.
وتجمع الشبكةُ مراتب متفرقة ومتفاوتة من الأطراف والمصالح، وأنواع التأييد والتباين. فمن هذه الأطراف جماعات انشقت عن دولها ومجتمعاتها، وأنشأت مجتمعها، على النقيض من المجتمع الذي كان مشتركاً وجامعاً، على الحد الأدنى غالباً. وأقامت في إطار الدولة "الظاهرة"، على قول علي خامنئي، حاشية "دولة" خاصة وفعلية أو "واقعية". ومنها من يقصر رأيه وموقفه على الحدود القانونية والحقوقية المعلنة. وقد يتعدى بعض آخر هذه الحدود إلى تضامن "قومي"- ديني، ينشط في الدائرة الإنسانية والمدنية، على وجه الخصوص.
وتنزع التكتلات العسكرية، الأهلية، إلى أقلمة هذه الحروب، وتصويرها في صورة حرب معسكرين: الجنوب ("العالمي"، الروسي- الصيني- الإيراني) والغرب ("الجماعي"، الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي)، على أرض فلسطين وبلدان طوقها المشرقية. وتكذب خريطة المواقف هذه القسمة، إلى اليوم. فالإقليمية تلوح في أفق بعيد، يعجز دعاتها، لحسن الحظ، عن تقريبه. ويستنكف أقطاب الجنوب الفعليون عن الانخراط، ولو الديبلوماسي، فيها. وتحول طبيعة "حماس" الهجينة، وعلاقاتها العربية المعقدة، دون بلورة صورتها السياسية، ودون استثمارها في صورة حل محتمل.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.