بعد غياب تسعة أيام عن عملها في إحدى الدوائر الحكومية بمحافظة البصرة، ظهرت ريهام (وهو اسم مستعار، 30 عاماً) وعلى جبهتها بقعة زرقاء كبيرة يتوسطها خدش باللون الأحمر، وذراعها مشدودة بضمادة طبية، وهي تجلس على مكتبها وتقول بصوت مبحوح: "سبعة أيام من الصراخ وطلب المساعدة وما أسعفني أحد".
تتابع الشابة العراقية حديثها وهي تضع باطن يدها على خدها: "بعد عودتي من العمل الساعة الخامسة عصراً، هرعت لغسل ملابس شقيقي الذي يصغرني بستة أعوام فقد نسيت غسلها قبل يوم، وما أن عاد ووجد الغسالة تدور بملابسه، بدأ في الصراخ ووجه الكلمات النابية لي ولم يدع كلمة ذم أو قذف في قاموسه دون ذكرها".
تأخذ ريهام نفساً عميقاً وتمسح دموعها بينما تقول شعرت "بالإهانة " نظرات زوجة شقيقي الأكبر كانت مليئة بالاستهزاء، وانتصاراً لكرامتي التي جُرحت أجبته: "أنا لست فاشلة مثلما تدّعي، أنا مهندسة". فتوجّه راكضاً نحوي وضربني ضرباً مبرحاً دون أن يدرك أين ستقع ضربته وهل قد تسبب لي عاهةً ما؟
تؤكد ريهام أن شقيقها المُعنِّف لم يكتف بتعنيفها "جسدياً" و"لفظياً" بل حبسها في غرفتها وسحب منها هاتفها المحمول، ومنعها من الذهاب إلى العمل. وتضيف أنها تذكّرت وجود هاتف قديم في درج غرفتها، فتواصلت عبره بإحدى الناشطات المدافعات عن حقوق المرأة عن طريق حسابها في انستغرام. نصحتها الناشطة بأن تتصل بالشرطة المجتمعية. اتصلت ريهام مراراً وتكراراً لكن دون جدوى. لم يرد أحد.
لاحقاً، أخبرتها الناشطة بأنها اتصلت بالمديرية في بغداد وبأنه ما من طريقة لتتدخل الشرطة المجتمعية لإنقاذها من حبسها المنزلي إلا بأن تظهر في مقطع فيديو تستغيث وتطلب النجدة. فكرت ريهام كثيراً في "الوصمة المجتمعية" التي قد تترتب على نشر هكذا فيديو، وفي تبعات استمرار حبسها في غرفتها واحتمالات خسارتها عملها، فلم تفعل. بعد سبعة أيام زارت خالتها منزلها وشفعت لها عند شقيقها فسمح لها بالخروج والعودة إلى عملها.
تختتم ريهام حديثها لرصيف22، معتبرةً "إذا كانت هناك قوانين صارمة تحاسب الجناة لما أقبل أحد على إهانتنا".
الشرطة المجتمعية "لم تعد تقوم بأية نشاطات بما في ذلك أخذ التعهدات الخطية من عائلة الضحية التي تتعرض للعنف" الذي يعد إجراءً "ترقيعياً ولا يحمي الضحية من التعنيف مرة أخرى" في الفترة الأخيرة. لماذا؟
تغيّر سياسة الشرطة المجتمعية
في هذا الشأن، يقول نور الحسن، وهو ناشط ومدافع عن حقوق الإنسان، على خدمات الشرطة المجتمعية: "خدمات الشرطة المجتمعية سيئة… انقلوها عني مثلما نطقتها، وضعوا تحت ‘سيئة‘ ألف خط أحمر. فلا أدرك ماذا يفعلون حين تستنجد بهم حالات وتتصل بهم مراراً وتكراراً دون استجابة".
من خلال عمله ومتابعته ورصده، يؤكد الحسن أن الشرطة المجتمعية في الفترة الأخيرة "لم تعد تقوم بأية نشاطات بما في ذلك أخذ التعهدات الخطية من عائلة الضحية التي تتعرض للعنف" الذي يرى أنه إجراء "ترقيعي ولا يحمي الضحية من التعنيف مرة أخرى"، مستدركاً "لكن لا بأس به في وسط أجواء مشحونة بالتعنيف. قد يرتدع بعض المعنِّفين لعوائلهم بعد مشاهدة دورية تقف أمام منزله وبعض الضحايا قد تشعر بالأمان".
تعرّضت نها أيضاً (وهو اسم مستعار، 36 عاماً)، من الموصل الجانب الأيمن تحديداً، للتعنيف من قبل والدها بسبب رفضها الزواج من ابن عمها. استمر في تعنيفها ثلاثة أيام اعتقاداً منه أنها سترضخ في نهاية المطاف.
تقول نها: "لكن جسدي الضعيف قاوم ركلاته، وحاولت استطاعتي أن أتحاشى كل ما يصوبه نحوي، واتصلت مرات عديدة بأرقام الشرطة المجتمعية من أجل إسعافي إلا أن كل الاتصالات كانت دون استجابة".
في اليوم الرابع، قررت نها إنقاذ نفسها بنفسها والهرب من المنزل إلى دار خالها الذي حسم المبأن تعود إلى منزل أبيها شريطة ألا يتعرض لها مجدداً وأن يغض النظر عن موضوع زواجها من ابن عمها.
لم يكن هذا التصرّف كافياً لتشعر نها بالأمان حيث تقول: "في جوهر الأمر لا أحد يمنع والدي من تعنيفي مرة أخرى. فهو يعنف والدتي أيضاً وفي كل مرة تأخذني مخيلتي إلى أن أتصل بالشرطة ويلبون ندائي ويصطحبونه مكبّلاً ليعاقب على أفعاله لا أن يكرم بحجة تربيتنا".
بالعودة إلى الناشط الحسن، فهو يؤكد أن الشرطة المجتمعية بإجراءاتها الروتينية البالية من شأنها أن تُسهم في زيادة حالات العنف والقتل بذرائع واهية كـ"الشرف". ويتابع بأن الشرطة المجتمعية منذ تأسيسها لم توفّر الحماية اللازمة لضحايا التعنيف الأسري لكن سياستها الحالية "هي الأسوأ" حيث "بدأت الشكاوى تتردد منذ فترة على الألسن عن عدم تعاونهم مع ضحايا حالات التعنيف التي نرصدها".
يذهب الحسن أبعد ويقول إن الشرطة المجتمعية باتت تلبي النداء إذا انتشرت قصة تعنيف على مواقع التواصل الاجتماعي وحظيت صاحبة هذه القصة بتعاطف من الرأي العام، لافتاً إلى أن هذا "قد يشكل خطراً على الضحية التي ربما تعاني لاحقاً من الوصمة المجتمعية بعد انتشار لها مقطع فيديو وهي بحالة ذعر وضعف".
كافة الدوائر الخاصة بحماية الأسرة لا تسمح بمستطرق/ة أو جار/ة أو مدافع/ة برفع "شكاية"، وتشترط أن تكون الضحية هي من تتصل وإن كانت في أسوأ حالاتها أو في وضع لا يسمح لها بالوصول إلى الشرطة المجتمعية
كما أنه ينتقد الإجراءات المتشددة التي تتبعها كافة الدوائر الخاصة بحماية الأسرة، فهي لا تسمح بمستطرق/ة أو جار/ة أو مدافع/ة برفع "شكاية"، ويُشترط أن تكون الضحية هي من تتصل وإن كانت في أسوأ حالاتها أو في وضع لا يسمح لها بالوصول إلى الشرطة المجتمعية.
بل وهو يزيد على ذلك بأن الضحية قد تُسجل شكوى فتُقابل بالتعامل معها بقمة البرود وبإجراءات شكلية لا تُشبع جائع.
للرد على هذه الاتهامات، تواصل رصيف22 مع عدد من الموظفين والموظفات بالشرطة المجتمعية لكن الجميع رفض التصريح بحجة "تعليمات من جهات عليا تمنعنا من التصريح في الإعلام".
الشرطة المجتمعية "ذكورية"؟
"الشرطة المجتمعية هي المنتج الأول للعنف الممنهج ضد النساء، حتى لو قدمت نفسها بصيغة ‘تمكينية‘ أو ‘توعوية‘ من أجل كسب رضا المنظمات الدولية"، هذا ما تقوله لرصيف22، أماني الحسن، وهي ناشطة سياسية ومدافعة عن حقوق المرأة.
ترى أماني الشرطة المجتمعية بمثابة حلقة "زائدة" ليس بوسعها فعل أي شيء يذكر، مضيفةً أن الشرطة المجتمعية لا تملك أية صلاحية وإنما الهدف من وجودها خلق حلقة أو مسافة إضافية ما بين "النساء" و"القضاء". كما تعتبر إجراءاتها "ترقيعية" حيث تُعيد الضحية إلى نفس المنزل الذي تعرضت فيه إلى التعنيف وتضغط عليها لترضخ لهذا التعنيف و"تتعايش معه".
علاوة على ذلك، تعتقد أماني أن "غالبية الموظفين في المجتمعية هم من الرجال وتترسخ بداخلهم نزعة ذكورية"، مردفةً بأنها دقّت جميع نواقيس الخطر حيال هذا الأمر الذي راحت ضحيته الكثير من النساء بين التعنيف والقتل و"الحكومة لا ترغب بوضع حد لمثل هذه الاستخفاف بحياة النساء".
"إعادة تلطيف الجو بين المعنِّف وضحيته"
منذ عام 2008، تشكّلت النواة الأولى للشرطة المجتمعية في العراق. وفي عام 2019 تم ربطها بمكتب وزير الداخلية، تحديداً دائرة العلاقات والإعلام في الوزارة.
وذكر مصدر قانوني رفض ذكر اسمه لأسباب قانونية، لرصيف22، أن الهدف من إنشاء الشرطة المجتمعية كان "أن تصبح دائرة لإعادة تلطيف الجو وتخفيف الشحنات بين الضحية التي تعرضت للعنف وبين عائلتها"، مضيفاً أنها "لا تمتلك صلاحيات وقوانين تخوّل لها مثلاً إلقاء القبض على الجاني أو معاقبة من قام بفعل التعنيف، ناهيك عن عدم وجود مراكز لإيواء الضحايا".
ويتشدد العديد من نواب البرلمان العراقي في السماح بإنشاء دور إيواء للمعنّفات بحجة أنها "لا تتناسب مع قيم وعادات وتقاليد المجتمع العراقي". نتيجة لذلك، فإن الضحية التي تتعرض للعنف أو تكون مهددة بالقتل توضع أحياناً في مراكز الشرطة بحيث تكون غير آمنة، بل وأحياناً يتم إيداعها في السجن أو تُنقل إلى منزل "شيخ العشيرة/القبيلة" على سبيل "الأمانة".
الشرطة المجتمعية لا تملك أية صلاحية وإنما الهدف من وجودها خلق حلقة أو مسافة إضافية ما بين "النساء" و"القضاء". كما تعتبر إجراءاتها "ترقيعية" حيث تُعيد الضحية إلى نفس المنزل الذي تعرضت فيه إلى التعنيف وتضغط عليها لترضخ لهذا التعنيف و"تتعايش معه"
وتقول مدافعة عن حقوق المرأة، رفضت ذكر اسمها بسبب الأجواء غير الملائمة في الوقت الحالي، إن "المرحلة الراهنة هي مرحلة عداء بين منظمات المجتمع المدني والمدافعات عن حقوق الإنسان من جهة، وبين المعارضين لإقرار قانون العنف الأسري من جهة أخرى"، لافتةً إلى أنه كان هناك "تعاون سابق" بين المدافعات عن المرأة وبين الشرطة المجتمعية في إدارتها القديمة. لكن بعد تولي إدارتها الحالية ظهرت الفجوة بين الجانبين من جديد، على حد قولها.
وتشير الناشطة إلى الإهمال الواضح في حالات التعنيف بعدم إسعافهن، ومنع موظفات المجتمعية من التصريح أو من الاحتكاك بالمدافعات، باعتبار أن المدافعات "هن المتسببات في ازدياد حالات الطلاق ومن أسباب انهيار الأسرة العراقية وقيمها" بالإشارة إلى البرامج التوعوية التي تقدمها الناشطات حول كيفية مواجهة العنف وغيرها.
تصمت الناشطة العراقية قليلاً قبل أن تواصل الحديث قائلةً: "لا أدري على من أطرح تساؤلاتي، الشرطة المجتمعية لا تمتلك صلاحيات، والبرلمان العراقي يمتنع من التصويت بحجة ‘العشائر‘، فلماذا نحن دولة إذا تقرر عن مصير نساءنا العشيرة؟ وتعنّف النساء باسم العشيرة؟ وتقتل النساء بذريعة ‘الشرف‘؟ فماذا تفعل الدولة بميزانياتها الخيالية؟".
وبحسب مجلس القضاء الأعلى في العراق، فإن عام 2022 شهد تسجيل 21 ألف و595 قضية عنف أسري في محافظات العراق (باستثناء إقليم كردستان)، ارتكبت ضد الأطفال والنساء وكبار السن. 963 حالة من الحالات المسجلة ارتكبت ضد الأطفال، و17 ألف و438 حالة عنف ضد النساء غالبيتها في الرصافة ببغداد، تليها محافظة كربلاء بالمرتبة الثانية.
وفي وقت سابق، أعلنت الشرطة المجتمعية أنه منذ بداية العام الحالي حتى منتصف آب/ أغسطس، "تلقت الشرطة المجتمعية عبر الخط الساخن 1162 مناشدة، وتمت معالجة تعنيف 754 حالة من النساء، ومعالجة تعنيف 233 حالة من الرجال، ومعالجة تعنيف 55 طفلاً، إضافة إلى إعادة 62 فتاة هاربة، ورصد ومتابعة 22 طفلاً هارباً، فضلاً عن انتشال 22 من كبار السن نتيجة التعنيف، وانتشال 4 أطفال نتيجة التعنيف أيضاً".
وأضاف البيان: "الشرطة المجتمعية نظمت في جانب التوعية والتثقيف، ورش عمل بواقع 101 ورشة عمل وندوات، فيما بلغ عدد المحاضرات 113 محاضرة، وتم إصدار 13815 مطبوعاً خاصاً بموضوع الجانب التوعوي والتثقيف من العنف، وكانت هناك 668 دورية راجلة توعوية".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومينحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ 3 أياممقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعمقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين