شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
الشرطة المجتمعية في العراق... يد القانون التي لا تحمي الضحية

الشرطة المجتمعية في العراق... يد القانون التي لا تحمي الضحية

حياة نحن والنساء

الخميس 25 مايو 202304:07 م
Read in English:

A broken shield for women? Community policing in Iraq fails the victims

تقول "ف.أ."، التي تعمل معلمةً في الكرادة في بغداد، إن "أخاها كاد أن ينهي حياتها خنقاً وآثار يديه لا تزال على عنقها، إثر مجادلة كلامية بسبب طريقة ارتدائها الحجاب". اتصلت مراراً بالشرطة المجتمعية لتبلغهم عن تعرضها لسوء المعاملة، وبأنها لا تحتمل أن ترى أخاها أمامها بعد اليوم جراء التعنيف الذي تتعرض له، وقد تلقت الرد أخيراً بهذه الطريقة: "إحنا صائمين منو إله خلك إلج؟" (نحن صائمون ولسنا في وارد الاستماع إلى شكواك).

تصاعدت وتيرة العنف ضد النساء في العراق بشكل كبير منذ فترة جائحة كورونا، وتزايدت في العام الأخير. ضجت مواقع التواصل الاجتماعي بصور وفيديوهات مرفقة بكمّ هائل من الغضب وبتعليقات تعبّر عن امتعاض البعض ورفضهم للسلوكيات العدائية والعنف الأسري الحاصل في حقهن، واللافت حين تتبع هذا الواقع، أنه عندما تتوجه أنظار الإعلام نحو موضوعٍ ما، تتذكر السلطات على حياء أن تتحرّى حوله وتتابعه.

يكمن دور الشرطة المجتمعية في العراق، والتي شرعت وزارة الداخلية العراقية في تشكيلها في عام 2008، في حل المشكلات الاجتماعية ودعم الأسرة، وحماية حقوق الإنسان والشرائح الضعيفة والأقليات، وعُدّت حينها خطوةً على طريق دعم المرأة ومساعدتها، وهو ما حصل في كثير من الحالات، إلا أن الواقع المعيش يشي بأن كثيرات من النساء ما زلن يعشن ظروفاً مأساويةً.

دور الشرطة ويد القانون

تتداول النساء العراقيات في ما بينهن صور التعذيب والإرهاق النفسي الواضح عليهن، كرسائل محملة بالأسى، واللعنات، لمشاركة معاناتهن، وطلباً للنجدة، على أمل أن يحصلن على القليل من المواساة أو المساعدة، وهو طموح ليس مقدوراً عليه دائماً كتعويضٍ عن التقصير الحاصل من الجهات المسؤولة عن حمايتهن كمواطنات من الدرجة الأولى.

اتصلت "ف.أ" مراراً بالشرطة المجتمعية لتبلغهم عن تعرضها لسوء المعاملة، وبأنها لا تحتمل أن ترى أخاها أمامها جراء التعنيف الذي تتعرض له، فأتاها الرد: "إحنا صائمين منو إله خلك إلج؟"

في هذا السياق، تقول مسؤولة الرصد الإلكتروني في الشرطة المجتمعية في محافظة النجف، أسماء الطالقاني، إن "دور الشرطة المجتمعية هو حل المشكلات بطريقة ودّية وتوعوية من دون الاضطرار إلى اللجوء إلى مراكز الشرطة أو القضاء، وذلك من أجل تخفيف الزخم الحاصل بسبب البلاغات التي تتسلمها الشرطة بشكل يومي ومستمر، ونتعامل مع المتقدم بالبلاغ بشكل مباشر فور تلقيها المعلومات اللازمة".

وتتحدث عن المعوقات التي تواجههم وتحدّ من عملهم، وأبرزها طبيعة المجتمع العراقي، العشائري، وعقلية الأهالي الصعبة، وهذا ما يتطلب منهم "التواصل معهم لأيام، فقط من أجل محاولة إقناعهم بالعزوف عن إيذاء الفتاة الهاربة أو قتلها على سبيل المثال".

وحصلت الكثير من الحالات التي قامت فيها الشرطة المجتمعية بإرجاع الفتيات إلى ذويهن كما حصل مع طيبة العلي، التي تواصلت الشرطة المجتمعية وشرطة الديوانية مع ذويها بشكل شخصي بعدما أبلغتهم الأخيرة بأنها ستُقتل على يد عائلتها، وقامت الجهات المعنية بإلزام العائلة بالتوقيع على تعهد بعدم التعرض لها. وقد تدخلت جهات عشائرية أيضاً في محاولة لتهدئة الوضع، ولكن انتهت القضية بمقتل طيبة خنقاً بعد ثلاثة أيام، في 2 شباط/ فبراير الماضي.

بحسب الطالقاني، "نحن لدينا صلاحيات محدودة وعندما نواجه حالات ترفض العودة، نقوم بتسليمها إلى القضاء وتحال بعدها إلى دور الإيواء الموجودة في المحافظة. أما أن نقوم نحن بأخذ فتيات معنّفات رغماً عن أهلنّ، فلا يمكننا ذلك لأنه لا يوجد لدينا في القانون ما يتوافق مع مثل هذه الخطوة".

وتضيف: "مهمتنا أن نحتوي القضية وأن نحول دون أن تتفاقم، وأن نقدّم إرشادات إلى الأهل حول الدعم النفسي وكيفية التعامل مع ضحايا العنف الأسري والابتزاز، بحدود الصلاحيات المتاحة لنا فقط، ثم نقوم بمتابعة الحالة بأساليبنا الخاصة ونحن جادّون في عملنا، لكن لا يوجد عمل لا يخلو من المشكلات والضغوط. وربما قد تحصل هناك إخفاقات صغيرة، إلا أنه لا يجب على النساء أن يمتنعن عن التقدم بالبلاغ أو الاتصال بنا".

الأسى نهايته الموت

لن تكون هنالك حقوق كاملة لفرد ما من دون أن يعي احتياجه إلى هذا الحق بنفسه ومن دون أن تركز المؤسسات الحكومية على إعطاء هذا الحق، والأمان الاجتماعي لا يمكن أن يتوفر لضحية تعيش خائفةً في منزلها أكثر من عيشها خائفةً من الغرباء في الشوارع. يمكن للمرأة تلقّي الصفعات والركلات لكن لا يمكنها أن تتصل أو تتقدم بشكوى باحثةً عن منفذٍ لها، فالاحتمالات هنا ضئيلة وغير آمنة كونها منوطةً بصلاحيات معينة وشروط، فالطاعة والصمت يشكلان ضرورةً قصوى للنساء للبقاء على قيد الحياة؛ هكذا بنى هذا المجتمع أسواره حول المرأة، وجعلها مع الوقت، عاجزةً تماماً.

وأشارت دراسة عن العنف ضد المرأة في العراق، نُشرت في موقع هيئة الأمم المتحدة للمرأة، إلى أن غياب قانون رادع لحماية النساء والفتيات من العنف الأسري، وضعف مؤسسات إنفاذ القانون، وانتشار السلاح خارج نطاق الدولة، كُلها أسباب أدت الى تفاقم ممارسات العنف ضد النساء والفتيات.

وفي الدراسة القضائية نفسها، وجد الاستقصاء أن قرارات المحاكم قد تتهاون في بعض العقوبات المفروضة على مرتكبي جرائم العنف الأسري، وأن أغلب هذه الدعاوى تنتهي بالصلح".

تقول "م.أ."، وهي مدرّسة في جامعة البصرة، إنها اتصلت على الخط المخصص للشرطة المجتمعية مرات عدة بعد سماعها صراخ جارتها، وتلقت الرد التالي: "شنو إحنا ما عدنا غيرج؟"، ثم أُغلق الخط. بعد يومين وفي المنطقة نفسها في محافظة البصرة، عُلّقت لافتة تنعى "ح.ع."، جارتها التي تبلغ من العمر عشرين عاماً والتي كانت تقابلها عند رجوعها من الجامعة عن طريق الصدفة أحياناً. لم يتكلم أحد عن موتها ولم نعلم السبب".

تقول "م.أ."، وهي مدرّسة في جامعة البصرة، إنها اتصلت بالشرطة المجتمعية مرات عدة بعد سماعها صراخ جارتها، وتلقت الرد التالي: "شنو إحنا ما عدنا غيرج؟". بعد يومين عُلّقت لافتة تنعى "ح.ع."، جارتها.

"ظروف الموت هنا غامضة، لكن ملامح الموت هي واحدة على وجوه النساء. وفي بعض الأحيان عندما تحاول امرأة أن تتقدم ببلاغ عن أبٍ أو أخٍ مُعنِّف، قد تُقابَل بنصح ديني ووعظ، وكأن الشرطة المجتمعية أصبحت شرطة آداب"؛ هذا ما تقوله "ع.ج."، ذات الثلاثة والعشرين عاماً، وهي طالبة في كلية الآداب في بغداد، وهي تشرح كيف أنها تقدمت للإبلاغ عن تهديد والدها بقتلها، وانتهى بلاغها بهذه العبارات: "كلام ساعة عصبية لا تخافي هذي المشكلات تصير بين الأهل".

من جهتها، قدّمت نورهان، التي تبلغ من العمر تسعة عشر عاماً وما تزال طالبةً في إحدى ثانويات بغداد، معلومات وصوراً لنا، خزّنتها في السنوات الماضية عن محاولة اعتداء عليها من قبل أخيها الصغير، وكانت تردد: "هو وحش مو أخ"، وأرفقتها بالحديث عن محاولات عدة للإبلاغ ولكنها كانت تتراجع عند رفع السماعة، إذ إنها في كل مرة كانت تريد فيها أن تتكلم عما حصل كانت تخاف ثم تتراجع، مثلها مثل أي فتاة ترى أحوال النساء وتسمع عن مصائرهن في مواجهة الجاني أو مواجهة الموت.

تنتهي شهادة نور بمزاح من النوع الذي قد لا يفارق ذاكرتك: "لو حدث لي شيء، أنت خذي حقي ولا تسكتي"، على افتراض أن استرداد الحق بعد الموت سيأتي بنتيجة. وإن استردت الفتاة حقها، فهل ستسترد حياتها بعده؟

صون الحقوق... ولكن

تقول مديرة الشؤون النسوية في الشرطة المجتمعية في بغداد بسمة الزيدي، إن "أداء الشرطة المجتمعية ومهامها هي مهام إنسانية تهدف إلى صون حقوق الإنسان وتعزيز السلم الأهلي وفق الصلاحيات المنوطة بها".

تروي أنه خلال عملها في الشعبة النسوية، صادفت قصص نجاح كثيرةً لنساء معنّفات وهاربات، إلا أن "هنالك بعض القضايا التي تحتاج إلى أيام أو أشهر لكي تُحلّ بشكل جذري، فنحن نحاول أن نوصل إلى الناس أن الحلول التي تقدّمها الشرطة المجتمعية هي حلول ودية وتصالحية وأن أساس عملنا يرتكز على مبدأ العدالة التصالحية بين الأطراف وليس الدخول في نزاع وتأجيج الوضع".

أما بخصوص البلاغات والمناشدات التي ترِد عبر الخط الساخن، فتقول: "نقوم نحن بدورنا بالاستجابة إلى البلاغ بشكل فوري، وإذا كانت القضية تحتاج إلى توجه إلى مؤسسة أخرى نقوم أيضاً بإرشاد المبلغ أو توجيهه إلى القضاء بحدود معرفتنا ولدينا مفارز ودوريات تعمل بشكل يومي ومنتظم من أجل أن تحدّ من حالات الهرب والانتحار التي سرت بين النساء والمراهقات في الآونة الأخيرة، ونشجع على ثقافة الإبلاغ عن حالات العنف واثقين بأننا سنقدّم كل ما في وسعنا".

نحن نعلم بأن اللوم في جميع الأحوال سيقع على عاتقنا، بينما التلكؤ والعجز الحقيقي ليسا في منظومتنا ولا في استجابة الشرطة، إنما في المنظومة الحكومية التي ما زالت تراجع مسودات القوانين من دون أن تقرّ واحدةً منها

وفي محادثة مع الباحثة العراقية جنان الجابري، ركزت على ذكر الأساسيات، وهي أننا عندما نسمي شيئاً بأنه حق لشخص فنحن نعني أنه على المجتمع حمايته في امتلاك حقه، سواء بقوة القانون أو بالتربية والتعليم، فما بالنا تعجز الجهات المعنية عن تقديم المعونة بشكل كامل بسبب عدم وجود قوانين منصفة تساعدهم على أداء هذه المهام؟ فعندما يتعلق الموضوع بامرأة معنَّفة أو هاربة تأخذها الجهات التي التجأت إليها وتقدّمها إلى ذويها كما حدث خلال الشهر الماضي -حسب ما نُشر في الفضائيات- حين أعادت الشرطة المجتمعية أربع فتيات معنَّفات إلى منازلهن خشية الملاحقة العشائرية بعد توقيع الأهالي على تعهدات خطية بعدم المساس بهنّ، بغض النظر عن العواقب التي قد تواجهها المرأة الهاربة عند عودتها. فإلى من ستتوجه النساء حينها؟ وما هي البدائل؟

الخوف الحاضر دائماً

تذكر الشرطة المجتمعية أنها تراقب هذه الحالات عند إرجاعهن، لكن هنالك تحفظات بسبب سرية العمل ولا يُسمح بمشاركة تفاصيل هذه العمليات من دون موافقة الأهل، مع التطرق أيضاً إلى أخلاقيات العمل التي تتطلب منهم اعتماد منهجية معيّنة تكاد تكون مخفيةً عن أعين العامة، فعلى سبيل المثال، طرحنا سؤالاً على عيّنة من الشباب العاملين في المجال الطبي عن حالات الانتحار أو التعنيف التي تصل إلى المستشفيات، وما هي الإجراءات التي يقومون بها بدورهم، فكان الرد بشكل جماعي: "الفتيات اللواتي حاولن الانتحار أغلبهن يرفضن وجود الأهل معهن في الغرفة في المستشفى، ويكتفين بالصراخ والبكاء أحياناً، والمعنّفات غالباً يكون الشخص المسبب لهنّ بهذا الأذى هو المرافق لهنّ، لذلك نكتفي بمعالجتهن، أما التبليغ فلا يقدّم ولا يؤخر لأننا نتضرر والمريضة تتضرر أكثر ومن الممكن أن تُحرم حتى من الإنقاذ".

وقالت إحدى الممرضات إنها حاولت ذات مرة أن تكتب بلاغاً عن حالة امرأة متزوجة ومعنّفة بشكل دموي ومخيف؛ كدمات زرقاء على الوجه وكسور في الفك، لكنها لم تكمل البلاغ بسبب خوفها من المساءلة القانونية، ولأنها تنتهك خصوصية المريضة".

وبعد حديث طويل مع أحد المتلقّين للبلاغات، صرح بأنه "يوجد ما يسمى بالبلاغات الفارغة التي تأخذ حيزاً من عمل الشرطة في حين أنها لا تستحقه، ويُطلب منا فرز هذه البلاغات لكي يتسنى لنا العمل على المهام الملحة، فهنالك بلاغات عندما نعاود الاتصال بأصحابها تكون أجهزتهم مغلقةً أو مشغولةً، فما يسعنا أن نفعل حينها؟".

ويضيف: "نحن نعلم بأن اللوم في جميع الأحوال سيقع على عاتقنا، بينما التلكؤ والعجز الحقيقي ليسا في منظومتنا ولا في استجابة الشرطة، إنما في المنظومة الحكومية التي ما زالت تراجع مسودات القوانين من دون أن تقرّ واحدةً منها لكي نتقدّم في عملنا".

هي سرديات لا تنتهي عن الوقائع التي تعايشها النساء في كل جزء من البلاد، ومنها ما يُدوّن في مذكرات ومنها ما يُرسل كوصية عن طريق المزاح. وما زال الواقع كما هو بين شهادات الضحايا وبين حديث العاملين في المؤسسات الأمنية والحكومية. فكيف يمكننا أن ننال حقوقنا ونحدّ من هذه الحالات من دون أن ننتظر استجابةً من مكالمة قد تنتهي حياتنا عند انتهائها، أو قد نخفق في إكمالها حتى؟


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

قد لا توافق على كل كلمة ننشرها…

لكن رصيف22، هو صوت الشعوب المضطهدة، وصوت الشجعان والمغامرين. لا نخاف من كشف الحقيقة، مهما كانت قبيحةً، أو قاسيةً، أو غير مريحة. ليست لدينا أي أجندات سياسية أو اقتصادية. نحن هنا لنكون صوتكم الحرّ.

قد لا توافق على كل كلمة ننشرها، ولكنك بضمّك صوتك إلينا، ستكون جزءاً من التغيير الذي ترغب في رؤيته في العالم.

في "ناس رصيف"، لن تستمتع بموقعنا من دون إعلانات فحسب، بل سيكون لصوتك ورأيك الأولوية في فعالياتنا، وفي ورش العمل التي ننظمها، وفي النقاشات مع فريق التحرير، وستتمكن من المساهمة في تشكيل رؤيتنا للتغيير ومهمتنا لتحدّي الوضع الحالي.

شاركنا رحلتنا من خلال انضمامك إلى "ناسنا"، لنواجه الرقابة والترهيب السياسي والديني والمجتمعي، ونخوض في القضايا التي لا يجرؤ أحد على الخوض فيها.

Website by WhiteBeard
Popup Image