عزيزتي بيسان
انتهت أيام الهدنة! ستسألين عن الفرق بين أيام العدوان من البر والبحر والجو، وبين أيام الهدنة.
نعم، ثمة فرق واضح، العدوان كان من الخارج، مع تنبه شديد من كل الحواس، سمعك يتجاوب مع كل صوت، وفي نظراتك تلفت مستمر بين السماء والأرض، وعن يمينك وعن يسارك، أعصابك مشدودة على آخرها، لا مجال للاسترخاء إلا إذا أنزل الله عليك السكينة في لحظات نوم تنقطعين فيها عن كل هذا الجنون.
أما ونحن في الهدنة، فثمة عدوان من نوع آخر، لن أحدثك عن صعوبة توفير الماء والغذاء وإلخ، ثمة عدوان أشد صعوبة، يأتي من الداخل، من داخلك أنت، كشخص أجّل ردود فعله وخزّن مشاعره طوال ثماني وأربعين يوماً، تحوّل فيهم إلى آلة من الصبر والاحتمال والاحتساب.
عيناك تتحولان إلى عدو حين تنفتحان على هول الكارثة، على فيديوهات تأتي من كل الجهات تأكد أنه لم يعد شيء كما كان، أما المقابر الجماعية، فمفتوحة للجثث التي تحللت في الطرقات منذ بدأت العملية البرية، كذلك أنفك الذي الذي انفتح على روائح الموت والغبار، جسدك الذي يبدو هزيلاً، يشتاق إلى حمام طويل غير ممكن في ظل شح الماء.
إنسي غزة التي في ذاكرتك، لم تعد موجودة، ثمة غزة أخرى، من سيبقى على قيد الحياة، عليه أن يعمرها، غزة جديدة معمّدة بدماء أهلها الطيبين، البسطاء، الذين ساهم العالم في سحقهم وسحق مدينتهم
القلب المجنون الذي في صدرك، كيف احتمل تأجيل كل هذا الحزن، ليس أقلها غياب عصافير الدوري من مشهد الصباح، وتكوم القطط على نفسها ميتة على جنبات الطرق من الجوع والعطش والبرد، كذلك اختفاء الكثير من شجر الشوارع الذي تحول إلى حطب لإيقاد النار
بيسان
إنسي غزة التي في ذاكرتك، لم تعد موجودة، ثمة غزة أخرى، من سيبقى على قيد الحياة، عليه أن يعمرها، غزة جديدة معمدة بدماء أهلها الطيبين، البسطاء، الذين ساهم العالم في سحقهم وسحق مدينتهم.
ستعاودين السؤال عما أفعل في الهدنة، لا شيء، أشعر أنني أقل حيوية، قضيت اليوم الأول في نوم أهل الكهف، كأنني أخزن نوما لليال لا نوم فيها. وخسرت 10 كيلوغرامات من وزني خلال أيام الحرب. كل ما فعلته سابقاً من رياضة شديدة وبرامج غذائية وصوم متقطع لم يأت بهذه النتيجة السريعة.
نعم، ما زلنا بلا كهرباء، بلا ماء صالح للشرب، بلا مواد غذائية إلا بعض خضراوات الموسم، الطوابير على كل شيء، دخلت شاحنات تم تخزينها، لا يدري الناس متى يتسلمون ما قد يسد جوعهم. حاول الكثير من الناس العودة إلى تفقد بيوتهم من الجنوب الشمال، ولكن دون جدوى، فالآليات العسكرية تقطع الطريق عليهم وتمنعهم من التقدم، على عكس من يريد الخروج من الشمال إلى الجنوب.
خسرت 10 كيلوغرامات من وزني خلال أيام الحرب. كل ما فعلته سابقاً من رياضة شديدة وبرامج غذائية وصوم متقطع لم يأت بهذه النتيجة السريعة.
كل الوجوه منهكة، كل العيون شاردة، حتى السماء رمادية، نهارنا حار، وليلنا في منتهى البرودة، فالخيام لا تطاق في النهار ولا تقي برد الليل.
كيف حال اسطنبول؟ ما زلت أتذكر جحيم متابعة الأخبار من الخارج، تابعنا عدوان مايو/ أيار 2021 من هناك، أريد أخبرك سراً، الأمر أهون بكثير رغم كارثية ما يحدث حين تكونين داخل المشهد، فأعانك الله على قسوة الغربة وقسوة المشهد من الخارج.
سنشرب قهوة ذات يوم في أي عاصمة ونتذكر كل هذا، ونحكي ما لم نقله وما لم نكتبه، أخبري الرفاق أن غزة لم تسترح بعد، إنما تتحضر للقيامة. سلام عليك
*بيسان عدوان، كاتبة وصحافية فلسطينية تُقيم في اسطنبول.
عزيزي مهيب
سلام عليك وحولك، تعرف أن لا متسع من الوقت للعتاب، وأنني لستُ ممن يعاتبون، فالغائبون غائبون بمحض إرادتهم، ولا يشكل لي غيابهم أي فراغ، فقد فككت التعلق بهذه الدنيا منذ سنوات، وبالتالي شخوصها مهما كان قربهم عاطفياً، فعاطفتي للذين قرروا أن حضورهم مهم وحضروا، فلم يكن الأمر شخصياً فحسب، وإنما يخص الكل الفلسطيني والعربي والإنساني بقيمه ومبادئه .
الأطفال امتلأوا بطاقة عجيبة، كل سلوكهم عنيف، ولا يمكن السيطرة عليه، ما عاشوه ويعيشونه من تفاصيل مهولة ومروعة لا يمكن إلا أن يأتي بهذه النتيجة، العنف مع أنفسهم وأقرانهم وحتى والديهم، نحن بحاحة إلى برامج مدروسة ومكثفة لمعالجة ذلك، لا أدري متى ولا كيف
أكتب هذا النص في اليوم الرابع من الهدنة، ثمة يومان إضافيان تم الاتفاق عليهما، إذًا لن يكون اليوم الأخير، ولن نعود غداً إلى دوائر الخراب والدمار والموت الذي لم يغادرنا أصلاً.
أرأيت أي فقدان لمعاني الحياة؟ لقد رأيت ذلك، فكما تقول جداتنا الطيبات "الغالب عايب"، وهم بغلبة بطشهم بإسناد من قوى الدنيا خرّبوا ذاكرتنا، شوّهوا ذكرياتنا، مسحوا عائلات بأكملها من السجلات المدنية، مسحوا خارطة البلد وكل ذلك على مرأى العالم، ولكننا في مشهد الخراب هذا، كنا ننظر إلى بصيص أمل، يلمع من باب غرفة الولادة.
إن الإبادة الجماعية لن تحقق أضغاث أحلام المختل نتنياهو وجيشه، باب الولادة مشرع على الحياة، فيما يفتح هو جميع الأبواب على الموت.
بالأمس، في منتصف الليل، مرت طائرة حربية، في اختراق واضح للهدنة، في سماء خان يونس، ألم أقل لك أن هذا الجيش المختل يستقوي على المدنيين بطائراته الحربية وأصواتها المخيفة في ظلال هدنة توشك على الانتهاء دون أن نلتقط فيها أنفاسنا.
الأطفال امتلأوا بطاقة عجيبة، كل سلوكهم عنيف، ولا يمكن السيطرة عليه، ما عاشوه ويعيشونه من تفاصيل مهولة ومروعة لا يمكن إلا أن يأتي بهذه النتيجة، العنف... العنف مع أنفسهم وأقرانهم وحتى والديهم، نحن بحاحة إلى برامج مدروسة ومكثفة لمعالجة ذلك، لا أدري متى ولا كيف، ولكن يجب العمل على ذلك.
حتى نحن نحتاج إلى علاج، يا رجل، مع كل الفقدان والخسارات والألم، إلا أن دمعة واحدة لم تسقط، هذا وحده دليل كبير أنني شخصيا أحتاج إلى علاج، أحاول فلسفة الأمر مقنعاً نفسي أن الكتابة أحزان مختزلة على شاشة الموبايل، تحول الحزن والألم إلى سرد يتوارى خلف الحروف التي تجر بها بعضها بعضاً، لتتكاتف فتصنع كلمات ربما تقول شيئاً مما يشعل حريقاً في الصدر.
ثمة خبر سار، اليوم تدفق ماء البلدية إلى بيوت حيّنا، كانت فرصة أن آخذ دشاً، الجو بارد، والماء كذلك، لكنها فرصة لا يمكن تمريرها لأن أزيل أكوام الغبار وأعطي جسدي فرصة لأن يتنفس من جديد.
لا عليك من هذا كله، ثمة خبر سار، اليوم صباحاً تدفق ماء البلدية إلى بيوت حيّنا، كانت فرصة أن آخذ دشاً، الجو بارد، والماء كذلك، وكانت فرصة لا يمكن تمريرها لأن أزيل أكوام الغبار وأعطي جسدي فرصة لأن يتنفس من جديد.
يا الله كم هو شعور يعادل حلماً مشتهى أن تترك الماء يتسلل من رأسك إلى جسدك بعد غياب أسبوع. تعود الحياة إلى الجسد مع الاغتسال، ويتحرك الدم سريعا لينعش صباحك.. نعم إنه صباح الخير والنعم، الذي لولا غيابها لما شعرنا بها، ولظللنا معتقدين أن وجودها مفهوم ضمنياً ولا جدال فيه.
لدي رغبة كبيرة في الذهاب إلى شاطئ البحر، لا أعرف ما الذي يمنعني عن ذلك، ربما لم يعد لدي طاقة كافية للسير مشياً على الأقدام عدة كيلومترات إلى المكان الذي يمكن أن يغسل الروح من الداخل، البحر يفعل ذلك حقاً، مجرد النظر في هذا الاتساع الأزرق مريح للبصر، وفي تقلب موجه، تطهير للجروح المفتوحة في النفس.
لماذا لا أذهب إلى هناك؟ أحاول أن أقنع نفسي في اختطاف بعض الوقت أمام الشاطئ، فأتذكر أن ماءه مدجج بطرّادات الاحتلال الاسرائيلي وأن شاطئه مخرب تماماً إثر القصف طوال أيام العدوان، فأفضّل النظر إلى السماء، السماء مريحة أيضاً، الليل طويل جداً، والعتمة الكاملة تبدأ مع غروب الشمس، تخيل يا رجل أن تكون في ظلام دامس من الخامسة مساءً إلى الخامسة صباحاً، إنه تدريب لعين على العماء، أحب الإنارة الخافتة، ولكن هذا الذي نعيشه عماء، لا يوجد مصدر للإنارة سوى شاشة الموبايل إن كان مشحونا بالطاقة، والذي تخفضها إلى أقل درجة حفاظا على الطاقة.
غابت عصافير الدوري من مشهد الصباح، وتكومت القطط على نفسها ميتة على جنبات الطرق من الجوع والعطش والبرد، كذلك اختفت الكثير من شجر الشوارع بعد أن تحولت إلى حطب لإيقاد النار
الآن وأنا أكتب لك، أشعر أنني غارق في بحر من الظلمات، بالكاد أرى الحروف على شاشة الموبايل، وعيناي تراقبان نسبة الشحن المتبقية، ما تبقى من نصف شحنة تبذل مجهوداً لا يستهان به من أجلها. المهم أنك ستكتشف أن قدرات الإنسان مرعبة في التعاطي مع ما هو مجبور عليه، في الانسياق إلى التعامل مع المتاح، وفي تبرير ذلك من قبيل قوة الإرادة والاحتمال، أنا أفضّل أن أعتقد أنه رضا بما قدر الله، وأن الله يمنحني القوة اللازمة لذلك، وأنه وقت وسيمر. فكل مُر سيمر.
وهذا الليل الطويل سينجلي بصبح قريب، كل يوم يحدث هذا، أشهده بعينيّ وبحواسي كلها، يولد الصبح في أشد أوقات الليل حلكة، أعرف أنك صديق طيب لليل، ليلة طيبة وكن بخير.
* مهيب البرغوثي، شاعر فلسطيني يقيم في رام الله.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 23 ساعةمتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع