شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
يوميات من غزة (17)... هدنة لسبعة أيام ومزيد من الوقت للرجل الشرس

يوميات من غزة (17)... هدنة لسبعة أيام ومزيد من الوقت للرجل الشرس

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

بعد انقضاء سبعة أسابيع على اندلاع الحرب في قطاع غزة تم التوصل إلى وقف مؤقت لإطلاق النار بين حركة حماس وإسرائيل، نفذ بموجبه الطرفان عملية لمبادلة دفعات من الأسرى الفلسطينيين بالمختطفين الإسرائليين على مدار أربعة أيام، ثم اتفقا على تمديد العملية لثلاثة أيام إضافية. جاء اتفاق الهدنة ليضع حداً للقتال الذي أدى إلى مقتل وفقدان وتشريد عشرات آلاف الفلسطينيين في القطاع، فضلاً عن تدمير هائل للمباني والبنى التحتية. 

هدنة لانتشال ودفن الضحايا

رافقت إعلانَ الهدنة حالةٌ من الترقب عشناها طوال الأسبوعين الأخيرين من الحرب، وتراجع شعورنا بنفاد الصبر جراء استمرار القتال، وغاب التوتر الذي كان يلازمنا يومياً بتوقف الطائرات الحربية عن التحليق في الجو، وصمت انفجارات الصواريخ والمدافع. شعرنا مع الاتفاق بالارتياح وتنفس كل منا الصعداء، لكن مع تعاقب الأيام بدا أن معاناتنا في تلبية احتياجاتنا الأساسية لم يطلها أي تغيير.  

ساعد الاتفاق بعض العائلات لانتشال جثث ذويهم ودفنها، وتمكن آخرون من الاطمئنان على منازلهم أو ما تبقى منها، فيما فجع البعض الآخر بتدمير ممتلكاتهم.  

ظلت أزمة شح المواد الغذائية والوقود وارتفاع أسعارهما تراوح مكانها، إذ كان يمكن رؤية طوابير طويلة جداً من الناس أمام محطات الوقود لتعبئة أنابيب الغاز والتزود بالديزل والبنزين دون نتيجة، فيما استمر قطع الأشجار وجمع أعمدة الكهرباء البالية لاستخدامها في المواقد، ولم تسعف أيام الهدنة الغالبية الساحقة من العائلات لاستلام حصصها من الطحين الذي أعلنت الأونروا عن تسليمه، جاء ذلك في ظل استمرار تدفق شحنات المساعدات الإنسانية عبر معبر رفح بحسب الاتفاق، والتي بات من الواضح أنها لا تلبي إلا النذر اليسير من احتياجات السكان.

في المقابل، تمكنت العائلات التي تربطها صلة قرابة من الالتقاء أثناء الهدنة، فاختلط الفرح بالبكاء مع قصص المعاناة التي واجهتها كل أسرة وفقاً لظروف نزوحها الخاصة، وذلك بعد خمسين يوماً من التشتت والقلق والصعوبة البالغة في تناقل الأخبار، كما ساعد الاتفاق على انتشال عائلات لجثث ذويها من تحت الأنقاض ودفنها، وتمكن آخرون من الاطمئنان على منازلهم أو ما تبقى منها، فيما فجع البعض الآخر بتدمير ممتلكاتهم ومصالحهم التجارية بشكل كامل. 

في الأثناء لم يتمكن جميع من نزحوا إلى جنوب القطاع من العودة إلى منازلهم في الشمال، حيث منعت قوات الاحتلال الإسرائيلي عودتهم منعاً باتاً، وقد شهدت بنفسي إطلاق القوات المتمركزة حول محور صلاح الدين النار على جموع من الشبان الذين تجمهروا بالقرب من مفترق الشهداء أملاً في عبور المنطقة باتجاه الشمال، حيث عادوا أدراجهم خائبين.

حين تكون داخل غزة للصور وقع مختلف

تكاثرت في أيام الاتفاق أيضاً صور لحجم الدمار الذي لحق بمدينة غزة وشمال القطاع على وجه الخصوص، حيث تحول قلب المدينة المتمثل في شارع عمر المختار إلى ساحة مترامية الأطراف من الأنقاض، وأصبح من الصعوبة بمكان التعرف على المناطق التي تركز فيها القتال مثل حي تل الهوى وشارع الرشيد الساحلي، كما تداول الناس قصصاً عن تحول مخيم جباليا الذي كان يعج بالسكان إلى منطقة أشباح يسمع فيها المارة صدى أصواتهم أثناء تجولهم هناك. 

يمكن رؤية طوابير طويلة جداً من الناس أمام محطات الوقود دون نتيجة، فيما استمر قطع الأشجار وجمع أعمدة الكهرباء البالية لاستخدامها في المواقد، ولم تسعف الهدنة الغالبية من العائلات لاستلام حصصها من الطحين الذي أعلنت الأونروا عن تسليمه

هل ستفضي الهدنة إلى اتفاق شامل لتبادل الأسرى ووقف دائم لإطلاق النار؟ هذا هو السؤال الذي كنا نسمعه في وسائل الإعلام ونطرحه على أنفسنا دون إجابة حاسمة، فيما أصبح السؤال أكثر إلحاحاً في الأيام الأخيرة للاتفاق، حتى جاءنا إعلان استئناف القتال في اليوم السادس والخمسين للحرب، لنتيقين أن المعركة لم تضع أوزارها بعد، وأننا عدنا جميعاً إلى المربع الأول. 

دخلنا مجدداً في دائرة فراغ الأسواق من الطحين والحبوب والملح... وعدنا مرغمين إلى دفع أسعار مضاعفة أربع مرات وأكثر لسلع نلتقطها من الباعة بشق الأنفس، وسط استغلال مريع من قبل تجار الجملة على وجه الخصوص، دون أن نرى دليلاً على محاسبة الجهات المختصة في القطاع للصوص الحرب، كما عدنا إلى غموض وفوضى تسليم المساعدات الغذائية الهزيلة من مدارس النازحين التابعة للأونروا، مستمعين إلى روايات عن تفشي المحسوبية والفساد في المنظمة الأممية، دون أدنى اعتبار لمصائب الناس في هذه المقتلة.  

تداول الناس قصصاً عن تحول مخيم جباليا الذي كان يعج بالسكان إلى منطقة أشباح يسمع فيها المارة صدى أصواتهم أثناء تجولهم هناك.

تواصلت أيضاً نزاعاتنا اليومية في منزل النزوح حول كيفية تلبية احتياجاتنا وضرورة تنظيم شؤوننا وسط الازدحام على مرافق البناية، وتجددت حاجتنا إلى فض خلافاتنا المتكررة حول توزيع مواردنا والاقتصاد فيها، فيما بدأت الأنباء تتواتر عن قطع جيش الاحتلال الإسرائيلي شارع صلاح الدين مجدداً من محور آخر على تخوم مدينة خانيونس، والإعلان عن توسيع العملية البرية لتشمل هذه المنطقة في الجنوب، ليتحول قطاع غزة إلى ثلاثة جزر معزولة بات تدفق السلع والمساعدات بينها أكثر كلفة وتعقيداً، وليصبح شقاؤنا اليومي للنجاة بأنفسنا في المنطقة الوسطى من القطاع أكثر إنهاكاً وخطورة. 

لماذا؟ 

"ما الذي قامت به حركة حماس لتعدنا لهذه المواجهة وتعزز صمودنا في معركة اختارتها لنفسها وفرضتها علينا؟" بتنا نسأل أنفسنا ونحن نجمع الحطب ونجلس لساعات أمام المواقد؛ نشعل النار ونعد الطعام وننتظر أكواب الشاي... نبحث عبثاً عن معنى في دخان وغبار يسد أنفاسنا، وسعال يثقل صدورنا وإسهال يعتصر أمعاءنا وصداع يفجر رؤوسنا، نبتلع الأقراص المسكنة ونقف ساهمين أمام تكدس الفضلات في دورات المياه، ونفاذ المناديل الورقية، وتعالي شخير النزلاء المتلاصقين في الغرف الضيقة، لنجد في نهاية المطاف أن حرائق النفايات وجيف الحيوانات وسيول المجاري في الطرقات هي الإجابات الوحيدة الماثلة أمامنا. 

مع دخول العملية البرية منحى أكثر ضراوة بتوغل قوات الاحتلال الإسرائيلي إلى عمق المناطق المكتظة بالسكان في شمال القطاع كحي الشجاعية وحي الشيخ رضوان ومخيم جباليا، وانتشار الأنباء عن قرب إحكام إسرائيل سيطرتها على المنطقة هناك فضلاً عن نوايا إقامة منطقة عازلة في القطاع، وتجاوز عدد القتلى السبعة عشر ألفاً والجرحى الخمسة وأربعين ألفا والمفقودين السبعة آلاف والنازحين المليون وتسعمئة ألف، وغموض الوضع الأمني والإداري في غزة في اليوم التالي للحرب؛ مع تحقق كل هذا بات الثمن السياسي الذي من المفترض أن تجنيه حركة المقاومة الإسلامية من عملية السابع من تشرين الأول/ أكتوبر -ونحن شعبها ووقودها-لغزاً لا تحله أي مقاربة واقعية. 

ما الذي قامت به حركة حماس لتُعدنا لهذه المواجهة وتعزز صمودنا في معركة اختارتها لنفسها وفرضتها علينا؟ بتنا نسأل أنفسنا ونحن نجمع الحطب ونجلس لساعات أمام المواقد؛ نبحث عبثاً عن معنى في دخان وغبار يسد أنفاسنا، وسعال يثقل صدورنا وإسهال يعتصر أمعاءنا وصداع يفجر رؤوسنا 

ينحسر صراخ الأطفال وصخب الرجال في منزل النزوح ليلاً، ليحل محلهما صمت نادر، بات طنين طائرات الاستطلاع جزءاً لا يتجزأ منه، فأستحضر وأنا مستلق على الأرض أطفالاً نضرين يلعبون الكرة تحت سماء ملبدة بالغيوم، ومباني ومارة ودراجات هوائية بدت كأنها تتحرك أمامي على شريط سينمائي قديم وأنا أجلس على عربة يجرها حمار في طريق عودتي من سوق دير البلح إلى النصيرات، ثم أسأل: هل اخترت هذا المكان؟ هل اخترت هذا الزمان؟ أم أن الأمكنة والأزمنة هي التي تختار أناسها؟ ويدور في خلدي سؤال أراه أكثر أهمية: كيف والحال هذه سأستطيع الاستمرار إلى الغد إذا لم أعثر على طريقة تجعل مني كائناً برياً؟ وكأني أريد أن ألقي وراء ظهري ما أعرفه عن نفسي من عقلانية ولياقة أمام أفق لم يتبق فيه مكان إلا للرجل الأرعن الشرس.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

ثورتنا على الموروث القديم

الإعلام التقليديّ محكومٌ بالعادات الرثّة والأعراف الاجتماعيّة القامعة للحريّات، لكنّ اطمئنّ/ ي، فنحن في رصيف22 نقف مع كلّ إنسانٍ حتى يتمتع بحقوقه كاملةً.

Website by WhiteBeard
Popup Image