1 - إنخيدوانا: أول شاعرة في التاريخ
تُعدّ إنخيدوانا أول شاعرة في تاريخ البشرية. ظلت كتاباتها المخطوطة بالخط المسماري منحوتةً حتى يومنا هذا في الألواح الأثرية. وبعد اكتشاف هذه القصائد، تبيّن تأثيرها الكبير على الأدب اليوناني القديم، وحتى المزامير الدينية المسيحية.
وُلدت إنخيدوانا، في بلاد ما بين النهرين عام 2286 قبل الميلاد، أي قبل 1500 عام من هوميروس، كاتب ملحمة اليونان القديمة العظيمة، وقبل 500 عام من النبي إبراهيم الذي بُعث في بلاد ما بين النهرين، ليدعو الناس في عهد النمرود إلى التوحيد.
إنخيدوانا لم تكن مجرد شاعرة، بل كانت كاتبةً وسياسيةً وعالمةً فلكيةً وقسيسةً، عيّنها والدها سرجون الأكدي، في منصب كبيرة الكهنة، وقسيسة آلهة القمر في مدينة أور السومرية، الواقعة في العراق حالياً. ولا يُعرف شيء عن تجاربها واستكشافاتها العلمية، لكنها كانت مسؤولةً عن التنبؤ بالطقس وتغيير الفصول ومواقع النجوم، فضلاً عن كونها كانت تعمل في إدارة مخازن المواد الغذائية في المدينة.
ما يربط والت ويتمان وإنخيدوانا هو أنهما يستخدمان ضمير الـ"أنا" في شعرهما، وأيضاً يصفان العلاقة المثيرة مع جمهور شعرهما، الذي كان بالنسبة لإنخيدوانا إلهة زقورة أور، وبالنسبة لويتمان، يغنّي قصائدهما
سرجون الكبير أو سرجون الأكليدي، هو أول ملك للإمبراطورية الأكدية، ومؤسس أول إمبراطورية في العالم. اشتهر بفتوحاته في الدويلات والمدن السومرية في القرنين الرابع والعشرين والثالث والعشرين قبل الميلاد. يعلّمنا تاريخ الحضارة أن أولى دول العالم قد أُنشئت في بلاد ما بين النهرين، واستطاع سرجون الذي كان من الأكديين، توحيد جميع الدويلات والمدن، والحضارتين السومرية والأكدية في بلاد ما بين النهرين.
2 - السومريون وزقورة أور
السومريون هم شعب من جنوب بلاد ما بين النهرين، كانت لديهم حضارة مزدهرة بين عامي 4100 و1750 قبل الميلاد، وسومر هي الجارة الجنوبية لمنطقة أكد، في شمال بلاد ما بين النهرين، وكان الشعب الأكدي هو الذي أطلق عليها اسم سومر، أي "أرض الملوك المتحضرين".
أطلق السومريون على أرضهم اسم "أرض الرؤوس السوداء". وكان السومريون هم من خلقوا وابتكروا الكثير من المفاهيم والأمور المهمة، التي نستخدمها حتى عصرنا هذا. على سبيل المثال: تقسيم النهار والليل إلى فترتين، وكل منهما إلى اثنتي عشرة ساعةً، وتقسيم كل ساعة إلى 60 دقيقةً، وتقسيم كل دقيقة إلى 60 ثانيةً.
لعب ويتمان دور إنخيدوانا في بلاد ما بين النهرين، إذ أراد خلق الاتحاد في الولايات غير المتحدة الأمريكية من خلال قصائده.
في نهاية المطاف، تم غزو أرض سومر من قبل سرجون الأكادي، الذي جعلها قلب إمبراطوريته متعددة الثقافات. وللحفاظ على سلطته في المنطقة، تعهد لجنرالاته الأكثر ثقةً بأعلى المناصب لهم في كل مدينة، وعيّن ابنته إنخيدوانا على رأس الشؤون الثقافية في إمبراطوريته، والكاهنة الكبرى لمعبد آلهة القمر في مدينة أور.
كان زقورة أور، المعبد الرئيسي في بلاد ما بين النهرين والمخصص لعبادة إنانا، والمكان الأول لعمل وحياة إنخيدوانا، التي دُفنت بعد وفاتها هناك أيضاً، وربما تكون زقورة أور أشهر الأعمال المتبقية من الحضارة السومرية. ومع مرور الوقت، طرأت على زقورة أور إضافات وتغييرات، أوصلتها إلى شكلها الحالي الذي يبلغ ارتفاعه نحو 60 متراً، وهي مكونة من 7 طوابق.
وكانت مباني زقورة في ذلك الوقت تُعدّ مكاناً للعبادة وظهور الإله، حيث اعتقد سكان بلاد ما بين النهرين بأن الآلهة تعيش في هذه الزقورات، وأن الناس يتواصلون مع السماء من خلالها.
في الكتاب المقدس المسيحي، تم ذكر أور زقورة على أنها مسقط رأس النبي إبراهيم، أبي اليهودية والمسيحية والإسلام، إذ يشبه هذا المعبد إلى حد كبير، معبد "جغا زنبيل زقورة"، التابع لحضارة عيلام، التي كانت واقعةً بالقرب من مدينة السوس في محافظة خوزستان جنوب غرب إيران.
وكان من واجبات إنخيدوانا في المعبد، تفسير الأحلام من خلال التشاور مع الآلهة، حيث يعتقد علماء الآثار أن زقورة أور بُني من ثلاثة طوابق في الأول، ولكن مع مرور السنين أنشئت الطوابق الأربعة الأخرى فوقه، حتى وصل إلى سبعة طوابق، وفي أعلى نقطة من الزقورة يوجد مكان للعبادة، يُعرف بتل العبادة، واليوم تقع بقايا هذا المبنى في مدينة الناصرية جنوب العراق. تم ترميم واجهة المعبد المبنية من الطوب وسلمّه الفريد من نوعه، في الثمانينيات في عهد الرئيس العراقي الراحل صدام حسين.
3 - إنانا وإنخيدوانا
قوة الكلام والمعرفة التي تمتعت بها إنخيدوانا، دفعت والدها الإمبراطور سرجون إلى تعيينها كاهنةً حتى تتمكن من الدمج بين الأساطير والآلهة والثقافات المختلفة، لتؤسس ثقافةً جديدةً تجمع بين الأكاديين والسومريين بقصائدها الجديدة، وفي أعمالها لم تكتب إنخيدوانا بلغتها الأم وهي الأكادية، بل كتبت باللغة السومرية من أجل جذب السومريين إلى الإمبراطورية الأكادية، وبمعنى آخر كان الدمج الثقافي أهم مهمة سياسية لإنخيدوانا، وقد قامت بها من خلال تأليف القصائد والصلوات.
إنانا، التي وُجّهت إليها معظم قصائد إنخيدوانا، كانت إلهة الحب والخصوبة والحرب لدى السومريين، حيث أَطلق عليها الأكاديون عشتار، وهذه الإلهة تذكرنا بأفروديت الإغريقية وأناهيتا الإيرانية، ومن هذا المنطلق يوضح عالم الأساطير الإيراني مهرداد بهار، أن إنانا كانت رمزاً لنجمة الصباح والمساء الساطعة لكوكب الزهرة.
ومن خلال أنشطة إنخيدوانا، تمت ترقية إنانا من شكل إلهة سومرية محلية إلى مكانة عشتار، وهي ملكة السماء وأشهر آلهة بلاد ما بين النهرين، الآلهة التي كان من المفترض أن تشمل جميع الإلهات الأخرى، ولقد جُمعت أساطيرها تماماً كما أراد سرجون العظيم، حين قرر توحيد جميع الدويلات والمدن في بلاد ما بين النهرين، وذلك لتأسيس أول إمبراطورية في التاريخ.
4 - إنخيدوانا ووالت ويتمان... من بلاد الرافدين إلى مانهاتن
هذا البُعد السياسي من شخصية إنخيدوانا وحياتها، يربطها أكثر من أي شيء آخر، بالأدب الحديث وخاصةً بالشاعر الأمريكي والت ويتمان، الذي يُعدّ من قبل الكثيرين الأب الثقافي لأمريكا، وقد أُطلق عليه لقب شاعر الديمقراطية الأمريكية.
وُلد والت ويتمان (Walt Whitman)، عام 1819، في ويست هيلز، الواقعة في ولاية نيويورك في الولايات المتحدة الأمريكية، من والدة هولندية ووالد إنكليزي يُدعى والتر ويتمان، وعلى الرغم من أن عائلة ويتمان كانت تمتلك مزرعةً كبيرةً، إلا أنه خلال فترة ولادته، كان الدخل من الأرض والزراعة قد تضاءل كثيراً مما اضطر والده إلى العمل في النجارة. وفي عام 1823، انتقل ويتمان مع عائلته إلى بروكلين، حيث عرّف نفسه لاحقاً، في قصيدته "أغنيتي"، بأنه من أبناء منطقة مانهاتن الأصليين.
في عام 1855، نُشر أول كتاب شعر لويتمان، تحت عنوان "أوراق العشب"، ولم يُنشر له سوى هذا الكتاب الشعري في حياته، لكنه ظل يضيف إليه قصائد جديدةً في كل مرة، ويحرر القصائد السابقة، ويغيّر الترتيب السابق للكتاب، ويعيد ترتيب قصائده.
يمكن عدّ الطبعة الأولى من "أوراق العشب"، الطبعة الأكثر شهرةً، وربما الأكثر واقعيةً، خاصةً بسبب قصيدة "أغنية نفسي" الشهيرة، التي نُشرت في هذه الطبعة من الكتاب، حيث أجرى ويتمان تغييرات متحفظةً فيها لاحقاً في الطبعات الأخرى.
طوال حياة ويتمان، خاصةً خلال سنوات الحرب الأهلية الأمريكية، شعر بالصراع والتناقض بين الثقافات والشعوب والطبقات والأعراق المختلفة في الولايات الأمريكية، ولعب دور إنخيدوانا في بلاد ما بين النهرين، إذ أراد خلق الاتحاد في الولايات غير المتحدة الأمريكية من خلال قصائده.
وفي منتصف القرن التاسع عشر، بينما كانت أمريكا تشهد حقبةً من النمو، كان هناك فرق اقتصادي أساسي بين المناطق الشمالية والجنوبية من البلاد، ففي الشمال كانت الصناعة واسعةً وراسخةً، وكانت الزراعة مقتصرةً إلى حد كبير على المزارع الصغيرة، بينما كان اقتصاد الجنوب يعتمد على النظام الزراعي واسع النطاق، الذي يستخدم العبيد السُمر لزراعة محاصيل معيّنة، خاصةً القطن والتبغ.
أدى ذلك إلى ظهور المشاعر المناهضة للعبودية في أمريكا الشمالية بعد ثلاثينيات القرن التاسع عشر، وإلى قلق العديد من الجنوبيين من إلغاء العبودية الذي سيسبب أزمةً كبيرةً لاقتصادهم. وبانتخاب أبراهام لينكون رئيساً للولايات المتحدة الأمريكية، تصاعدت مناهضة العبودية، حتى أنه وفي تشرين الثاني/ نوفمبر 1860، بعد ثلاثة أشهر فقط من انتخابه رئيساً، انفصلت سبع ولايات جنوبية عن أمريكا، وهي ساوث كارولينا وميسيسيبي وفلوريدا وألاباما وجورجيا ولويزيانا وتكساس.
بعد هذا الانفصال، بدأت الحرب الأهلية الأمريكية، التي انتهت عام 1865، بهزيمة الجنوب المملوك للعبيد، والمعروف باسم الكونفدرالية. في أثناء هذه الحرب، قُتل نحو 620 ألف شخص، وجُرح ملايين آخرون، ودُمر جزء كبير من الجنوب.
هنا حاول ويتمان في قصائده توحيد المجتمع الأمريكي الحديث من خلال سرد قصص لأشخاص من الطبقات والأعراق المختلفة، وذلك إلى جانب استخدام كلمات وعبارات من لغات المهاجرين في قصائده، بهدف تمثيلهم وإعلان حضورهم في المجتمع الأمريكي.
ولهذا السبب تعمّد استخدام كلمات من اللغات الفرنسية والإسبانية والإيطالية في شعره، برغم أنه لا يتقن أي لغة غير الإنكليزية، وتحديداً مثلما كتبت إنخيدوانا شعرها بلغة غير لغتها الأم، وحاولت المزج بين أساطير وآلهة ثقافتين متخاصمتين.
أحد أكثر أوجه التشابه إثارةً للجدل، بين إنخيدوانا وويتمان، ميولهم الجنسية المثلية، إذ إن إنخيدوانا تحب إنانا، وتقدّم نفسها على أنها عروسها وأسيرتها في إحدى قصائدها، وهذان الشاعران هما محور العديد من المناقشات الأدبية حول الأقليات الجنسية اليوم
إن ما يربط والت ويتمان وإنخيدوانا، بعد أكثر من ألفي عام، وعشرة آلاف كيلومتر من التباعد الجغرافي والثقافي، ليس فقط نهجهما في الشعر كوسيلة توحيدية، فكلاهما يستخدمان أيضاً ضمير الـ"أنا" في شعرهما، وأيضاً يصفان العلاقة المثيرة مع جمهور شعرهما، الذي كان بالنسبة لإنخيدوانا إلهة زقورة أور، وبالنسبة لويتمان، يغنّي قصائدهما.
في إحدى قصائدها، تكتب إنخيدوانا لإنانا:
يا سيدةَ النواميس الإلهية كلها، النور المتوهج
أيتها النقية التي تكتسي بالإجلال، محبوبة السماء والأرض
سيدة السماء، يا من تزيّن صدرها الحُلي العظيمة
التي تُحبّ غطاءَ الرأس المناسب لكهنوتها
يا من تمسك بيدها النواميس الإلهية السبعة!
يا سيدتي: أنتِ حارسة النواميس الإلهية العظيمة
يا من رفعت النواميس الإلهية وعلّقتها بيديها
يا من جمعت النواميس الإلهية وضمّتها إلى صدرها
لقد ملأت البلاد الغريبة بالسم الزعاف كالتنين
وأنتِ عندما تزأرين على الأرض يختفي الخضار وتصير الأرض قفاراً
تهبطين كالطوفان على تلك الأرض الغريبة.
يا قوةَ السماء والأرض... يا إنانا
أنت "إنانا" السماء والأرض.
كما يقول والت ويتمان في قصيدته الشهيرة "أغنيتي":
إليك أوراقي الأكثر هشاشةً
والتي هي عزوتي الأولى والأخيرة
فيها أُظلّلُ أفكاري وأُخفيها
ولا أبوحُ بها أبداً
كأنّي لستُ مَن فيها
لكنّها
مِن بين أوراقي الكثيرة
تطفو على وجهي
فتبدو جزيرةً.
ولعل وجه التشابه الأخير، وبالتأكيد أحد أكثر أوجه التشابه إثارةً للجدل، بين إنخيدوانا وويتمان، ميولهم الجنسية المثلية، إذ إن إنخيدوانا تحب إنانا، وتقدّم نفسها على أنها عروسها وأسيرتها في إحدى قصائدها، وهذان الشاعران هما محور العديد من المناقشات الأدبية حول الأقليات الجنسية اليوم.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...