عندما قابلت الفتاة التي تحب، كانت ترتدي فستاناً مبهجاً له أشرطة وفيونكات، تجمع بعض شعرها لتظهر أقراطها الملونة، وتترك الباقي نائماً بلطف على ظهرها. كانت تضحك وتبكي في آن، وعيناها تلمعان من الحماس والدموع. عندما قابلت الفتاة التي تحب، كانت تشكو وتبكي وتندم وترغب في نفس اللحظة. كانت أنا قبل سنوات طويلة. وجدت نفسي أمام نسخة مني، وأدركت كم كنت سخيفة عندما أحببت بهذه الطريقة وكأني سندريلا الهائمة التي ترى كل شيء ملوناً وخفيفاً، حتى القسوة والعذاب. هذه الفتاة كانت أنا قبل أن أعرفني.
يغضبها، فتكتب عن عذابها على مواقع التواصل وتشارك الناس حسرتها والدموع، الأدعية شيء أساسي، والكتابات الروحية والصور الحزينة والمقولات الملهمة، ولا مانع من بعض الإهانات، خلطة أساسية على حائط صفحة الفتاة التي خذلها الحب.
ثم يعود لها، فتعود الورود والزينة والأغاني، تتلون صفحتها ولا تبخل على الأصدقاء بمشاركة الفرح كما شاطروها الحزن. فيلم طويل لا ينتهي، هي بطلته والمشاهدون يتابعون بصمت، بعضهم يشاهد بملل لأنه يعرف النهاية وبعضهم يتمنى أن تكون نهاية سعيدة، ذاكرة الحب قصيرة، والحوائط الافتراضية يمكن تنظيفها من الحزن القديم بسهولة، أو إبقائها على حالها للاتعاظ الوهمي، وأنا... أنا كاتبة، تعرف الحبكات ولحظات الذروة والانفراجة، تعرف أن النهاية هي الأصعب في الحكاية، وأنها غالباً تغفّل الأبطال وتصبح نهاية مفتوحة.
عندما قابلت الفتاة التي تحب عرفت أنني أصبحت امرأة أخرى، أذكى وألطف وأكثر قدرة على العطاء، امرأة تقدر مشاعرها ولا تقبل بأقل من رجل يحب حتى دورتها الشهرية، امرأة بالنسبة إليها الحب ليس فكرة ملحَّة
يطلب مني العشاق النصيحة، بما أنني نموذج للشخص الهانئ بعقله ومشاعره، أشعر حينها كأنني "طبيب جراح" مثل جورج وسوف، أود أن أردّ عليهم "تعالوا واسألوا عني.. أنا اللي بيا جراح أطبا الكون ما تشفيها". منذ متى وأصبحت أتجرّع أحزاني وحدي دون أن أخرج بها أمام الناس وأقدمها لهم بين كفوفي وعلى ثيابي وتفوح رائحتها من جسدي، لا أدري، لكنني أحب نفسي وأنا غير مثيرة للشفقة، أكره إيموجي "أحزنني"، وإذا رأيته على منشور لي ربما أحذفه، وأكره أن يقول لي أحدهم كلمة "معلش". أنا فقط من أقولها، عندما أبحث في جيوبي ولا أجد غيرها، الأحزان التي أتجرعها أحولها إلى نقاط تغيير في حياتي، وعود وتعهّدات أقطعها على نفسي، حتى لو لم أنفذها، لكنها تجعلني أقوى وآمن، وأحولها أيضاً إلى كتابة.
الفتاة التي تحب تكتب أيضاً، لكن كتابتها مثل فساتينها، بأشرطة وفيونكات، كتابات رومانسية لكنها لا تصل إلى وجدان الناس لأنها لا تصف أحبائهم، لأنها كتابة عامة عن الفرح والقرب، ليست عن تفاصيل حركة اليد وحبات العرق والأسنان غير المتساوية، أو عن موقف ساذج وكلمة عابرة. الناس تعجبهم التفاصيل الصغيرة التي تشير إلى المشاعر الكبيرة، تعجبهم الكتابة التي ترصد الأمور التي لا ترى في حياتهم ومشاعرهم ومآسيهم، أما الفتاة التي تحب فهي لا تهتم بالناس، لأنها تعرف أن كتابتها مهما كانت ساذجة ستعجب الشخص الوحيد الذي هو لها كل الناس.
الفتاة التي تحب هي نسختي الخربة، عندما كنت أخرّب حياتي باسم الحب، كنت أحسبني أتمرّد وكان الحب صرختي، لم يكن الرجل هو الحكاية، كان الحب هو حكايتي التي أريد أن أعيشها، وكان غبائي جذاباً، وهو نفسه الذي جعلني بعدها امرأة تستحق الإهمال. كنت متوهجة هذا الوهج المؤقت الذي ينقلب جحيماً، أتقلّب بين الجنة والنار، تقويمي يسير مع الحب، وسعادتي يقرّرها الحبيب كما يقرّر عذابي. أتحرّك حيث يلوح لي بعذب كلامه، كنت أجعله يشعر أنه العالم وأنني فراشة ترفّ بجناحيها حوله. أقبل عليه بكل سذاجتي التي يسميها براءة، أقبل عليه بجموحي الذي يسميه تهوراً، أتقبّل كوني لئيمة ومختلة بعد ذلك، أرى كل عيوبي التي أعرفها ولا أعرفها وهي تطفو على سطح روحي، ويؤلمني أنه هو من فجرها، وكان عذري لنفسي: "أنا أحب".
منذ متى عرفت أن هذا الحب سخيف وثقيل الظل؟ ربما منذ عرفت أن هناك رجلاً يحب حتى الدورة الشهرية لفتاته، يزيد من نكاته ولطفه وإقبال مشاعره في هذه الأيام، حتى تعرف أنها دائماً مرغوبة، هناك رجل لا يتردّد، لا يختفي، لا يخاصم ويغضب وينفجر، هو فقط يحب ويريد أن يرى فتاته سعيدة. إن معرفتك بوجود الأشخاص الودودين، المحبين، الداعمين، الموجودين دائماً، تجعلك تعرف الحقيقة. إن رؤيتك لحياة صحية ومشاعر صحية وحب يجعل أجمل ما فيك يطفو على سطح روحك، تجعلك ترفض أن تكون في نفس مكان الفتاة التي تحب.
طيب، منذ متى عرفت قيمة نفسي؟
كنت ما زلت طالبة في الجامعة عندما قال لي زميلي إنني حلم. لم يكن يطلب الارتباط بي بالمناسبة، لأنه يعرف أنني سأرفض. كان أول من قالها، تكرّرت فيما بعد من رجال كثيرين، تكرّرت بشكلها المباشر لكن تكرّرت أكثر بمعناها: "أنتِ حلم"، يعني أنني غير حقيقية، أنني خيال، حلم يقظة يحب أن يحلم به الرجال لأنهم يعرفون أنهم لن ينالوه، أحياناً لأنني كنت مستحيلة، وأحياناً لأن حياتهم تسير في مسارات مختلفة، ولأنني أيضاً عصية على الفهم رغم بساطتي.
لم أعرف قيمة نفسي إلا عندما رأيتها، ولم أرها إلا عندما قاومت ضعفي، توقفت عن تصديق الهراء، أزلت الحواجز التي تمنع الإنسان عن معرفة ذاته، وتخليت عن نسخة الفتاة التي تحب التي كنتها
حتى عندما كنت في نسختي من الفتاة التي تحب، كنت أيضاً صعبة وبعيدة في عيون من أحبني. لكنني لم أعرف قيمة نفسي إلا عندما رأيتها، ولم أرها إلا عندما قاومت ضعفي، توقفت عن تصديق الهراء، أزلت الحواجز التي تمنع الإنسان عن معرفة ذاته، وتخليت عن نسخة الفتاة التي تحب التي كنتها.
الفتاة التي تحب حقيقة ملموسة، لا تشبه المرأة الخيالية التي أنا عليها الآن، يقدم لها الرجل وعوده وربما يطلبها للزواج، لأنها أمامه بكل وجودها واستعدادها، لأن كلاهما يصدق أنه سيسعد الآخر وسيشيخ مع الآخر، أما أنا فأمنح فقط صورة أو فكرة تلهم وتشعل العقل، حلم لا يمكن أن يعاش، وجود غير ملموس لكن دفئه يلفح القلب كل حين، شعور عابر لا يمكن الامساك به، لا أحد يعاملني كحقيقة إلا إذا كان لا يعرفني، وأنا أحب كوني مجرد أمل بعيد. منذ عرفت قيمة حبي وأنا أفضّل أن أكون خيالية، حتى عندما أقرّر أن أكون حقيقة أفيض بكل خيالي وأعلّم الناس الصمت والخصوصية والتوهج الذي لا يحرق صاحبه والبوح غير المباشر بالسعادة.
عندما قابلت الفتاة التي تحب عرفت أنني أصبحت امرأة أخرى، أذكى وألطف وأكثر قدرة على العطاء، امرأة تقدر مشاعرها ولا تقبل بأقل من رجل يحب حتى دورتها الشهرية، امرأة بالنسبة إليها الحب ليس فكرة ملحَّة. أدركت أنني الآن امرأة قوية، حتى وأنا أعرف أنني في اليوم السابق لمقابلة الفتاة التي تحب، كنت أبكي.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...