الحواس
"لو تسافر.. لو تسافر يعني تتركني لمين.. ولا عندك مالي خاطر". أغنية كهذه في تمام الواحدة صباحاً؛ دهستني كشاحنة عملاقة، حطمت عظامي، طيَّرت آخر نقطة صبر ومكابرة فيَّ وجعلتني أنفطر من البكاء.
لم تكن أغنية بل سكيناً مدّهُ أحدهم من خلف الغياب، وبعزم شقّ جسدي نصفين. لقد مرّت عشرة أيام بسلام دون أن نتحدث. مرَّت تحت غطاء عظيم من السَّكينة والمكابرة. صحيح أنَّه ليس هناك أسباب واضحة لهذا الصمت، أو دليل على أن العلاقة بيننا انتهت أو لا تزال كما هي حتى، لكن ألماً حادّاً يعصر قلبي في هذه الساعة من الليل؛ دليلاً على أن شيئاً ما قد تغير، أو في طريقه للانتهاء، وأنا امرأة تتبع قلبها.
"قلبي مكسور وواخد على خاطره جامد"... هذا ليس تعبيراً مجازيّاً، أنا حقّاً أشعر بضيق في صدري وعدم انتظام في عملية التنفّس، قلبي مهشم، ضربه أحدهم بالشُّومة على رأسهِ، الأدق "مدشدش". أريدُ تعبيراً غير ذلك يوضح حقيقة ما أشعر به الآن من وخز مستمر أسفل عضلة القلب مباشرة. ألمٌ حقيقي يشبه وجع الضرس، الذي لا يسكت أبداً حتى تخلعه الكماشة من مكانه. أضع يدي على قلبي وأردّد: "اهدأ، لا بأس من أن تحب شخصاً لم يعد موجوداً".
ذكرتني هذه الحالة التي أمر بها– تحديداً في هذا الوقت من الليل، الواحدة والنصف الآن- بالمتسابق الصيني في مسابقة الفلفل الحار، والذي بدا هادئاً بشكل ملحوظ وهو يدلف إلى ساحة الفلفل، ومع انطلاق صافرة البداية، هجم المتسابقون على قرون الفلفل الحار، وسط عرق غزير وشفاه منتفخة ومتورّمة، ودموع تنساب من الجميع على نحو فوضوي.
بعد أن مُنح هذا المتسابق لقباً عالميّاً وذهباً لتناوله أكبر عدد ممكن من قرون الفلفل خلال دقيقتين فحسب، وصف تجربته قائلاً: "شعرتُ كما لو كان فمي مليئاً بدبابير تلدغني جميعاً في وقت واحد. صراحة، كان ذلك أشبه بجحيم بكل معنى الكلمة".
"قلبي مكسور وواخد على خاطره جامد"... هذا ليس تعبيراً مجازيّاً، قلبي مهشّم، ضربه أحدهم بالشُّومة على رأسهِ، الأدق "مدشدش". أريدُ تعبيراً غير ذلك يوضح حقيقة ما أشعر به الآن من وخز مستمر أسفل عضلة القلب مباشرة... مجاز
هذه الدبابير تلدغني في قلبي الآن. الآن تعني الآن فقط: هناك لحظات من الألم هي عمر مستقل بذاته، لا يشبه غيره وقد لا يتكرّر أو يعود بالقوة نفسها مرةً أخرى. ربَّما يأكل قلب الطرف الآخر، على الجهة الأخرى من العالم، فلفلاً حارّاً مثلي، ونتسابق في صمت من منا يتحمّل لدغ الدبابير أكثر من الثاني، أو أنَّه خرج من السَّباق باكراً، و يغطُّ في نوم عميق وهادئ، في ليلة باردة كهذه ومظلمة.
لو كان الألم العاطفي مرئياً لتمكن الناس من رؤية كم يعاني الشَّخص في وعكته العاطفيَّة أو ضائقته الحُبَّيَّة. ألمهُ غير مرئي صحيح، لكن جسده يتألم فعلاً، يتألم أكثر من إصابات جسديَّة واضحة. قرأتُ أن السبب في ذلك التقاط الدماغ للألم العاطفي الشَّديد والتعامل معه كما لو كان جسدياً؛ فنجد القلب يتباطأ وتضعف عضلاته عندما ينكسر، وقد يعاني بعض الأشخاص من سكتة قلبيَّة بسبب حسرة على ترك العمل أو فقدان حبيب.
الثانية صباحاً والألم يضرب بجذورهِ في عمق قلبي، وفي تاريخ البشريَّة، هناك تعريف قديم للألم يعود إلى عام 1979، من قبل الرابطة الدولية لدراسة الألم، ينصّ على أن "الألم تجربة عاطفيَّة حسيَّة غير سارة، مرتبطة بتلف أنسجة فعلي، أو محتمل، أو موصوفة من ناحية ذلك التلف"، ما يؤكد أن الألم العاطفي يسبّب إصابات جسديَّة حقيقية، وهبَّات غير منتهية ومتنوعة من الكآبة والبكاء، ومقولة "يأتي الحزن على شكل موجات" صحيحة، فقد حدث الأمر معي واختبرته على مدار سنوات عمري، هذا الشيء يتوالى ويتكرّر دون ملل، حتى نعتاده.
الأمر أشبه بموجة عالية تجتاح الشَّخص، تصعد به وتهبط. مرة تكون هادئة وساكنة فيصبح وطؤها أخفّ، يتمرجح معها بلطف وتمرّ، ومرة أخرى تأتي قوية، تخبط فيه بشكل متكرّر، تفتح دماغه وقلبه وروحه، ولا تتركه إلا وهو ينزف من كل مكان.
الثالثة صباحاً. لم أستطع النوم بعد. حاولت البحث عن كتاب يشرح لي كيفية التعامل مع هذه المشاعر، فلم أعد تلك الإنسانة التي تركن إلى البكاء فقط لتتجاوز ألمها، وقد توقفت عند عنوان كتاب "الإسعافات الأوليَّة العاطفيَّة" للطبيب النفسي جاي وينش. صحتُ: "يا إلهي، كنتُ أعرف. الألم العاطفي جرحٌ ويحتاج إلى إسعافات أوليَّة، نعم، من يسعفني الآن في غيابك يا صدفتي الحلوة!".
تحدث وينش في هذا الكتاب عن الرفض الذي نعاني منه جرّاء عدم اهتمام الآخرين بنا، أو انسحابهم من علاقتهم معنا بعد أن كنا محور اهتمامهم، أو فقدان أحد الأشخاص العزيزين علينا، وقال إنَّ الألم الناتج عن هذا يصل إلى ألم جسدي حقيقي، وإن توقعاتنا هي دائماً السبب الرئيس وراء خيباتنا، إذا كّنا نتعلق بكل من حولنا ونفترض أن زوالهم شيء مستبعد، بل نتصور أن ذلك قد يحدث للآخرين لكن لن يحدث لنا أبداً، وهنا الخطأ الأكبر الذي نقع فيه ويتسبب في حالة الألم الذي نعاني منه، ولكن ماذا نفعل إذا كنا لا نستطيع التحكم في العوامل الخارجة عن إرادتنا، كتصرفات محيطنا وطريقة تفكيرهم، كذلك تقلبات القدر؟
إن جل ما نستطيع فعله هو أن نستغلّ ضربات الخارج لتطوير داخلنا، وتحويل الحزن على فراق الأحباء إلى فرصة لتطوير أنفسنا، فعند كل مصيبة يمكن أن يشعر الإنسان بالسخط والضياع وبلوم نفسه وتوبيخها، كل هذه المشاعر لن تؤدي في النهاية إلا لاستنزاف طاقتنا، فمن الأفضل أن يتقبل المرء الأمور ويحول طاقتها إلى حب عن طريق البحث عن استخلاص الدروس والاتصاف بالمرونة، فالحياة لا بد لها من الاستمرار.
أصدر وينش هذا الكتاب في عام 2015، ليعود في عام 2021 ويصدر كتاباً آخر تحت عنوان "كيف تصلح قلباً مكسوراً؟". الرابط بين الكتابين "قلب مكسور" على الغلاف، في الكتاب الأول حاول جبر الكسر بوضع ضمادة طبية عليه، والثاني بخياطتهُ بإبرة وخيط، ربَّما لأنه اكتشف مع الوقت أن الجرح أعمق من أن نجبرهُ بلاصق خارجي، فهو يحتاج لخياطة لكل طبقاته السبع، حتى لا يُشفى ظاهريّاً بينما هو منتفخ ومتقرح من الداخل.
"تُصلح"... هل انتبهت لهذه المفردة ومعناها؟ هذا القلب معرّض للكسر كأي شيء معدني وقابل للإصلاح، لقد أصبح دكتور جاي أكثر مهارة الآن في تشخيصه وتعامله مع الألم العاطفي. أخبرنا أن لعواصف انكسار القلوب وقعاً كوقع الأعاصير، قد يتم تحذيرنا منها قبيل وصولها أحياناً، لكنها في الغالب تفاجئنا. إن انكسار القلوب لا يعترف بزمان أو مكان أو جنس بعينه، فهو لا يمنحك مهلة، ولا يوفّر لك مكاناً آمناً، ولذا سنبقى معرّضين لأخطاره، وقد نصبح في وضع مزر حتى يزول، وأوضح أن الشعور الحقيقي بانكسار القلب جليّ، ويتضح من خلال شدة الآلام العاطفيَّة التي يتسبب بها، ومن خلال استحواذه على عقولنا وحتى أجسادنا، فلا نشعر بشيء آخر، ولا نهتم بأحد آخر. الأمر أشبه بخاطف يغزو أفكارنا ويأسر انتباهنا ويهيمن على وعينا. هو كالثقب الأسود الذي يجذب نحوه كل شيء، إنه لا يسحق الجسد فحسب، بل يسحق الفرد، ويكسر سيولة الحياة اليومية ويشوّه العلاقة مع الغير.
إنه عذاب، الألم لا يقبل البرهنة بل يُعاش كتجربة وقوة تأثيره خاصة بالشخص الذي يشعر به.
حين يتأجّل العناق، يأتي في غير موعده، بارداً وغريباً، فاقداً خصوصيته وحميميته، الطبطبة وجبر الخاطر حين تأتي متأخرة جدّاً في غير مواسمها؛ لن تصلح أبداً قلباً مكسوراً... مجاز
تكلم جاي وينش في هذا الكتاب عن نقطة مهمة وهي: كيف يتم هجر كسيري القلوب من قبل المحيطين لهم أو الداعمين لهم لتجاوز أزمتهم، لأن من أكبر الأخطاء التي يقع فيها الأشخاص المنفطرة قلوبهم هو إنهاك من حولهم، من خلال التعبير الدائم عن تبريراتهم الخاصة لما أصابهم. هذا يعد مقبولاً في بداية الانفصال، لكن الإصرار على ترديده لأسابيع وأشهر متوالية: ألم أكن جيدة بما فيه الكفاية؟ ما الخطأ الذي وقعت به؟ لماذا كذبوا عليَّ؟ لماذا توقفوا عن حبّي؟ على الرغم من عدم تغير الوضع أو الوصول لحلول جديدة، يصاب الوسط الداعم لهم بحالة من الإحباط والانصراف عنهم.
"لو تسافر.. لو تسافر يعني تتركني لمين"، تعيد الأغنية نفسها في الهاتف، ويردّدها قلبي بعتاب شديد الطفولة، ونصيحة جاي في نهاية كتابه على أن قلوبنا قد تنكسر، لكن علينا ألا ننكسر معها، ألا يستمع لها هذا الأبلة؟!
قال دوستويفسكي ذات مرة: "لا أستطيع احترام شخص يحتقر ألمي، ينفيه، يستصغره، يرفض تصديقه، ويشـوّه شعوري به". غالباً ما يأتي هؤلاء الأشخاص الذين تسببوا لنا في كل هذا الألم، بعد خراب مالطة، يحاولون التقليل من الأمر ويسوقون المبرّرات أو يتهموننا بالمبالغةِ في ردة فعلنا وتضخيم الأمور. لن نحترمهم حينها، ولن نصدقهم ونأمنهم علينا مرةً أخرى، حتى لو كنا "بنعشق التراب اللي بيمشوا عليه"، كان من الممكن أن يجنبونا كل هذا الألم، أن يختصروا علينا تلك العذابات من بداياتها، لكنهم لم يفعلوا.
حين يتأجّل العناق، يأتي في غير موعده، بارداً وغريباً، فاقداً خصوصيته وحميميته، الطبطبة وجبر الخاطر حين تأتي متأخرة جدّاً في غير مواسمها؛ لن تصلح أبداً قلباً مكسوراً.
ها هي الشمس قد طلعت؛ هذا الأوان أوانك أنت، أوان الندى، لا تنتظر حتى تسرقك المواسم وتنقضي دون أن تشعر بها؛ لملم جراحك واشرق من جديد.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومينفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومينعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع