شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
يوميات من غزة (15)...

يوميات من غزة (15)... "الشجرات ما بتوقع مثل البنايات، صح يا عمتو؟"

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والمشرّدون

الأربعاء 29 نوفمبر 202311:54 ص


يوسا ينزح معي 

نزحنا يا لمار من مستشفى القدس، لكن يومياتي هناك ما زالت عالقةً بين الجدران وفي ممرّات الطوابق. لذا سأستمرّ بكتابتها إليكِ، تحت وقع الأصوات والصور التي خزّنتها ذاكرتي مثلما خزّنتُ بعضاً منها في موبايلي.

كانت بحوزتي رواية ماريو باراغاس يوسا "الفردوس على الناصية الأخرى"، وجدتها ضمن مكتبتي التي تركتها خلفي في غزة قبل خمسة عشر عاماً، وحافظت عليها جدتك التي لا تقرأ حرفاً حتى رجوعي، وضعتها في حقيبتي ظنّاً مني أن الوقت سيتاح لي لقراءتها من جديد، أخذتها ضمن ما حملت حينما تركنا البيت تحت وقع الصواريخ.

هل قلتُ لك إن جدتك وهي تتكئ على يدي ويد عمك محمود وقفت للحظة لتصرخ فينا كي نتركها هناك؟ تخيّلي. نتركها تحت القصف لشعورها بأن ثقل وزنها وصعوبة مشيها سيعرقلاننا، ويحولان بيننا وبين الالتحاق بباقي العائلة، وبالتالي لاحتمال إصابتنا إن لم يكن موتنا. كم كان بودي أن تكون بخفّة ذلك الرجل العجوز الذي رأيت ابنه يحمله على كتفيه ويركض به. كان خفيفاً كطفل في عامه الرابع على الأكثر، ضغطت بيدي على يدها وقلت لها "إمشي يمّا، رح نوصل". امرأة كانت تطلّ علينا من شباك عمارتها، نادت أمي ملقية بشبشبٍ من النافذة: "خدي يا حجّة إلبسي في رجلك"، لحظتها فقط انتبهت إلى أن أمي قد خرجت حافية من البيت، امرأة في الثمانين خرجت تنزح من بيتها تحت وقت القصف، ربما مثلما فعلت عندما كانت تبلغ من العمر أربع سنوات ونيّف، حافية تركض مع أهلها وقت النكبة.  

لا ننظر إلى الوراء... أبداً 

كنا نركض مثل لاعبي الركبي لكن دون أن نعرف إلى أي اتجاه نلتجئ، كل شيء كان تحت مرمى القصف والصواريخ التي لا تفرّق بين طفل يكركر على انزلاق ابيه ووقوعه على الدرج، وبين أمٍّ تجلس أمام فرن الطين، تمدّ يداً تحمل رغيف خبز، حرقته القذيفة المباغتة.

شيخ على الرصيف المقابل كان يجرّ بيدٍ ابنه الصغير، وبالأخرى يجرّ عجلة تحمل ثلاثة أرباع كيس دقيق، ربما خرجت منه عجنة واحدة، راكضاً دون أن ينظر خلفه. 

كان بحوزتي رواية يوسا "الفردوس على الناصية الأخرى" حين نزحنا، وضعتها في حقيبتي ظناً مني أن الوقت سيتاح لي لقراءتها من جديد، فأخذتها ضمن ما حملت حينما تركنا البيت تحت وقع الصواريخ 

هنا نتعلم ألا ننظر خلفنا مهما كانت الأسباب، مثلما أخبرتني صديقتي وسام ياسين التي تعمل مراسلة لقناة "الحرة" عن امرأة روت لها قصة استشهاد ابنتها وحفيدتها، كانتا وراءها، تعبران طريق الموت من غزة إلى الجنوب، وهي قصة سأرويها لك ربما في رسائل قادمة، تقول رأيت النقطة الحمراء للقناص تتخطاني لتنطلق منها رصاصتان، وسمعت صوت ابنتي وطفلتها خلفي، مشينا دون أن نقدر حتى على الالتفات وراءنا، هكذا أخبرونا في الحواديت، امشي ولكن لا تنظر خلفك... وهكذا فعلوا.

الشجرات ما بتوقع يا عمتو

عبرنا شارع 8 الذي نقطن فيه في حي "تل الهوا" باتجاه مستشفى القدس. قرّر جزءٌ منا الذهاب إلى المدارس، غير أن الجزء الآخر استجاب لصراخ زوجة عمك وهي تقول: "مستشفى القدس"، الاقتراح كان يبدو أقرب للمنطق، فالمستشفى لا يبعد أكثر من عشر دقائق مشياً عن البيت، ومن السهل علينا، حينما يتوقف القصف، أن نعود لبيتنا دون جهد يذكر. كنا سُذّجاً يا حبيبتي، غرّنا أن "تل الهوا"، وعلى مدار الحروب الفائتة، بقي سليماً من الدمار. ركضنا حتى مرّت سيارة، فصرخنا على سائقها: "خد هالمرا العجوز معك". وقف الرجل وصعدت أمي معه رفقة عمك فهد، وبقيت أنا أحثّ السير إلى المستشفى ممسكة بيد ابنة عمك ميرا البالغة من العمر 10 سنوات وأخيها يامن البالغ من العمر 5 سنوات. 

ضغطت بيدي على يدها وقلت لها "إمشي يما، رح نوصل"، امرأة كانت تطلّ علينا من شباك عمارتها نادت أمي ملقية بشبشبٍ من النافذة: "خدي يا حجة إلبسي في رجلك" لحظتها فقط انتبهت إلى أن امي قد خرجت حافية من البيت 

مشهد ميرا وهي تضحك بشكل أقرب للهستيري وتقول ليامن: "ما تخافش يا حبيبي إحنا مش رح نموت"، ثم تنظر إلي قائلة بنفس الابتسامة: "صح يا عمتو، إحنا مش رح نموت؟" وأنا أحاول طمأنتها وسط لهاثي، يامن كان يعضّ بيده على يدي حتى وصلنا منتزه برشلونة الذي يجاور العمارة التي اشتريتم فيها شقتكم، قلت لهما: "إمشوا جنب الشجر مش جنب البنايات" قلتها وصوتي يهتز مع كل قصف آت من الخلف، وحينها رد عليّ يامن: "صحيح يا عمتو عشان الشجرات ما بتوقع"، لم يتوقع يامن أن كلمته هذه ستنزل على قلبي طمأنينة وسلاماً، التقطت الكلمة من فمه وظللت أرددها طوال الطريق حتى وصلنا باب المستشفى: "الأشجار ما بتوقع، الأشجار ما بتوقع".  

بيتكم لم يعد موجوداً  

نسيت أن أخبرك، لم يعد وجود لشقتكم يا حبيبتي، صارت رماداً مثلما هو حال باقي أغلب العمارات من حولها، لكن الأشجار هناك لم تقع.

ذهب يامن وميرا مع أهلهما إلى مدرسة تابعة لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين في حي الرمال، وبقينا أنا وجدتك وجدك مع عائلة عمك زياد وعمك محمود في المستشفى، عائلتنا كبيرة أعرف، وهكذا هو حال أغلب الغزّيين، نتسلى بالأكل والدبكة والغناء والشجار وصناعة الأطفال.

في البداية وقفنا على باب المستشفى ننظر إلى تلك الجموع من البشر دون أن نعرف أين سنجلس وكيف سنبيت هنا وإلى متى، كلها أسئلة كنت أجيب عليها حينما يطرحها أحد أبناء عمومتك علي: "خلينا نعيش على سياسة خطوة خطوة، كل ساعة بساعة، وكل ليلة بليلة وكل يوم بيوم".  

قالت ميرا (10 سنوات) لأخيها يامن (5 سنوات): "ما تخافش يا حبيبي إحنا مش رح نموت"، ثم نظرت إلي بنفس الابتسامة: "صح يا عمتو، إحنا مش رح نموت؟" قلت لهما: "إمشوا جنب الشجر مش جنب البنايات" وحينها رد عليّ يامن: "عشان الشجرات ما بتوقع، صح يا عمتو؟"  

ذهب طارق ومحمد اِبنا عمك زياد ليتفقدا الطوابق كي يجدا مكاناً يتسع لنا، بضعة مترات طولية في ممر أو حتى على مصطبة درج، عادا ليخبرانا أنهما قد وجدا مكاناً لنا في الطابق الثالث، لم نكن نحمل أمتعة تذكر، فقط ما خف حمله على الظهر وفي اليدين، كنت قد أحضرت كل وثائقي وما تبقى من مال لدي في شنطة على الخصر وما تبقى من أغراض شخصية وضعتها في حقيبة حملتها على كتفي، فنخرت فيه نقفاً أخذ أياماً كي يلتئم، فرشنا على الأرض وانفرشت أعصابي عليها، كان صوت القصف بهذا القرب جديداً على أعصابي بعد خمسة عشر عاماً عشتها في هدوء في أوروبا.

كنت أحسبه موتاً في البداية، فجأة بوووووووووووم تراااااااااااااااخ تررراك، ألقيت بجسدي على فرشة لنازحين سبقونا، وسمحت لجسدي بالانفلات مني، صوت الصواريخ كان قوياً في أذنيّ إلى الحد الذي ظننت معه أن هذا الصوت سيبقى في الداخل مثلما فعل صرصار صغير دخل أذني ذات فجر صيفي وأنا نائمة فوق سطح البيت، كان عمري وقتها أقل من سبعة عشر عاماً، والآن جيش من الصراصير الحديدية يقرقع في أذني. وحتى كفّاي الصغيرتان لم تتمكنا رغم ضغطهما من إيقاف هذا الصرير الجبار، ولسان حالي يقول: الفردوس ليس في الضفة الأخرى يا "يوسا"، نسيت أن أخبرك أني تركت الرواية في خزانة ملفات في غرفة صغيرة في طابق المستشفى، ربما يجد فيها أحدهم فردوسه المفقود في غزة.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

لعلّ تعريفنا شعوباً ناطقةً بالعربية لم يعد يستقيم من دون الانتباه إلى أننا صرنا شعوباً متفلّتةً من الجغرافيا. الحروب الدائرة في منطقتنا والنزاعات الأهلية والقمع، حوّلتنا إلى مشردين، بين لاجئين ونازحين، وأي تفكير في مستقبلنا لم يعد ممكناً من دون متابعة تفاصيل حياة الجميع، أينما كانوا، وهو ما نحرص عليه في رصيف22. اكتبوا قصصكم. أخبرونا بالذي يفوتنا. غيّروا، ولا تتأقلموا.

Website by WhiteBeard