شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
أدوار سياسية أكبر من

أدوار سياسية أكبر من "الحكي"... القُصّاص في التاريخ الإسلامي

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة نحن والتاريخ

السبت 9 ديسمبر 202301:29 م

لم يقتصر دور القُصّاص خلال مراحل التاريخ الإسلامي على مجرد سرد القصص والحكايات الشيّقة، لجذب انتباه السامعين والحصول على اهتمامهم وأموالهم، بل تعداه إلى أدوار سياسية ظهرت في كثير من الفترات، خاصةً أوقات الفتن والاضطرابات.

ويذكر كل من مهند عبد الرضا، وسلام علي، وعبدالحسن حنون، في دراستهم "القُصّاص ومكانتهم في المجتمع العربي حتى بداية العصر الأموي"، أن القُصّاص في المجتمع العربي قبل الإسلام كانوا طبقةً اجتماعيةً أدبيةً وفنيةً مهمةً، إذ كان يجتمع إليهم الناس لمعرفة أخبار ملوكهم السابقين، وغزواتهم، وأيامهم، وعاداتهم، وأخبار فرسانهم.

واشتهرت من هؤلاء القُصّاص أناس عُرفوا بمروياتهم الشيّقة، مثل وكيع الأيادي، وخالد بن سنان، وقس بن ساعدة، الذين كانت قصصهم تمثل تراثاً قبلياً، واتسم بعض هذا القصص بالطابع الأسطوري والخرافي، مثل قصص الجن والسعالي والغيلان وغيرها من المخلوقات الغرائبية، والتي كانت تهدف إلى التشويق وجذب الانتباه.

القُصّاص في صدر الإسلام

ما أن جاء الإسلام، حتى منع القصص الركيك المتسم بالطابع الأسطوري الخرافي، وفي الوقت نفسه حثّ على القصص الديني الهادف، الذي تضمن قصصاً واقعيةً جرت مع الأنبياء أو غيرهم من الأمم السابقة.

لم يقتصر دور القُصّاص خلال مراحل التاريخ الإسلامي على مجرد سرد القصص والحكايات الشيّقة، لجذب انتباه السامعين والحصول على اهتمامهم وأموالهم، بل تعداه إلى أدوار سياسية ظهرت في كثير من الفترات، خاصةً أوقات الفتن والاضطرابات

ويذكر الدكتور عكرمة كامل الساعدي، في دراسته "القُصّاص ومنهج متابعتهم في الخلافة العربية الإسلامية حتى نهاية القرن الرابع الهجري"، أن الحياة العربية عرفت القصص في المدينة المنورة في حياة الرسول محمد، حيث لم ينه عنه، فقد رُوي أنه مر برجل من الأنصار قاعد يقصّ على الناس ويذكّرهم والناس مقبلون عليه بوجوههم، فلما نظر الرجل إلى النبي مقبلاً، قطع قصصه وقام من مجلسه له، فأشار له النبي بأن يثبت في مكانه، وجلس النبي في أدنى الناس لم يتخطَ أحداً، فلما فرغ الرجل من قصصه، قام إلى النبي فجلس إليه، فقال النبي: "لا تقم من مجلسك، ولا تقطع قصصك، فإني أُمرت أن أصبر نفسي مع الذين يدعون ربهم في الغداة والعشي يريدون وجهه".

وبعد وفاة الرسول، أقرّ الخلفاء الراشدون القصص الذي ارتبط ارتباطاً وثيقاً بالوعظ، وبرغم أن الخليفة عمر بن الخطاب، كان في أول خلافته ضد أخذ الدين عن القصاصين، وظهر ذلك في ممانعته السماح للقاص تميم الداري بالقص والتذكير، إلا أنه سمح له بهما في ما بعد وأجازه في أن يقص على الناس في يوم الجمعة قبل خروج الخليفة. واستمر تميم الداري في التذكير والقص خلال خلافة عثمان بن عفان، الذي أذن له أن يذكر يومين في الأسبوع.

أما الخليفة علي بن أبي طالب، فأولى القُصّاص وقصصهم متابعةً وعنايةً كبيرتين، تمثلت في تفقد مجالسهم وتدقيق مؤهلاتهم، للحيلولة دون استغلالهم لقصصهم في أغراض لا تمت بصلة إلى الوعظ والتذكير.

ويروي الساعدي، أن عليّاً كان في سوق الكوفة حتى انتهى إلى قاصٍ يقص، فوقف عليه، فقال: "أيها القاص، تقص ونحن قريب العهد، أما أني أسألك، فإن أجبتني، وإلا خفقتك بهذه الدرّة. قال القاصّ: سل يا أمير المؤمنين عما شئت، فقال علي: ما ثبات الإيمان وزواله؟، قال القاص: "ثبات الإيمان الورع، وزواله الطمع"، قال علي: "فمثلك يقص".

القُصّاص والفتنة الكبرى

ومع أحداث الفتنة الكبرى التي جرت بين أنصار علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان، وبعد معركة صفين وقبيلها، اتخذ القصّ منحى آخر لم يعرفه من قبل مع الخلفاء الأوائل، إذ تفرّق شمل المسلمين إلى فرق متناحرة، وصار لكل فرقة قُصّاصها، حسب ما ذكرت الدكتورة ليلى العبيدي، في كتابها "القصّ والمقدس في التراث العربي الإسلامي".

وارتبط القص في معناه السلبي، الذي ابتعد عن الاعتبار والتذكير والوعظ الذي عُرف به في العقود الأربعة الأولى من الهجرة، بالخوارج الذين خرجوا على عليّ بعد قبوله التحكيم مع معاوية، وقاتلهم في معركة النهراون، فكانوا يمقتون عليّاً ومعاوية على حد سواء، فاستخدموا القُصّاص لإثبات صحة موقفهم وآرائهم.

وعلى غرار ما فعله الخوارج، عمد كل من عليّ ومعاوية إلى استعمال القُصّاص في الغرض نفسه، ففي كثير من الروايات يظهر تدخل كل من الرجلين في شأن القصّ وتوجيهه لصالحه وضد خصومه. وتنقل العبيدي عن تقي الدين المقريزي في كتابه "الخطط"، أن عليّاً دعا على قوم من أهل حربه بعد أن أمّ قومه في صلاة المغرب، فلما رفع رأسه في الركعة الثالثة، ذكر معاوية وعمرو بن العاص.

ولما بلغ معاوية ذلك، أمر رجلاً يقصّ بعد الصبح وبعد المغرب يدعو له ولأهل الشام، فإذا سلم من صلاة الصبح جلس وذكر الله عز وجل وحمده ومجّده، وصلى على النبي، ودعا للخليفة ولأهل ولايته ولجنوده، ودعا على أهل حربه وعلى المشركين كافة. وتذكر مصادر كثيرة أن معاوية كان يكتب إلى عمّاله يأمرهم بلعن عليّ على المنابر، ويتكفل القُصّاص بذلك.

الطرائق التي استخدمها القُصاص لجذب انتباه العوام، كانت كثيرةً ومتنوعةً، منها إنشاد الأشعار الغزلية في العشق، أو إظهار التواجد والتخاشع، أو الإتيان بحركات تنسجم مع قراءتهم المُلحّنة.

وبحسب العبيدي، نهج معاوية ومن بعده خلفاء بني أمية النهج الذي سلكه الخلفاء الراشدون في مراقبة القُصّاص وتوجيههم في ضرورة الالتزام بالوعظ والاعتبار والتذكير، مع إضافة مُعطى آخر فرضه منطق السياسة وصراعاتها، حين أصبح الولاء للدولة يستوجب من القاص أن يحرّض على المسلمين المختلفين في المذهب والمنازعين على السلطة، فحُمّل القاص مهمةً أخرى لا عهد له بها قبل الفتنة وتأسيس الدولة الأموية.

ويمكن القول إن الضغط على القُصّاص ازداد حدةً في تلك الفترة، فقد كان كعب الأحبار على وجاهته وعلمه يقصّ في إمارة معاوية دون إذن منه، فلما سمع عوف بن مالك يردد الحديث النبوي "القصاص ثلاثة: أمير ومأمور ومختال"، خشي كعب الأحبار من سوء العاقبة وكفّ عن القص لمدة سنة كاملة، حتى أرسل إليه معاوية يأمره بالقص.

وقد فطن معاوية إلى خطورة القُصّاص كونهم سلاحاً ذا حدين، ففعاليتهم في محاربة الخصوم يمكن أن ترتد عليه. وتنقل العبيدي عن السيوطي في كتابه "تحذير الخواص من أكاذيب القُصاص"، روايةً تؤكد الحظر الذي كان يمارسه معاوية على كل قاص يقص بدون إذنه، حيث قدم إلى مكة لأداء مناسك الحج، فأُخبر برجل يقصّ على أهل مكة، فقال له معاوية: "أُمرت بالقصص؟، فقال: لا، قال: ما حملك على أن تقص بغير إذننا؟، فقال: إنما ننشر علماً علّمنا إياه الله، فقال معاوية: لو تقدمت إليك لقطعت طابقاً منك".

وتذكر العبيدي، أن خلفاء بني أمية أدركوا أيضاً أهمية القُصّاص في الحروب، فكانوا يقدمونهم في المعارك ليقصّوا على مقاتليهم أخبار الشهداء، وفضائلهم، ومناقبهم، وما وُعدوا به في الجنة من ملذات وطيبات، حتى يحفزوهم على القتال والمثابرة في ذلك إلى آخر رمق من الحياة، وألا يجزوا ويرهبوا.

وتروي، أن الجيش الذي سيّره معاوية إلى القسطنطينية كان في طليعته قُصاص جُندوا لحث المؤمنين على الجهاد ضد الروم، وكان عبد الله بن يزيد الأزرقي، قاضي دمشق وقاصّها قد رافق الجيش الذي حاصر القسطنطينية بقيادة مسلمة بن عبد الملك.

القُصّاص ونقد خلفاء بني العباس

وسار الخلفاء العباسيون على نهج الأمويين في مراقبة القُصّاص واستمالتهم، وحضور مجالسهم، ودعوتهم إلى قصورهم، وبحسب العبيدي، تزامن ذلك مع ميل شريحة من القُصّاص إلى الزهد، وانتمائهم إلى طبقة النُسّاك، ورواية بعضهم الأقاصيص الوعظية المزدرية للدنيا وبهرجها، مثل ابن السمّاك وابن سمعون، فبعد أن وصلت الدولة العباسية إلى مرحلة الترف في أقصى درجاته مع الخلفاء الهادي والرشيد والمهدي، بدأ القصص يتخذ منحى احتجاجياً مستنكراً ما آلت إليه حياة الحكام من بذخ وإسراف.

بيد أن القصّ مع المنتصف القرن الثاني للهجرة، وفي القرون اللاحقة، بدأ يشهد تحولاً ونقلةً نوعيةً في مضامينه وغاياته، وفي مجال بثه وتقبّله، فبرغم محافظة بعض القُصّاص على نزعته الوعظية الزهدية، إلا أنه بدأ يفلت من رقابة الدولة التي كانت قد بدأت تصرف عنه النظر، إذ لم تعد السيطرة عليه ممكنةً، لاتساع رقعتها، ولكثرة الأجناس فيها واختلاط الثقافات، وكثرة القُصّاص الذين ينحدرون من أقوام ومن شرائح اجتماعية شعبية مختلفة، فظهرت فئة من القُصاص هدفها استمالة العامة بغرض التكسب والارتزاق.

وأثارت هذه الفئة سخط العلماء والفقهاء بعدما اكتسحت المساجد واحتلت مكان العلماء، ففي مسجد البصرة كانت لعلماء الفقه حلقة واحدة، في حين كانت للقُصّاص حلقات لا تُحصى. وبحسب العبيدي، أثار ذلك حفيظة الدولة في البداية قبل أن تبادر بطردهم من المساجد وتبعدهم عن القضاء وإمامة الصلاة، فلاذوا بالطرقات والساحات العامة والأسواق، ليتألب ضدهم العلماء والفقهاء.

قُصّاص العامة وملاحقة السلطة

وتذكر سوزان حسين ياغي، في دراستها "الحياة الاجتماعية في بغداد منذ تأسيسها حتى 334هـ/ 946م"، أن العصر العباسي شهد انتشاراً كبيراً لقُصّاص العامة، بينما انقطعت أخبار قُصاص الوعظ الديني في القرن الثالث وما بعده، وشدة إقبال العامة على القصص وحضور مجالسه دفعا الوراقين في القرن الثالث إلى كتابة القصص، بالإضافة إلى ما كتبه الأدباء والإخباريون من كتب الخرافات والأسمار والأحاديث.

ولم يقتصر حضور مجالس القصص على الرجال فقط، بل كانت تحضرها النساء أيضاً، وكان يُضرب بينهن وبين الرجال حجاب.

بدأ القصّ مع المنتصف القرن الثاني للهجرة، وفي القرون اللاحقة، يشهد تحولاً ونقلةً نوعيةً في مضامينه وغاياته، وفي مجال بثه وتقبّله، فبرغم محافظة بعض القُصّاص على نزعته الوعظية الزهدية، إلا أنه بدأ يفلت من رقابة الدولة 

أما الطرائق التي استخدمها القُصاص لجذب انتباه العوام، فكانت كثيرةً ومتنوعةً، منها إنشاد الأشعار الغزلية في العشق، أو إظهارهم التواجد والتخاشع، أو إتيانهم بحركات تنسجم وقراءتهم المُلحّْنة التي تشبه الغناء، وقد يصفون بأيديهم أو يعملون إيقاعاً بأرجلهم، وقد ينشدون أشعار النواح على الموتى وما يجري لهم من البلاء. وبحسب ياغي، كانت النساء تتأثر بهذا فتشره بالبكاء والعويل، وبذلك تجلب انتباه الناس إلى القاص وتزيد عدد مستمعيه، ومن ثم الحصول على كثير من المال، لذلك تلاعبوا بعواطف الجماهير واستُخدموا كأداة بيد الحكام لبث الدعاية لهم لقاء أجر معين.

وفي سبيل الحصول على المال، ابتكر القُصّاص أساليب خبيثةً، مثل وقوف قاصيّن على جانبي السوق، يأخذ أحدهما بذكر فضائل أبي بكر الصديق، والآخر بذكر فضائل علي بن أبي طالب، فيجمعان الدراهم من الناس، فإن غادروا المكان تقاسما الدراهم في ما بينهما، حسب ما نقلت ياغي عن أبي منصور الثعالبي في كتابه "يتيمة الدهر".

لذلك كان وجود هؤلاء القصاصين خطراً على الدين والخلق والثقافة بصورة عامة، فلطالما كانوا يسلكون في سبيل المال وسائل شتى، ويزداد خطرهم بأنهم لم يكونوا على مستوى جيد من الثقافة الدينية، إذ كانوا ينسبون الأحاديث المكذوبة إلى النبي، ويضللون العامة من خلال قصصهم، سواء كانوا يعرفون أو لا يعرفون.

ولما كان مستوى القُصّاص الثقافي بهذا الانحطاط، أصدر الخليفة المعتضد بالله في سنة 284هـ، أمراً بمنع القُصّاص من الجلوس في الجامع أو الطرقات، لكونهم يغرسون في عقول العامة الخرافات، ويشغلونهم عن أعمالهم اليومية، وذلك إلى جانب ما كان يفعله هؤلاء من إشعال نار الفتنة والطائفية بين العامة. ولكن متى أرخى الليل سدوله كان القُصاص يسطون على الدور والحوانيت ويمارسون أعمالهم، حسب ما تذكر ثريا محمود الخزعلي، في درستها "الألعاب الترويحية ووسائل التسلية في الدولة العربية والإسلامية، دراسة تاريخية".

وفي سنة 367هـ، أمر عضد الدولة البويهي بمنع القُصّاص من الجلوس أيضاً، إذ عدّهم سبباً في إثارة الناس، وفي سنة 408هـ أمر الخليفة القادر بالله بضربهم وعمل على مناهضتهم بسبب إثارتهم الفتن الداخلية.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

بالوصول إلى الذين لا يتفقون/ ن معنا، تكمن قوّتنا الفعليّة

مبدأ التحرر من الأفكار التقليدية، يرتكز على إشراك الجميع في عملية صنع التغيير. وما من طريقةٍ أفضل لنشر هذه القيم غير أن نُظهر للناس كيف بإمكان الاحترام والتسامح والحرية والانفتاح، تحسين حياتهم/ نّ.

من هنا ينبثق رصيف22، من منبع المهمّات الصعبة وعدم المساومة على قيمنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image