لم يكن حضورها الطاغي هو السبب في إعجاب الآخرين بها، فكثيرون لا يعرفون عنها ذلك الحضور، فهي لا تتعامل إلا مع نفر قليل من الناس. كانت روضة منحوتة الجسد، تبرز قسماته بما يناسبه من ثياب، تجعله أكثر طمأنينة لرضا العيون المحرومة، وما أكثر العيون المحرومة.
رغم ما يثيره وجهها من شبق في نفوس الحالمين؛ إلا انه لم يكن جميلاً، لكن تأثير مستحضرات التجميل التي تضعها على وجهها، من أحمر شفاه يبرز جمال شفتيها الممتلئتين، وكحلٍ يرسمه المرود بدقة حول عينيها، والأحمر الخفيف على وجنتيها. تمتزج جميعها مع تفاصيل جسدها البارزة قسماته، لتشكّل صورتها المثيرة في عيون من يختلسون النظر ومن يمعنون النظر.
ملابس روضة عادة، عبارة عن بنطلون جينز ضيّق يعلوه قميص قصير مزيّن بالدانتيلا، وغطاء رأس من الحرير أو الشيفون، يميل قليلاً خلف جبهتها ليكشف عن شعر أسود كثيف. لم يستطع زوجها الاستمرار معها، ورمى عليها يمين الطلاق مرّات قبل أن يندم على فراقها.
*****
كان فراقنا في يوليو، ودائما ما يأتي يوليو حاملاً إلى قلبي الخيبات.
ملابس روضة عادة، عبارة عن بنطلون جينز ضيّق يعلوه قميص قصير مزيّن بالدانتيلا، وغطاء رأس من الحرير أو الشيفون، يميل قليلاً خلف جبهتها ليكشف عن شعر أسود كثيف. لم يستطع زوجها الاستمرار معها، ورمى عليها يمين الطلاق مرّات قبل أن يندم على فراقها... مجاز
منذ أن افترقنا لم أعد أراها إلا لماماً، ألمح وجهها من بعيد يطلّ من بين وجوه ورؤوس زميلات العمل، وحين اقترب، أشمّ عطرها وألمح لون ثوبها المزركش، فأشيح بنظري ولا أنظر صوبها، كيلا يقال إني ما زلت أهواها.
كانت أيامنا بكراً، ولمساتنا وأفكارنا بكراً، جبنا مدينة الزقازيق كلها حتى ألفنا الشوارع والبيوت، ذقنا الفطير المشلتت في بيوت زميلاتنا في القرى المجاورة، ومشينا على ضفاف النّيل. ضعنا بعيداً أثناء تجوالنا بين حقول الكرنب وقنى المياه الضيقة التي تخطيناها في تحدٍ رائع، وأصبحت أسهل مما كانت عليه. كنت أخطو ذهاباً وإياباً، وهي تعبر إليّ بنظراتٍ متحديةٍ. تسير إلى جواري خطوتين، ثم تعبر إلى الجهة الأخرى. سرنا ويدانا متشابكتان، نتأمل المنظر الخلّاب، وأوراق الكرنب تميل إلى بعضها في حنو، وتحتضن أوراقها الكبيرة الأوراق الصغيرة في تناسق إلهي جليل، ما أروع أن نضلّ الطريق معاً يا نجوى، ونبحث عنه مجدداً، فنبتعد أكثر وأكثر.
كنت في أول أيام الجامعة بالصف الأول، سألت عن قاعة المحاضرات، صعدت إلى الطابق الأول ثم الثاني، سرت في الرّدهة الطويلة حتى آخرها، ثم هبطت عدداً من الدّرجات كما وصفوا، ولم أصل إلى شيء. لم أجد "المدرّج الكبير" الذي أرشدوني إليه، جبت المكان كله وصعدت وهبطت مرات، بحثت كثيراً حتى كللت.
لم أجد سوى بعض أصص الزهور بجوار أحد المكاتب ولوحات فنية علّقت على الجدار بارتفاع أكثر من اللازم. شعرت بضياعٍ ما، واستأت من إهدار الوقت، وزاد شغفي بأولى المحاضرات وشكل المدرّج.
أبحث عن "المدرج الكبير" وأجد بعض الطلبة الجدد، متناثرين، يبحثون مثلي، كانت نجوى بينهم. تعارفنا بكلمات بسيطة، وأفنت بساطتها صخر المسافات بيننا. سرنا نبحث معاً، كانت ابتسامتها هادئة تكشف عن أسنان صغيرة بيضاء مثل طفلة، تميل لهجتها إلى لغة أهل الريف، وصوتها ناعم يفيض أنوثة، تتحدث بعفوية دون تفكير.
مع مرور الوقت صرنا أقرب إلى بعضنا، حكت لي عن بيتها وأسرتها الصغيرة، ورويت بالتفصيل عن حياتي البائسة، فضحكت، وقالت مازحة: "أنت ميسور وتعيش حياة مترفة". قلت: "منذ ثلاث سنوات إلى الآن وأنا أعمل في مصنع الثلج الصغير، أقوم برصّ ألواح الثلج الطويلة في أماكنها المخصصة، وعند تكدسها أقوم بنقلها إلى أماكن أخرى، وأحياناً أحملها إلى سيارة متهالكة يستخدمها رجل عجوز في نقل الثلج، وحين تزيد نوبات الحساسية التي أصابت صدري مبكراً؛ لا أستطيع أن أمكث في البيت طويلاً، فلابد أن أعود سريعاً لجلب نفقات يومي، كي لا تكون الحياة أكثر بؤساً. قبل ذلك كنت أعمل في مخبز، أتناول الخبز الخارج من الطاقة، وأقوم برصّه على الأقفاص في صفوف بأعداد متساوية.
- سخونة تحرق الإيد، أو برودة تصيب الصدر؟
قالها صديقي مازحاً وهو يسألني لماذا لا أعمل في مهنة أخرى؟
اعتدت العمل منذ الصغر وجرّبت العديد من المهن، ولم أجد استقرارا نسبياً إلا في هذين العملين.
ضغطت نجوى على يدي، ونظرت في عيني بذات النظرة الحانية التي تقول "أنا بجوارك"، وطفقت أتحدث: أكثر ما كان يزعجني هو فساد النفوس، فمصنع الثلج لم تكن به نظافة كافية. كان الإهمال هو الملمح الذي يفرض نفسه على المكان، والرجل صاحب المخبز كان يأمرني بأن ألملم النخالة من الأرض وأقوم بفرشها في أرضية الطوالي، رغم اختلاطها بالتراب، قبل وضع قطع العجين المجهز لدخول طاقة النار. كنت أندهش ولا أجرؤ على الرفض إلا بنظرات مستنكرة. سألتني عن إخوتي، فأجبتها على مضض ولم أشأ الحديث عنهم، اكتفيت بالقول إنهم أربعة، أكبرهم محفوظ، الأقرب إلى روحي، وقد ذهب بعيداً وتوارى بعد أن فقد الأمان بينهم.
لم أعد أطيق غياب نجوى ولا أطيق مكاناً ليست به.
جلست في الصفوف الأخيرة بالمدرج الكبير، وحجزت مكاناً بجواري لكنها لم تأت. انتظرت كثيراً، وأخذت أتلفّت صوب الأبواب الخلفية والجانبية والأمامية، فقد تأتي من أيّ منها. شغلت بالي نجوى وانشغل بي الزملاء الذين لاحظوا انتظاري. لممت أوراقي وسرت حزيناً عائداً، وما إن اقتربت من الباب، حتى رأيتها بجوار السور الحديدي لحرم الجامعة، تسير بخطوات عجلى وتقترب من الباب ثم تلجه بسرعة. كنت أتابعها وأراها من خلف الفراغات الموجودة بين قطع الحديد الرأسية في السور. اقتربت أنا أيضاً بهمّة كبيرة، حتى التقيتها عند الباب، فانفرجت أساريري وكاد قلبي يقفز من بين ضلوعي.
كدت أعانقها وأقبّلها، مددت يدي وصافحتها. وقفت أمامي مباشرة ولأول مرة تكون على هذا القرب. نظرت في وجهها ورأيت لأول مرة جمال عينيها، ولاحظت خط الكحل الأسود يحيطهما فيزيدهما إشراقاً. كنّا على مقربة من حرس الجامعة وهم واقفون بملابسهم الرسمية وبعض الطلبة ينظرون إلينا، شعرت أني أشد على يدها وأقترب أكثر، بل أكاد أقبلها أو أعانقها، فقالت مازحة، وهي ترجع قليلاً للخلف وعيناها تفيضان ألقاً والابتسامة تملأ وجهها: "هتعمل إيه يا مجنون.. هنروح في داهية".
المدرج الكبير أكبر القاعات، بهرتني مقاعده الممتدة ولونها العسلي. في الصفوف الأولى تجلس الفتيات المحجبات والمنتقبات، فهن يأتين مبكراً ويقمن بحجز الأماكن لزميلاتهن الأخريات، يسيطرن على الأماكن الأمامية دون أن تتفاعل إحداهن مع المحاضر. أضجر بهن ومن صوت أقدامهن على الأرضية الخشبية حين يقررن فجأة أن يخرجن من الباب الخلفي، فأصاب بالحنق ويبدو ذلك على وجهي، فتأخذ ملامحي أشكالاً تنم عن عدم الرضا، وألاحظ تهامسهن فيما بينهن ويبتسمن بلا صوت وهن يختلسن النظرات نحوي.
لهذا العبث أثرٌ في نفسي مادمت وحدي ونجوى غائبة، وحينما تحضر فإنها لا تفارقني، نأخذ جانباً ونتحدث بين المحاضرات، ولا ألحظ هاتيك الأخوات المحجّبات، ولا أشعر بضجيج أقدامهن على الأرضية الخشبية كلما مررن إلى الخلف.
في الجهة اليسرى من القاعة كنا نجلس، نصغي السمع للمحاضر، ونكسر رصانة القاعة بابتسامنا، وحين يسكت قليلاً، نكسر الصمت بكلمات نهمس بها إلى بعضنا، فتقول:
- فاهم حاجة ؟
- لا
- ولا أنا!
عدت بعد سنوات الغربة الطويلة، وجدتها تعمل في المكان نفسه الذي تم تعييني به، كانت امرأة أخرى غير تلك التي عرفتها، تبدّلت ملامحها وتغيرت سمتها، وكثرت حولها الأقاويل... صار اسمها روضة... مجاز
نكتم ضحكاتنا، وحين تنفلت منها ضحكة أجحظ لها متبسّماً، فتجحظ هي الأخرى، وأحياناً تقول: لا أفهم شيئاً من هذا الدكتور بالذات، فأقول مستهيناً مازحاً: لأنك غبيّة، فتلكزني بخفة في كتفي. تلاحظ نجوى أن شعرها الناعم يتطاير على وجهها، فتطالبني بأن أتقدم قليلاً في مكاني، فتتوارى خلف ظهري وتقوم بإصلاح شعرها.
خرجنا من الجامعة، ووقفنا أمام الباب لكي نستقل سيارة إلى المحطة الرئيسة في الزقازيق، اعتدنا أن نمضي معاً إلى المحطة. لاحظت بدء تساقط حبات المطر بصورة متقطعة، نظرت إلى الطريق وقلت: كم أحب الطّلل وأعشق السير محاطاً به.
أومأت مستجيبة، وابتسمت وهي تجذبني من سترتي باتجاه الطريق. عبرنا الشارع وسرنا والطلل يغمرنا بحبيباته الرقيقة التي تهبط على كفينا ووجهينا في ألفةٍ وعذوبة، لاحظت حبيبات المطر كاللآلئ تنتثر على شعرها الكستنائي، فيصير كأنه مرصع بالماس، كانت تريني كفها وقد تبللت بالماء فأشير بسبابتي إلى شعرها مبتسماً.
*****
بعد التخرج من الجامعة لم تتأخر فرصة السفر، وكنّا في يوليو حين طلبت منها الذهاب معي لإنجاز الأوراق وإنهاء الإجراءات، فالفرصة مرضية وقد لا تتكرّر، لكنها قرّرت ألا تسافر. قالتها صادمة: "لن أسافر، فالمناخ هناك لا يطاق ولن أتحمّل العيش في بيئة غريبة". حينما عدت بعد سنوات الغربة الطويلة، وجدتها تعمل في المكان نفسه الذي تم تعييني به، كانت امرأة أخرى غير تلك التي عرفتها، تبدّلت ملامحها وتغيرت سمتها، وكثرت حولها الأقاويل... صار اسمها روضة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع