تحب أمي ليالي شهر كيهك أكثر من أي شهر آخر، فهو "الشهر المريمي" الذي تُمدح فيه "العذراء البتول"، وطوال الشهر تذهب أمي للكنيسة، كل مساء، لتحضر "عشية كيهك".
كل ليلة، وقبل أن تتناول أمي عشاءها المكوّن من بطاطس مهروسة مضاف عليها "نِدعة/قليل من ملح وزيت"، تبدأ في الاستماع إلى "تسبحة نصف الليل، لتمجيد السيدة العذراء مريم ومعجزة التجسد الإلهي"، ثم تذهب إلى الكنيسة لتقضي بقية ساعات الليلة تمدح "أم النور" وذلك لمدة شهر كامل، وحتى ليلة "عيد الميلاد المجيد" 29 كيهك، الموافق 7 يناير، حسب أعياد الأقباط الأرثوذكس.
لكن أمي تنزعج من نهار "كيهك"(ينطق أيضا كياك) بسبب قصره، وفي كل مرة تتعجّب فيها من سرعة مضي الوقت ولم تنجز مهامها، يرد عليها أبي: "إنتي مَختولة/ مجنونة؟". كياك صباحك مساك؟"، لتكمل له حفيدته المشاكسة: "تقوم من فطورك تحضر عشاك"، وهو مثل مصري قديم يشرح ببلاغة مدى قصر النهار في هذ الشهر.
أبي، كفلاح أصيل، يفتخر أنه يحفظ التقويم القبطي بأيامه وساعاته. فلاح لا يقرأ أو يكتب، لكنه يفهم في حركة الفلك أكثر من كثيرين ينتشرون بيننا ويؤمنون بأن الأرض مسطحة
طوال 43 يوماً، هي مدة صوم عيد الميلاد، أو العيد الصغير في نهاية "29 كيهك"/ 7يناير، ننسى طعم الألبان واللحوم كالعادة، لكن الحقيقة أن "كيهك" لأنه عظيم فعطاياه أيضاً عظيمة، حيث يفيض نهر النيل المبارك بأجود منتجاته من سمك "البلطي والقراميط والبياض والرعاش والتعابين". طوال مدة الصوم الذي لا يُحرم أكل السمك فيه، فحمداً للنيل العظيم.
في فجر 6 يناير، تقوم أمي من نومها لعمل "بسيس الميلاد"، وهي الأكلة التي تعتقد أمي، وكل المسيحيين في الصعيد، أنهم ورثوها نقلا عن "العدرا"، التي صنعت "البسيس" للمسيح في طفولته خلال رحلة هروبهما إلى مصر، والبسيس عبارة عن دقيق قمح مفتول بالماء، ويوضع في عسل مخفّف بالماء بعد غليانه، وهناك من يعمل "البسيس" بالأرز بدلاً من الدقيق، لكن أمي لا تعترف به كـ "بسيس" صعيدي كما تعلمته من جدتي وتعلمته جدتي بدورها من أمها.
لا يؤكل البسيس إلا في الصباح الباكر يوم ليلة الميلاد، أمام "المنقد"، وهو المدفأة الصعيدي المعمول من الطين والقش، وقارب على الانقراض في قرانا، بعدما حل محله المنقد الحديد، الذي يحرمنا من وضع أرجلنا على حافته، كما كنا نفعل زمان مع المنقد الطيني، الذي مهما كانت النار "موهوجة" فيه لا تصل سخونتها إلى حافته أبداً.
هل قلت لكم إنني لا أحب "يناير" منذ الصغر؟ لا لبرودته ولا لياليه الطويلة، فالألحفة القطن الثقيلة والمنقد كفيلان بصد غشوميته، لكن يناير دائماً ما يأتي على قريتنا "البرشا" بالمصائب كل عام، مرة بشكل جماعي، ويموت فيه عدد من الشباب الذين يعملون في القاهرة بمهنة "عتالة الأسمنت"، ويطلق عليهم في قريتنا "بتوع الإسمنت". أكل العيش يجعلهم يتسابقون لصعود جرارات النقل الكبيرة المحملة بالإسمنت، وهي تسير دون أن تبطئ على "ترعة المريوطية" لتنزيل حمولتها أينما استقرت في القاهرة.
مرات يأتي يناير بأحداث مؤسفة شخصية، أحاول تجنب الحديث عنها طوال شهر ديسمبر، الذي تضع أمي يدها على قلبها طوال لياليه، وتدعو حبيبتها "العدرا" أن "يجيب العواقب سليمة" ونعيّد على خير
لقد ارتوت الترعة والأسفلت بدماء شباب ورجال قريتنا بما يكفي، حيث سقط الكثير منهم تحت عجلات الجرارات أثناء صعودهم، وأكثر من مرة خرجت نعوش شباب، زي الورد، بشكل جماعي بسبب مثل تلك الكوارث.
مرات يأتي يناير بأحداث مؤسفة شخصية، أحاول تجنب الحديث عنها طوال شهر ديسمبر، الذي تضع أمي يدها على قلبها طوال لياليه، وتدعو حبيبتها "العدرا" أن "يجيب العواقب سليمة" ونعيّد على خير، لكن حتى لو لم يحدث كل ذلك، فقد طبع بذهن أمي، وأغلب المسيحيين في مصر، أن رأس السنة و عيد الميلاد هما المناسبتان المفضلتان للإرهابيين، للمعايدة عليهم بتفجير كنيسة أو أكثر، وقتل عدد من المسيحيين الأبرياء، وذلك منذ حادثة قرية الكشح في التسعينيات، مروراً بأحداث كنيسة القديسين في الإسكندرية، وحتى تفجير الكنيسة البطرسية وما بعدها.
أخرجتني أمي من كآبة ذكرياتي تلك، وألقت لي بذكرى أهون، فقد سألتني إن كنت سلمت على جارنا المسلم الذي كان يؤكد عليها كل عيد ألا تنسى نصيبه من "البسيس"، حتى امتلأت رأسه بالأفكار الغريبة، وأصبح أكل "البسيس" حراماً ولا يجوز!، مثله مثل المعايدة على جيرانه المسيحيين، أو الترحّم على موتاهم، وعندما سألتُ أمي عنه بعدما تذكرته، وأين هو الآن، قالت لي إنه الآن عند ربه، ودعت له بالرحمة.
من كتاب "سفر أمثال أمي... حكايات من المنيا" الطبعة الأولى يناير 2023
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...