شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!

"ليالي كيهك": ذكريات أمي في الشهر المريمي

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والتنوّع

الخميس 7 ديسمبر 202311:07 ص

تحب أمي ليالي شهر كيهك أكثر من أي شهر آخر، فهو "الشهر المريمي" الذي تُمدح فيه "العذراء البتول"، وطوال الشهر تذهب أمي للكنيسة، كل مساء، لتحضر "عشية كيهك".

كل ليلة، وقبل أن تتناول أمي عشاءها المكوّن من بطاطس مهروسة مضاف عليها "نِدعة/قليل من ملح وزيت"، تبدأ في الاستماع إلى "تسبحة نصف الليل، لتمجيد السيدة العذراء مريم ومعجزة التجسد الإلهي"، ثم تذهب إلى الكنيسة لتقضي بقية ساعات الليلة تمدح "أم النور" وذلك لمدة شهر كامل، وحتى ليلة "عيد الميلاد المجيد" 29 كيهك، الموافق 7 يناير، حسب أعياد الأقباط الأرثوذكس.

أمدح في عذراء بتول        وأصيح عشية مع بكره
بأعلى صوتي واقول         طوباك أيتها العذراء
بحق أننا نعطي وننال        تلك الخيرات المنتظرة
إذا صحنا بالصوت العال    طوباك أيتها العذراء
تقدم نحوك غبريال           وأعلن صوته البشري
وأعطاك السلام وقال        طوباك أيتها العذراء
جوف أحشائك حمل باريكي   كما قالوا أهل الخبرة
أن الرب الإله يسكن فيكي    طوباك أيتها العذراء    

 لكن أمي تنزعج من نهار "كيهك"(ينطق أيضا كياك) بسبب قصره، وفي كل مرة تتعجّب فيها من سرعة مضي الوقت ولم تنجز مهامها، يرد عليها أبي: "إنتي مَختولة/ مجنونة؟". كياك صباحك مساك؟"، لتكمل له حفيدته المشاكسة: "تقوم من فطورك تحضر عشاك"، وهو مثل مصري قديم يشرح ببلاغة مدى قصر النهار في هذ الشهر.

أبي، كفلاح أصيل، يفتخر أنه يحفظ التقويم القبطي بأيامه وساعاته. فلاح لا يقرأ أو يكتب، لكنه يفهم في حركة الفلك أكثر من كثيرين ينتشرون بيننا ويؤمنون بأن الأرض مسطحة
أبي، كفلاح أصيل، يفتخر أنه يحفظ التقويم القبطي بأيامه وساعاته. فلاح لا يقرأ أو يكتب، لكنه يفهم في حركة الفلك أكثر من كثيرين ينتشرون بيننا ويؤمنون بأن الأرض مسطحة. يحفظ أبي أنه من يوم 17 كيهك يبدأ النهار في الزيادة دقيقة وثلث يومياً ويأخذها من الليل، وتبقى ليلة يوم 17 كيهك 14 ساعة ونهاره 10 ساعات.
هل أقول لأبي إن الكتب أخبرتني بصدقه؟ وقد فهمت كل ذلك بعد 30 عاماً، بعدما كنت أضجر من هذه السيرة وأنا طفل لعدم فهمي ما يقوله هو وأمي، وأن "كيهك" هو الشهر الرابع من السنة المصرية القديمة. حتى الاسم نفسه لم يتغير، فهو في الأصل "كا حا كا" بمعنى "قرين مع قرين" يمثله الثور "إله الخير"، وهو شهر اجتماع الأرواح، وهو أحد الأعياد المصرية القديمة، وفيه ولد "رع" إله الشمس، وفيه تجسّد الإله وصار جسداً حل بيننا يوم ميلاد المسيح.
مؤكد سيضجر أبي من حديثي ذلك الذي لم أقله، فيما سَمِعت أمي تقول: " طب ما إحنا فراعنة"، أم تراني أنا من قال ذلك؟

طوال 43 يوماً، هي مدة صوم عيد الميلاد، أو العيد الصغير في نهاية "29 كيهك"/ 7يناير، ننسى طعم الألبان واللحوم كالعادة، لكن الحقيقة أن "كيهك" لأنه عظيم فعطاياه أيضاً عظيمة، حيث يفيض نهر النيل المبارك بأجود منتجاته من سمك "البلطي والقراميط والبياض والرعاش والتعابين". طوال مدة الصوم الذي لا يُحرم أكل السمك فيه، فحمداً للنيل العظيم.

في فجر 6 يناير، تقوم أمي من نومها لعمل "بسيس الميلاد"، وهي الأكلة التي تعتقد أمي، وكل المسيحيين في الصعيد، أنهم ورثوها نقلا عن "العدرا"، التي صنعت "البسيس" للمسيح في طفولته خلال رحلة هروبهما إلى مصر، والبسيس عبارة عن دقيق قمح مفتول بالماء، ويوضع في عسل مخفّف بالماء بعد غليانه، وهناك من يعمل "البسيس" بالأرز بدلاً من الدقيق، لكن أمي لا تعترف به كـ "بسيس" صعيدي كما تعلمته من جدتي وتعلمته جدتي بدورها من أمها.

لا يؤكل البسيس إلا في الصباح الباكر يوم ليلة الميلاد، أمام "المنقد"، وهو المدفأة الصعيدي المعمول من الطين والقش، وقارب على الانقراض في قرانا، بعدما حل محله المنقد الحديد، الذي يحرمنا من وضع أرجلنا على حافته، كما كنا نفعل زمان مع المنقد الطيني، الذي مهما كانت النار "موهوجة" فيه لا تصل سخونتها إلى حافته أبداً.

هل قلت لكم إنني لا أحب "يناير" منذ الصغر؟ لا لبرودته ولا لياليه الطويلة، فالألحفة القطن الثقيلة والمنقد كفيلان بصد غشوميته، لكن يناير دائماً ما يأتي على قريتنا "البرشا" بالمصائب كل عام، مرة بشكل جماعي، ويموت فيه عدد من الشباب الذين يعملون في القاهرة بمهنة "عتالة الأسمنت"، ويطلق عليهم في قريتنا "بتوع الإسمنت". أكل العيش يجعلهم يتسابقون لصعود جرارات النقل الكبيرة المحملة بالإسمنت، وهي تسير دون أن تبطئ على "ترعة المريوطية" لتنزيل حمولتها أينما استقرت في القاهرة.

مرات يأتي يناير بأحداث مؤسفة شخصية، أحاول تجنب الحديث عنها طوال شهر ديسمبر، الذي تضع أمي يدها على قلبها طوال لياليه، وتدعو حبيبتها "العدرا" أن "يجيب العواقب سليمة" ونعيّد على خير

لقد ارتوت الترعة والأسفلت بدماء شباب ورجال قريتنا بما يكفي، حيث سقط الكثير منهم تحت عجلات الجرارات أثناء صعودهم، وأكثر من مرة خرجت نعوش شباب، زي الورد، بشكل جماعي بسبب مثل تلك الكوارث.

مرات يأتي يناير بأحداث مؤسفة شخصية، أحاول تجنب الحديث عنها طوال شهر ديسمبر، الذي تضع أمي يدها على قلبها طوال لياليه، وتدعو حبيبتها "العدرا" أن "يجيب العواقب سليمة" ونعيّد على خير، لكن حتى لو لم يحدث كل ذلك، فقد طبع بذهن أمي، وأغلب المسيحيين في مصر، أن رأس السنة و عيد الميلاد هما المناسبتان المفضلتان للإرهابيين، للمعايدة عليهم بتفجير كنيسة أو أكثر، وقتل عدد من المسيحيين الأبرياء، وذلك منذ حادثة قرية الكشح في التسعينيات، مروراً بأحداث كنيسة القديسين في الإسكندرية، وحتى تفجير الكنيسة البطرسية وما بعدها.

أخرجتني أمي من كآبة ذكرياتي تلك، وألقت لي بذكرى أهون، فقد سألتني إن كنت سلمت على جارنا المسلم الذي كان يؤكد عليها كل عيد ألا تنسى نصيبه من "البسيس"، حتى امتلأت رأسه بالأفكار الغريبة، وأصبح أكل "البسيس" حراماً ولا يجوز!، مثله مثل المعايدة على جيرانه المسيحيين، أو الترحّم على موتاهم، وعندما سألتُ أمي عنه بعدما تذكرته، وأين هو الآن، قالت لي إنه الآن عند ربه، ودعت له بالرحمة.

من كتاب "سفر أمثال أمي... حكايات من المنيا" الطبعة الأولى يناير 2023


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

تنوّع منطقتنا مُدهش

لا ريب في أنّ التعددية الدينية والإثنية والجغرافية في منطقتنا العربية، والغرائب التي تكتنفها، قد أضفت عليها رومانسيةً مغريةً، مع ما يصاحبها من موجات "الاستشراق" والافتتان الغربي.

للأسف، قد سلبنا التطرف الديني والشقاق الأهلي رويداً رويداً، هذه الميزة، وأمسى تعدّدنا نقمةً. لكنّنا في رصيف22، نأمل أن نكون منبراً لكلّ المختلفين/ ات والخارجين/ ات عن القواعد السائدة.

Website by WhiteBeard
Popup Image