شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
هل نسخت إسرائيل الطريقة الأمريكية في

هل نسخت إسرائيل الطريقة الأمريكية في "أسطرة" نشأتها؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي نحن والتاريخ

الأربعاء 6 ديسمبر 202310:22 ص

هناك أسطورتان أساسيتان مؤسستان للثقافة الأمريكية تتجليان بشكل تام في مغامرتها الإمبريالية وتصرفاتها تجاه العالم، الأولى هي "القدر الواضح" المصطلح الذي صكه جون إل سوليفان عام 1845، بأن أمريكا -العالم الجديد- ليس لديها خيار سوى قيادة العالم إلى المدنية والفضيلة، وأنها "المسيح السياسي" الذي جاء لإنقاذ هذا العالم لنشر الإنجيل في ربوعه، وهي نظرة تجعل من الآخرين هم البرابرة، المخلوقات الإبليسية التي ينبغي قتلها من قبل "شعب الله المختار".

الأسطورة الثانية هي "مدينة فوق التل"، ويعود أصلها إلى منتصف القرن السابع عشر، عندما أخبر جون ثيروب البيورتانيين الذي كان يقودهم إلى العالم الجديد أنها رحلة لم يباركها الرب فحسب، بل شارك فيها، وأنهم سيصنعون مدينة فوق التل، أي تتطلع إليها أعين الناس جميعا كمثال أخلاقي على العالم أن يحتذيه، لاحقاً لن يكون أعداء الإدارة الأمريكية أعداء للحرية والديمقراطية فقط، بل أعداء للرب أيضاً. 

تقسيم العالم إلى خير وشر 

أسطورتان ساهمتا بظلالهما العنصرية ودوافعهما الإمبريالية في تكوين الصورة النمطية الأمريكية التي تقسم العالم إلى طيبين وأشرار، وهي صورة لم تتجل فقط في خطاب جورج بوش الابن في "حربه على الإرهاب"، بحسب ملاحظة شعبان مكاوي في مقدمة ترجمته لكتاب التاريخ الشعبي للولايات المتحدة للكاتب الأمريكي هوارد زين، بل أن كاتباً بحجم هيرمان ميلفيل، يكتب:

"نحن الأمريكيون متفردون وشعب مختار، نحن إسرائيل زماننا، نحمل سفينة الحريات إلى العالم.. المسيح السياسي وقد جاء متمثلا فينا".

الأسطورة الأولى التي قامت عليها أميركا هي "القدر الواضح" بأنها كعالم جديد ليس لديها خيار سوى قيادة هذا العالم نحو الفضيلة والمدنيّة، والثانية هي أن الرب بارك رحلة اكتشافها لصنع "مدينة فوق التل" كرمز لأن الأعين ستتطلع إليها كمثال أخلاقي. 

وهي النظرة نفسها التي حكمت كولومبوس الذي اكتشف الأمريكيتين بصدفة في سعيه للحصول على طريق بحري تجاه آسيا بعد سيطرة الأتراك على الطرق البرية إلى آسيا، عقب فتح القسطنطينية، حيث كان كولومبوس يرى أنه مبعوث باسم الرب الخالد، لجلب النور إلى العالم. 

شره الذهب الأوروبي 

وكانت إسبانيا في ذلك الوقت، كشأن دول العالم الحديث يملك 2% منها أكثر من 95% من أراضيها، وبعد أن طردوا المسلمين واليهود، كانوا في حاجة إلى الذهب، وبوعد أن يحصل على 10% من أرباح رحلته من التوابل والذهب، ذهب كولومبوس بثلاث سفن، أكبرها سانت ماريا التي ضمّ طاقمها 39 فرداً.

يذكر هوارد زين في كتابه أن أول انطباع لكولومبوس عن هنود "الأراواك" في جزر البهاما، أنهم ذوي كرم وإيمان بالمشاركة، وهو الأمر الذي يتناقض كلياً مع أوروبا في عصر النهضة التي كان يدفعها سعار وحشي إلى المال، وأول ما فعله هو احتجاز أهلها لإجبارهم على الاعتراف بأماكن الذهب بعد أن رآهم يرتدون حلياً ذهبية صغيرة، واقتاد بعضهم سجناء معه. 

في الرحلة الثانية التي قادها خيال أن أرض العالم الجديد مليئة بحقول من الذهب، كانت عدد سفن كولومبوس 17 سفينة، تحمل 1200 رجل، ولما لم يجد الذهب أمر بأن كل من بلغ 14 عاماً، عليه أن يحضر كمية معينة من الذهب كل 3 أشهر، يحصل مقابلها على عملة نحاسية تعلق حول عنقه. ولما كانت تلك مهمة صعبة، حيث لا يوجد الذهب إلا بكميات صغيرة في المصارف الطينية، فقد عوقب من لم يجد الذهب بقطع أيديهم، وتركها تنزف حتى الموت، وعندما لم يجد الهنود حلاً سوى الفرار، طاردهم الأسبان وعاقبوهم بالشنق والحرق، وشُحن أغلبهم كعبيد.  

كان الإسبان متوحشين، يجربون في الهنود أسنة رماحهم لاختبار حدتها، يقطعون الرقاب على سبيل التسلية، يستخدمون ظهورهم كمطايا، يجبرونهم على حملهم على محفات. ونتيجة تلك السياسات انخفض عدد سكان هاييتي البالغ 250 ألفاً، إلى النصف في عامين، سواء بالقتل أو الانتحار الجماعي الذي فضلوه على مذلة الإسبان بتجرع السم، حتى إن الأمهات كن يقتلن أطفالهن الرضع كي لا يقعوا في يد الإسبان، وبحلول عام 1515، بلغوا خمسين ألفاً، وبحلول 1550، وصلوا إلى خمسمائة، وفي عام 1650، كان هنود " الأوراك قد انقرضوا.

سواء في الجانب الرأسمالي أو الاشتراكي، فإن فكرة ارتكاب مجازر أو فظاعات باسم إنقاذ الحضارة الغربية، ما زالت تعيش معنا إلى اليوم، وباسمها ارتكبت مآسي هيروشيما وفيتنام وضحايا الغولاج أو معسكرات العمل بالسخرة في عهد ستالين

مات ثلث العاملين في المناجم، وأجبرت الزوجات على تهيئة آلاف الهضاب الصغيرة لزراعة نبات الكاسافا الذي يستخرج منه النشا، فلا يجتمع شمل الأسرة إلا كل ستة أو ثمانية أشهر، فقلت قدرتهم على الإنجاب، كما ضعفت قدرة النساء على الإرضاع؛ بسبب قسوة ظروف العمل وسوء التغذية، فقُتل الأطفال، وأرغمت أكثر من 700 امرأة بحسب شهادة المؤرخ لاس كاساس الذي عاصر تلك الأحداث على إغراق أطفالهن لعدم قدرتهن على تغذيتهم. وفي الفترة من عام 1494 إلى عام 1508، مات أكثر من ثلاثة ملايين إنسان.  

تلك القصة بحسب هوارد زين ليست هي التي تقدم في مؤسسات التعليم العام بأمريكا، بل ما يقدم هي قصة كولومبوس كبطل لا سافك دماء، وعندما يذكر مؤلف كتاب "كريستوفر كولمبوس بحاراً"، وهو الكاتب صامويل موريسون حقيقة الإبادة، فإنه يذكرها في أسطر قليلة، ويطمرها بركام هائل من المعلومات. 

مجازر لإنقاذ الغرب 

سواء في الجانب الرأسمالي أو الاشتراكي، فإن فكرة ارتكاب مجازر أو فظاعات باسم إنقاذ الحضارة الغربية، ما زالت تعيش معنا إلى اليوم، وباسمها ارتكبت مآسي هيروشيما وفيتنام وضحايا الغولاج أو معسكرات العمل بالسخرة في عهد ستالين.

وبجانب سياسة ترويع المدنيين وارتكاب المجازر بحقهم بدلاً عن المحاربين لكسر إرادة المحارب، حاول الأسبان أيضاً تقديم رؤية تشبه رؤية الصهاينة الآن، أسطورة أنهم قدموا إلى أرض بلا شعب، لم يستغل تلك الأرض، فحق لهم احتلالها، رغم أن كثافة السكان الأصليين كانت تعادل مثيلاتها في أوروبا وكثيراً من القبائل الهندية كانت ذات ثقافة مركبة، متقدمة اقتصادياً وقادرة على تحقيق فوائض إنتاج، وتؤمن بالمساواة والملكية المشاعية واستقلالية الفرد، وفي الوقت نفسه لديهم حس صارم بالصواب والخطأ، وحفظت حقوق متقدمة للنساء، فكان من حقهن طلب الطلاق بسهولة وحرية اختيار الشريك وعزل الرجال من مناصبهم، بل وبعض السيطرة على الشؤون العسكرية، وكذلك لغة شفاهية معقدة، كتبت بها القصائد، وكل ما هو ما مضاد للقيم الأوروبية وقتها التي تقسم العالم إلى أغنياء وفقراء. 

حتى أن الباحث الأمريكي جون كولير، الذي عاش بين هنود الجنوب الغربي لأمريكا في نهاية العشرينيات والثلاثينيات، وصف روح الهنود قائلاً:

"لو أننا استطعنا أن نمتلك روحاً كأراوحهم، لصارت الأرض معين خير لا ينضب" وربما تتهم تلك العبارة بالإفراط في الرومانسية، لولا شهادات الرحالة الأوروبيين على مدار القرون السادس عشر والسابع عشر والثامن عشر التي تؤكد وصف كولير.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

‎من يكتب تاريخنا؟

من يسيطر على ماضيه، هو الذي يقود الحاضر ويشكّل المستقبل. لبرهةٍ زمنيّة تمتد كتثاؤبٍ طويل، لم نكن نكتب تاريخنا بأيدينا، بل تمّت كتابته على يد من تغلّب علينا. تاريخٌ مُشوّه، حيك على قياس الحكّام والسّلطة.

وهنا يأتي دور رصيف22، لعكس الضرر الجسيم الذي أُلحق بثقافاتنا وذاكرتنا الجماعية، واسترجاع حقّنا المشروع في كتابة مستقبلنا ومستقبل منطقتنا العربية جمعاء.

Website by WhiteBeard