تصرخ الأم الفلسطينية من غزة "ولادي ماتوا جوعانين قبل ما يوكلوا" لتفطر قلب العالم، فالمرأة التي لا تحمل سلاحاً تتلقى نتائج الحرب بيدين فارغتين من عائلتها وقلب ينزف وصوت لا يمكنه سوى الاحتجاج على ما يحدث.
العنف الحربي يعزز العنف المجتمعي
تشكل الحرب أكثر أشكال العنف الممارس على الإنسان عموماً وتعاني منها النساء بشكل مضاعف، سواء بالقتل أو فقدان المعيل أو التهجير وتجربة اللجوء المريرة، فالحرب رغم أنها ظرف طارئ إلا إنها الأشد قسوة، وتضيف معاناة جديدة لمعاناة المرأة التي تتنوع بين العنف الأسري والمجتمعي؛ إلى العنف المنزلي فالنفسي والجسدي والجنسي واللفظي والاقتصادي والفكري والثقافي والسياسي والحقوقي، وأخيراً العنف الإلكتروني، وكل هذا يتمظهر بأشكال مختلفة ليصل في بعض الحالات إلى حدود القتل كـ"جرائم القتل باسم الشرف" على سبيل المثال لا الحصر.
آخر ما وثقه المرصد السوري من هذا النوع هي قصة مقتل فتاة على يد أخيها في ريف درعا في أيار/ مايو 2023. بالإضافة إلى 92 جريمة من هذا النوع ضد النساء منذ مطلع العام، تنوعت بين العنف الأسري، أو بدافع السرقة، أو لأسباب مجهولة وناهيك عن الجرائم التي تم التكتم عنها، هناك 25 حالة "قتل دفاعاً عن الشرف" تم توثيقها في الحسكة وشمال سوريا حسب أرقام منسقية المرأة في النصف الأول من العام الحالي.
السلاح بين العامة
لقد ساهمت الحرب في ترك السلاح متداولاً بين العامة، مما جعل خطره قائماً أكثر، فأي شجار بسيط قد يتحول إلى استخدام السلاح بكل بساطة.
تقول الإحصائيات إن العنف ضد المرأة في دول شرق المتوسط يصل إلى 37%، وهي النسبة الأعلى تقريباً عالمياً، ويعرّف بأنه "العنف الموجه ضد المرأة بسبب كونها امرأة" أو "العنف الذي يمس المرأة على نحو جائر، ويطال النساء بغض النظر عن السن أو الحالة الاجتماعية أو المادية". فلا يقتصر على مجتمعات فقيرة بل يتواجد في الغنية، والمضطربة والمستقرة على حد سواء، لكن تختلف شدته وأشكاله، فكما سمعنا عن فتيات في أفغانستان قُتلن لمجرد رغبتهن بالتعلم، شاهدنا ما حدث في إيران من قتل للنساء المشكوك بأمر حجابهن، وما تلا ذلك من قتل بحقهن عند الاحتجاج على الأمر.
تشكل الحرب أكثر أشكال العنف الممارس على الإنسان عموماً، لكن تعاني منها النساء بشكل مضاعف، سواء بالقتل أو فقدان المعيل أو التهجير وتجربة اللجوء المريرة
كما شاهدنا معاناة المرأة الفلسطينية، والسورية من قبلها تحت وطأة الحروب، فكل يوم نرى نساء يمتن في سياق احتجاجهن على القيود المفروضة عليهن، إذ تقول الإحصاءات العالمية أن بين كل ثلاث نساء امرأة تتعرض للعنف الذكوري، وتشير أرقام للأمم المتحدة إلى أن امرأة أو فتاة تُقتل كل 11 دقيقة على يد شريك حميم أو أحد أفراد الأسرة.
وفي تصريح سابق لرئيس الهيئة العامة للطب الشرعي في سوريا زاهر حجو قال إنه من بين 100 حالة من حالات تعنيف المرأة فارقت 3 نساء العام الماضي الحياة، ورغم أن هذه الأرقام تتقلص مع الزمن، لكنها لا تزال موجودة ويتراوح الأذى فيها بين البسيط والموت. سورياً تأتي حلب في المرتبة الأولى، تليها دمشق فالسويداء ثم حمص.
ورغم أن هناك الكثير من الحالات غير المرصودة التي لا تصل للقضاء ويتم التكتم عليها، إلا أن هناك بعض القصص التي جرى فضحها إعلامياَ لتكشف مدى العنف الممارس على النساء الذي يصل إلى حد القتل بالسلاح الذي وفرته الحرب، أو بوسائل بدائية كالضرب بالحجارة، مثلما حدث في جريمة "تل خزنة" في ريف حماه حيث تم العثور على جثة فتاة مهشمة الجمجمة العام الماضي، إلى الطعن بالسلاح الأبيض، وكثير من الأمثلة. ولم نكد ننسى جريمة قتل آيات الرفاعي التي تدوالتها وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي وما جرى خلالها في محاولة التنصل من الجريمة من قبل الزوج وذويه.
القانون لا يسأل عن السلاح بل عن الشرف
جرائم الشرف ليست غريبة على مجتمعنا لكنها صارت أسهل بوجود ما خلفته الحرب من أسلحة، وقد استمرت تحت نظر القانون وشبه حمايته لأعوام طويلة، فالدفاع في المحاكم يقدم أعذاراً مخففة للعقوبة لمرتكب الجريمة تحت ذريعة "فورة الدم"، علماً أن التمييز صارخ في ملابسات الخيانة الزوجية التي تستدعي قتل المرأة اجتماعياً مع تبرئة الرجل من العقوبة، بينما لا تتناول الرجل حين يقوم بفعل الخيانة ذاتها.
لقد ساهمت الحرب في ترك السلاح متداولاً بين العامة، مما جعل خطره قائماً أكثر، فأي شجار بسيط قد يتحول إلى استخدام السلاح بكل بساطة.
بالعودة لكثير من قصص هذه الجرائم نرى أنها غالباً ما تكون بسبب الشبهة، أو لمجرد إشاعات تنتشر في الوسط الاجتماعي ويصدقها الأهل، وربما تكون مجرد افتراءات او ذات دوافع انتقامية، وأحياناً تكون بسبب رفض الفتاة للزوج الذي يختاره الأهل وإرغامها على الزواج منه.
أزيح الستار أيضاً عن جرائم في أماكن متفرقة تم فيها قتل الفتاة من قبل الشاب بسبب رفضها له حبيباً أو زوجاً.
لكن، لا يقتصر العنف على القتل، فالمرأة الآمنة قد تعاني أيضاً، سواء في المنزل أو العمل أو المؤسسات أو وسائل النقل أو الشارع. وأنواع التحرش تتنوع من اللفظي فالجسدي فالبصري، وأحيانا تكون وسيلة لتصفية الحسابات بين الرجال كما حدث في حادثة اختطاف وقتل الطفلة جوى في حمص العام الماضي.
تغيير مصادر التشريع
بين قوة السلاح الذي تتركه النزاعات المسلحة وراءها، والسلطة التي تعطيها العادات والدين للرجل، سنجد أن المرأة هي الطرف الأضعف الذي يمكن أن تتوجه إليه فوهات هذه الأسلحة حين تهدأ النزاعات، ولا بد هنا أن نقول أن هذا الواقع العنيف ضد المرأة يستند إلى عقلية سائدة ومتوارثة في التقاليد الاجتماعية، يعززها القانون ويقويها الدين. فقانون الأحوال الشخصية في سوريا يستند إلى أحكام التشريع والفقه الاسلامي المستمد من النص الديني والسنة، كمفهوم نقصان العقل والدين لدى النساء الذي يطغى على تجاور المرأة والرجل في النص القرآني وتوجيه الخطاب الديني لكليهما بنفس السوية، إلى القوامة التي اجتُزأت من سياق ضرورتها الذي كان يتلخص قديماً بتوزيع الأدوار في مؤسسة الزواج لتصبح قاعدة للتعامل بين المرأة والرجل على كافة الصعد حتى الوقت الحالي ودون النظر إلى أن هذه الأحكام قد تأثرت بالسياقات المجتمعية عبر الزمن وباجتهادات فردية والشروحات والفهم غير الدقيق، فتجاوزت النص الأصلي وصارت مقدسة مثله، ولم يعد من السهل تعريتها عن تلك القدسية وردّها إلى منشئها الاجتماعي.
لذا يبدو من الضرورة وضع تشريع قانوني مدني واضح صريح يخرج من الأصول الدينية، ليهتدي بقوانين حقوق الانسان كمصدر تشريعي لا يحتمل التمييز أو الظلم أو الفهم الشخصي لوضوحها، ولتضمينها الإجماع الإنساني والحضاري والعصري.
بين قوة السلاح الذي تتركه الحروب وراءها، والسلطة التي تعطيها العادات والدين للرجل، سنجد أن المرأة هي الطرف الأضعف الذي يمكن أن تتوجه فوهات هذه الأسلحة إليها حين تهدأ النزاعات المسلحة
لكن لعل أكثر أشكال العنف تناسياً رغم تأثيره هو العنف النفسي الذي يشكل الإهمال سمته الأبرز، كالقسرية في اختيار الشريك خاصة في الظروف الاقتصادية السيئة، وعدم إتاحة أو قبول الزواج المدني. إذ تشكل الظروف الاقتصادية السيئة عاملاً مهماً في انتشار ظاهرة العنف النفسي الأسري الذي يمارسه الأب تجاه الزوجة والأولاد، لينعكس على طريقة معاملة الأطفال من قبل الأم نفسها.
لقد دفعت هذه الظروف وانعدام فرص العمل لانتشار ظاهرة التسول عند الفتيات والنساء أو الذهاب إلى غرف الدردشة الإلكترونية مما يحقق لهن ريعاً يعين على الحياة لكن لا يتم التنبه إلى مخاطره الكثيرة أولها وقوعهن تحت سلطة الابتزاز والاتجار الجسدي ولو عن بعد ما يمكن تسميته الدعارة المقنعة والوصول فيما بعد إلى فعل الدعارة الحقيقية تحت تأثير الابتزاز، إضافة إلى استهلاك الوقت الطويل بلا جدوى، فهو استنزاف وضياع للإمكانيات البشرية التي أهملت في ظل ظروف الفوضى والانحدار الإنساني والاجتماعي.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Mohammed Liswi -
منذ يومأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ 3 أياملا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 5 أياممقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه
بلال -
منذ أسبوعحلو
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعالمؤرخ والكاتب يوڤال هراري يجيب عن نفس السؤال في خاتمة مقالك ويحذر من الذكاء الاصطناعي بوصفه الها...