شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
ما وراء النوستالجيا… كارتونات صاغت صور البطل العربي

ما وراء النوستالجيا… كارتونات صاغت صور البطل العربي

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مازنجر، والكابتن ماجد، وسندريلا، إلخ، اعمال كارتونية استمتعنا بمشاهدتها كثيراً منذ عقود. ذهبت تلك الأعمال ووارتها يد النسيان بعدما شكّلت -دون أن ندري- قدراً معتبراً من وعينا السياسي الجمعي. ولم يبق من ذكراها إلا بعض المشاهد المثيرة للنوستالجيا، وبعض الأناشيد والألحان التي اعتادت أن تدغدغ أسماعنا لتذكرنا بالماضي البعيد. في هذا المجال سنلقي نظرة على الكارتونات التي شكلت وعينا خلال تسعينيات القرن الماضي. 

الأسد الملك: تيمة الصراع الأبدي بين الحق والباطل

عُرض فيلم "الأسد الملك" للمرة الأولى في سنة 1994. وهو من إنتاج شركة والت ديزني الشهيرة. حقق الفيلم نجاحاً هائلاً في الولايات المتحدة الأمريكية ومختلف دول العالم. وفي سياق هذا النجاح، تم دبلجته إلى اللهجة العامية المصرية ليُعرض على نطاق واسع في فترة التسعينيات.

تدور حبكة الفيلم حول الأسدين موفازا، وسكار. الأول، هو الملك الذي يقود شعبه، ويدافع عنه ضد أي اعتداء. والثاني، هو الخائن، الذي يتحالف مع الضباع اللئيمة ليغتصب مُلكاً ليس من حقه. ينجح سكار في تنفيذ خطته، بعد أن يتسبب في قتل موفازا، ليحكم الشعب بالحديد والنار حتى يعود سيمبا، ابن موفازا، من غربته الطويلة، وينتقم لأبيه المغدور، مستعيداً عرشه المختطف.

مازنجر، والكابتن ماجد، وسندريلا، إلخ، اعمال كارتونية استمتعنا بمشاهدتها كثيراً منذ عقود. ذهبت تلك الأعمال ووارتها يد النسيان بعدما شكلّت قدراً معتبراً من وعينا السياسي الجمعي، ولم يبق من ذكراها إلا بعض المشاهد المثيرة للنوستالجيا

يمثل الفيلم تيمة تقليدية بسيطة لحكاية الانتقام الخالدة، والتي عشق البشر ترديدها وحكايتها على مدار القرون. حملت تلك القصة العديد من القيم السياسية التي ترسخت في وعينا الجمعي. وتسببت -دون أن ندري- في غياب الموضوعية عن الكثير من أحكامنا.

برغم أن النسخة الأمريكية الأصلية من الفيلم لم تتحدث عن وجود أي صلة قرابة بين موفازا وسكار، إلا أن النسخة العربية المدبلجة من العمل، أشارت إلى كونهما أخين شقيقين. وكأن أصحابها أرادوا أن يعيدوا تقديم قصة صراع الشقيقين المتناقضين، وهي القصة الضاربة بجذورها في عمق حضارات الشرق الأدنى القديم، بدايةً بقصة الحرب بين الإلهين أوزير وست في الحضارة المصرية القديمة، ومروراً بالعداء بين أهورامَزدا وأهريمان في الميثولوجيا الزرادشتية الفارسية، ونهايةً، بالخصومة المنعقدة بين ولدي عبد مناف، هاشم وعبد شمس في روايات الإخباريين المسلمين.

في تلك التيمة، يصبح موفازا/ أوزير/أهورامزدا/هاشم، هو الخير المطلق، فهو البطل الشجاع الذي يستعد للتضحية بنفسه في سبيل إنقاذ من يحب. وعلى النقيض من ذلك، يأتي سكار/ست/أهريمان/عبد شمس، بصفته الخبيثَ الشرير الحاسد الذي يضحي بكل شيء للوصول إلى الحكم والسلطة. علمتنا تلك التيمة التي توارثناها أباً عن جد أن العالم مُنقسم إلى معسكرين/جانبين، أحدهما ناصع البياض، والآخر حالك اللون؛ أولهما نور وثانيهما نار؛ يمين ويسار؛ جنة وجحيم؛ حق وباطل؛ صحيح وخطأ.

بموجب تلك النظرة، لم يتسع وعينا لإدراك اللون الرمادي الذي يصبغ الأغلبية الغالبة من الكون. نشأنا وتربينا على أساس الاستقطاب ولا شيء غيره. يجب أن ننتمي إلى معسكر ما، ويجب بالتبعية أن نعادي معسكراً آخر مضاداً. هكذا عبّرنا عن أنفسنا منذ نعومة أظافرنا، وبتلك الطريقة اخترنا أن نعبّر عن هويتنا التي تميزنا عمن حولنا.

مازنجر: لأن البطل لا يُهزم

في سبعينيات القرن الماضي، تم بث المسلسل الياباني مازنجر زد. ودارت قصته حول العملاق الآلي الذي يواجه قوى الشر. في الثمانينيات، تمت دبلجة المسلسل إلى اللغة العربية، وبُثت العديد من حلقاته على بعض المحطات العربية. واشتهر وقتها باسم "مازنجر". نجح المسلسل في إثارة إعجاب الأطفال العرب اللذين اعتادوا الالتفاف حول شاشات التلفاز لمتابعة مغامرات العملاق الآلي، والقائد "ماهر"، وصديقته "فاتن" أثناء حروبهم المتكررة ضد قادة معسكر الشر، أبي الغضب، وتابعه الخنثى "المزدوج". على مدار العشرات من الحلقات المثيرة، تابعنا مازنجر وهو يستخدم أسلحته الفتاكة لتدمير أعدائه واحداً بعد آخر.

بعد أن مرت السنوات وكبرنا، اكتشفت أن نهاية المسلسل لم تُعرض على الإطلاق على أي من المحطات العربية. كما أن حلقة النهاية لم تُدبلج قط إلى اللغة العربية؛ الأمر الذي أثار لديّ العديد من الأسئلة وعلامات الاستفهام.

تقبلت المجتمعات العربية شخصية سندريلا الكارتونية ورحبت بها، لتنضم إلى زمرة الشخصيات المؤثرة في اللاوعي الجمعي لأطفال النصف الثاني من القرن الماضي. يمكن تفسير ذلك القبول بروح الخضوع/الطيبة التي تميزت بها سندريلا في تلك القصة.

في الحلقة الأخيرة من المسلسل -والتي تمكنت من مشاهدتها مؤخراً على بعض مواقع الشبكة العنكبوتية- تحين نهاية مازنجر، بعد أن يُهزم على يد بعض الآليين، ليتم تدميره تماماً. فيما تم صلب صديقته أفروديت عقب هزيمتها هي الأخرى. فكرت كثيراً في تلك النهاية الدامية، وتساءلت عن سبب عدم عرضها للجمهور العربي، وتوصلت في النهاية إلى الإجابة، وهي أنه لا يمكن السماح بهزيمة البطل بأي حال من الأحوال.

بحسب تقاليدنا المرعية الممتدة على مر الأجيال، فإن النهاية السعيدة الوحيدة المقبولة لنا تتمثل في انتصار البطل الماحق على أهل الشر. يجب أن يبقى البطل/الزعيم/القائد واقفاً حتى النهاية. لا يمكن قبول لحظات ضعفه أو انكساره. لا يمكن أبداً أن يرى الأطفال الصغار بطلهم -والذي سيتحول في ما بعد إلى الزعيم أو الرئيس أو الحاكم- منكسراً أو مهزوماً. ينبغي أن يشاهدوه دائماً في أفضل حال. ينبغي أن يتغنوا على الدوام بمجده العابر لحدود الزمان والمكان، وأن يروا أعداءه مدحورين منهزمين أمام سطوته وجبروته.

تحول مازنجر في اللاوعي الجمعي إذاً إلى رمز لبطل مُلهم، مغوار، قادر على الصمود في وجه القوى العاتية؛ بطل، لا يعترف بالموت أو بالمرض، ولا تظهر على ملامحه آثار السنين. من جهة أخرى، كان مازنجر رمزاً للذكورة والفحولة التي ارتبطت دائماً بطقوس الزعامة والبطريركية في ثقافتنا. ظهر ذلك في نجدته الدائمة لصديقته أفروديت، والتي أخذت اسمها من ربة الحب والجمال والنشوة عند اليونانيين القدامى. اعتاد مازنجر أن يهرع دائماً لمساعدة أفروديت ليخلصها من يد الأعداء. لم يفهمنا صنّاع المسلسل السبب في عدم تسليح أفروديت بالقدر الكافي للدفاع عن نفسها، وما هو الغرض من وجودها بالأساس إذا كانت عبئاً دائماً على كاهل بطل العمل.

في الحقيقة، كان الهدف هو تكريس الفكرة النمطية التقليدية؛ البطل المثالي هو الذكر الذي يدافع عن عرينه في وجه الأعداء؛ الذكر الذي لا يشيخ، ولا يعتريه الضعف، والذي اعتاد أن يحمي إناثه في كل وقت وحين. تسللت تلك الفكرة إلى منظومتنا القيمية فصبغتنا بصبغتها. وصرنا، بعد أن كبرنا، نفكر بنفس منطق مازنجر الذي لا يمكن أن يُهزم أو يموت!

الكابتن ماجد: تمجيد الفردية المطلقة

صدرت سلسلة "مانغا" اليابانية في ثمانينيات القرن الماضي. وهي تدور حول الطفل الذي حلم بأن يصبح لاعب كرة قدم شهير، وأن يصل إلى بطولة كأس العالم. في سنة 1990، تم تعريب العديد من حلقات تلك السلسة، وعُرضت في الدول العربية تحت اسم "الكابتن ماجد".

تكمن المشكلة الرئيسة مع "الكابتن ماجد" في كونه وضع معياراً ديكتاتورياً لمفهوم البطولة. عبر سنين متتابعة، التفّ الملايين من الأطفال العرب حول شاشات التلفاز، ليشاهدوا ماجداً وهو يهزم منافسيه. في كل حلقة، تدور الأحداث حول ماجد ولا أحد غيره. ماجد يخطط، ويراوغ، ويسدد، ويحرز الأهداف. بينما يصفق له الجميع في سعادة وسرور. كان ماجد إذاً هو القطب الذي لا تدور الرحى إلا حوله.

على الجانب الآخر، يظهر بسّام، الفتى الأسمر، حاد الملامح، خشن الصوت. يسعى بسام إلى الانتصار، ينصت إلى حديث مدربه، ويجتهد في التمرين، ويذهب إلى البحر ليعارك الأمواج، ويجري على الرمال. ويتدرب مراراً على ضربة "النمر". بعد كل ذلك يقابل ماجد في أرض الملعب، وتجري المباراة الحامية بين الغريمين. وفي النهاية، ينتصر ماجد كالعادة. فيما يتجرع بسام مرارة الخيبة والهزيمة والخذلان. كانت تلك هي التيمة الرئيسة للمسلسل، والتي تكررت في ما يبدو وكأنه قدر محتوم لا يمكن تفاديه أو تغييره.

أكاد أجزم أن الصيغة التي قُدمت بها أحداث مسلسل الكابتن ماجد في عالمنا العربي قد أنتجت جيلاً كاملاً من الأنانيين الذين لا يرون إلا أنفسهم، ولا يبحثون إلا عن مجدهم الشخصي. في صغرنا، كنا ننتهي من مشاهدة حلقات المسلسل، ثم نهرع إلى ساحات لعب الكرة الحقيقية، وفي وجدان كلّ منا كانت أصداء صرخات ماجد المنتشية وهو يحرز الأهداف، لا تزال حاضرة. كلّ منا كان يرى في نفسه ماجداً؛ ذلك البطل العظيم الذي يُشار إليه بالبنان. على النقيض من ذلك، لم يحب أحدنا بسام. تُرى من هو المجنون الذي يحب أن يكون خاسراً؟!

تحول "مازنجر" في اللاوعي الجمعي إلى رمز لبطل مُلهم، مغوار، قادر على الصمود في وجه القوى العاتية؛ بطل، لا يعترف بالموت أو بالمرض، ولا تظهر على ملامحه آثار السنين

تسللت أفكار ماجد إلى مجتمع بأكمله، لتصنع قيماً مزيفة ومعيبة؛ قيم تحتفي بالمهارة ولا تهتم بالمجهود؛ قيم تمجد الفردية وترفض الجماعية. حلم كل طفل بأن يصبح ماجد الموهوب الذي أوتي القدرة على المراوغة والتسديد والفوز في كل مباراة، وسط تشجيع منبهر من قِبل المشجعين رجالاً كانوا أم نساءً. في السياق ذاته، تم تهميش باقي أفراد فريق المجد الذي يلعب فيه ماجد. لم يرد أيٌّ من الصغار أن يحاكي دور عمر، صاحب ماجد المعدوم الموهبة، والذي يكتفي بتلقي التسديدات في وجهه قبل أن تعرف طريقها إلى المرمى. كبرنا فيما بعد، وصار كل منا يبحث على أن يكون ماجد في عمله/أسرته/دراسته. بالتبعية، تضاءلت أهمية العمل الجماعي في مجتمعاتنا، وكبّدنا ذلك المزيد من الهزائم على كافة الأصعدة.

سندريلا: النموذج الأمثل للمواطن الخاضع

في ثمانينيات القرن العشرين، أُنتجت العديد من الأفلام الكارتونية الغربية عن قصة الفتاة الطيبة سندريلا. تعود شخصية سندريلا بالأساس إلى الثقافة الأوروبية الغربية. وربما كانت الصياغة الأولى لها قد ظهرت في قصة الفتاة اليونانية "رادوبيس" التي حكى عنها المؤرخ اليوناني سترابون في أواخر القرن الأول قبل الميلاد. على الرغم من ذلك، تتقاطع الخطوط العريضة لتلك الشخصية مع العديد من القصص الفلكلورية المعروفة في الثقافة الإسلامية، ومنها على سبيل المثال قصة "وريقة الحناء" المعروفة في الأدب الشعبي اليمني.

بشكل عام، تقبلت المجتمعات العربية شخصية سندريلا الكارتونية. ورحبت بها لتنضم إلى زمرة الشخصيات المؤثرة في اللاوعي الجمعي لأطفال النصف الثاني من القرن الماضي. يمكن تفسير ذلك القبول بروح الخضوع/الطيبة التي تميزت بها سندريلا في تلك القصة. قدمت الأعمال الكارتونية تلك الفتاة في صورة يتيمة، جميلة، ترضى بالمعاملة القاسية لزوجة أبيها الراحل، وابنتيها. لم تشتك قط، ولم تعترض أبداً على سوء معاملتها. كما قبلت أن تعيش خادمة في بيت أبيها.

مجّد المجتمع تلك الشخصية باعتبارها رمزاً لائقاً للمواطن الصالح الذي يقبل الخضوع للسلطة الأبوية/العرفية. رأى الناس في صبر سندريلا ومحافظتها على طاعة زوجة أبيها الظالمة فضلاً يستحق الإثابة، واعتقدوا أن حبها المتدفق غير المشروط لأعدائها خلقٌ محمود يدعو للتقدير. وتبدى كل ذلك في فوز سندريلا بالجائزة الكبرى، والمتمثلة في زواج الأمير الوسيم، صاحب المال والجاه والنفوذ.

بشكل لا واعٍ، تقاطعت تفاصيل العمل الكارتوني مع قيَم المنظومة الاجتماعية الديكتاتورية. التأكيد على مركزية الصبر، والحض على الطاعة المطلقة، فضلاً عن الوعد بالفوز بالنعيم الأخروي. أسأل نفسي حالياً: لماذا لم ترفض سندريلا المعاملة المهينة؟ لماذا لم ترفع أمرها إلى القضاء؟ ومن أين أتت بكل هذا الحب الذي منحته لزوجة أبيها ولابنتيها دون انتظار مقابل؟ أسئلة كثيرة معلقة تنتظر الإجابة في مجتمع تحكمه منظومة قيميّة ترى في ديكتاتورية السلطة شيئاً اعتيادياً، لا يستوجب الانتباه أو التوقف إزاءَه.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

ثورتنا على الموروث القديم

الإعلام التقليديّ محكومٌ بالعادات الرثّة والأعراف الاجتماعيّة القامعة للحريّات، لكنّ اطمئنّ/ ي، فنحن في رصيف22 نقف مع كلّ إنسانٍ حتى يتمتع بحقوقه كاملةً.

Website by WhiteBeard
Popup Image