شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
الرسوم المتحركة التي زينت مآسينا

الرسوم المتحركة التي زينت مآسينا

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الخميس 6 أبريل 202304:32 م

تندرج هذه المادة ضمن ملف الرسوم المتحركة (استراحة في عالم الألوان والأمل)، في قسم ثقافة، رصيف22.


حوالي عام 1982، أي بعد سنوات قليلة على انتصار الثورة في إيران، أقيمت مسابقة للرسم بين أطفال الروضات في مدينتنا الصغيرة. وحصدت المركز الأول، ولا زلت أحتفظ برسمتي حتى الآن. فهي رسمة مثيرة للاهتمام تعبر عن ذهنية طفل يبلغ من العمر 5 سنوات في خضم الحرب العراقية الإيرانية. كانت رسمة لدبابات متعددة الطوابق وطائرات حربية كبيرة ومروحيات غريبة وجنود ايرانيين معصبي الرأس بعصابات كتب عليها "الله أكبر" يدمرون الجنود العراقيين من الأرض والجو، حرب شاملة لا يزال صداها مدوياً في ذهني.

عادة ما تكون للأطفال في هذه السن فانتازيا خاصة يتخيلون بها واقع الحياة برؤية غير مألوفة، ولكن ذلك كان ممنوعاً بالنسبة لنا -نحن الأطفال الإيرانيين- آنذاك، فكان علينا أن نكبر بالواقعية الثورية التي كنا نراها حولنا كل يوم، وكانت أفضل الأدوات التعليمية آنذاك الرسوم المتحركة التي كنا نستوحي الدروس منها.

الثورة وأطفال بدون ترفيه

بعد انتصار الثورة في إيران في شباط/فبراير عام 1979، انهارت جميع الهياكل التنفيذية والإدارية في الدولة، ولم يكن التلفزيون الوطني الإيراني استثناءً من هذه القاعدة. ففي العاشر من كانون الأول/ديسمبر من نفس العام، قال قائد الثورة الإسلامية روح الله الخميني: إذا تم إصلاح الإذاعة والتلفزيون، فهناك أمل في إصلاح هذا البلد.


مثل أي حكومة أيديولوجية أخرى، كان الثوريون مدركين لقوة التلفزيون، وأهمية تسخير هذه الوسيلة الإعلامية في بث أفكارهم وتحريك الرأي العام، لذلك قاموا مع إبعاد بعض الإعلاميين والفنانين المناوئين لهم بإنتاج أفلام منطلقة من التعاليم الإسلامية والثورية تركز على تربية إنسان مسلم ملتزم بالثورة، وكان عدم قبولها يقابل بعقاب شديد.

غرست الرسوم المتحركة المفاهيم التربوية التي أقرتها الجهة الحاكمة في أذهان الأطفال ليتحملوا ظروف الحرب القاسية والصعوبات الاقتصادية. حكومة ثورية كان منطقها الثقافي الاتحاد حول القضايا الإسلامية وإطاعة توجيهات قائد الثورة

على سبيل المثال، كانت الإذاعة الإيرانية تجري لقاءات ميدانية مع عامة الناس بمناسبة الاحتفال بذكرى ميلاد فاطمة الزهراء، وقد التقت امرأة قالت إن مثلها الأعلى في الحياة هي "أوشين" (بطلة مسلسل تلفزيوني ياباني كان يتابعه الإيرانيون في ذلك الحين، وتصورها القصة عصامية مكافحة)، وليس الزهراء، لأنها تمثل برأيها تراثاً وتاريخاً قد مضى، والحياة تتطلب أسوة معاشة معاصرة! فأمر الخميني على الفور بفصل جميع العاملين في البرنامج وتوبيخهم، كما حكم بإعدام المرأة التي أجرت معها المقابلة إذا كانت تقصد توهين سيدة نساء العالمين (وقد درأ الحد بعد ذلك عند ثبوت عدم القصد).

كما احتاج الثوريون إلى برامج مخصصة للأطفال، بصفتهم "بناة مستقبل الثورة"، وكانوا يعتقدون أن الأطفال كاللوح الأبيض جهلة ذوي فطرة نقية، وأنهم يقلدون الكبار في كل شيء وليس لديهم آراء مستقلة، لذلك يجب تعليمهم وتربيتهم من قبل الكبار على أساس السنن الدينية. وهم كبار كانوا قد انغمسوا في المفاهيم الثورية والإسلامية.


على الرغم من أن أفلام رسوم متحركة قد أنتجت في فترة حكم النظام السابق للثورة، وكانت فنية ومثيرة للإعجاب من قبل التلفزيون الوطني الإيراني وبعض المؤسسات الثقافية، لكن محتواها بعد انتصار الثورة كان يتعارض مع المعتقدات الثورية. وكان الحل هو إعداد برامج قيمية وثورية مناسبة للأطفال في أسرع وقت.

وبما أن صناعة الرسوم المتحركة كانت مكلفة وتستغرق وقتاً طويلاً. لذلك بدأ مديرو التلفزيون الثوريون في شراء الرسوم المتحركة الأجنبية ودبلجتها وبثها. لكن هذه الرسوم المتحركة كانت مصنوعة على أساس ثقافة الدول الغربية التي تتعارض مع السياسات الثورية والمعادية للغرب التي تنهجها الحكومة الإسلامية في إيران.

دأب الثوريون على تذكير الناس بخطورة "الغزو الثقافي" الغربي، وكانوا يعتقدون أن كل ما يتم بثه في وسائل الإعلام يجب عرضه على الرقابة وتنقيته حتى لا يساق المجتمع إلى الانحراف. في الوقت الذي كان فيه مشغل أشرطة VHS ممنوعاً، وكان استخدامه يودي بأي مواطن إلى الجلد والسجن، لم يكن أمام الأطفال الإيرانيين خيار سوى مشاهدة الرسوم المتحركة القليلة والبرامج التلفزيونية المنتقاة التي يعرضها التلفزيون الوطني.

كان لدى التلفزيون الوطني الإيراني آنذاك قناتان فقط تبثان برامج للأطفال لمدة ساعة واحدة كل يوم. برامج مع مذيعة محجبة تقرأ عليهم نصوصاً مكتوبة. نصوص عن الأعياد الدينية، والعزاء على الأئمة، بالإضافة رسائل ثورية تشجع الأطفال على تقديم المساعدات المالية ودعم الحرب العراقية الإيرانية. وكان يتم بث بعض مسلسلات الرسوم المتحركة كل أسبوع. فالرسوم المتحركة هذه كانت تمثل المتنفس الوحيد للأطفال خلال فترة انقطاع الأفلام والسينما، وأبقت جميع الأطفال متسمرين أمام شاشة التلفزيون. لكن كيف كانت الحكومة تنفذ عملية الرقابة، وما المفاهيم التي ركزت عليها لتربية بناة مستقبل الثورة؟ هذا سؤال يمكن الإجابة عليه الآن.

مع انتشار الإنترنت وتوسع مواقع مثل يوتيوب (التي، تم قفلها بالطبع في إيران منذ سنوات)، أصبح من الممكن الوصول إلى النسخ الأصلية لتلك الرسوم المتحركة، وشباب اليوم، الذين كانوا أطفال الأمس، أدركوا للتو أن قصص الرسوم المتحركة كانت تعرض عليهم بشكل خاضع للرقابة. وشيئاً فشيئاً، بدأ النقاش حول تأثير هذه الرقابة يحتدم.

شخصيات كارتونية يتيمة تبحث عن الأم

في العديد من الرسوم المتحركة التي تم بثها للأطفال الإيرانيين في الثمانينيات، كانت الشخصيات الرئيسية إما أيتاماً أو فُقدت أمهاتهم. كان السيناريو الشائع هو البحث عن الأم وتحمل المصاعب والصعوبات في سبيل ذلك. كانت القصص حزينة ومثيرة للشفقة لدرجة أن معظم الأطفال بكوا عندما شاهدوها، مثل مغامرات نحّول وبل وسبستيان وفتاة المراعي وقصة حنان ومغامرات نوال و... في كل هذه الرسوم المتحركة، كان على الشخصية الرئيسية أن تقاوم الصعوبات دون أن تنحني أو تستسلم. كانت المقاومة لتحقيق الهدف الموضوع الرئيسي لهذه القصص. معظم هذه الرسوم قد تمت أحداثها في القرى. لم تكن الشخصيات مرفهة وغنية، بل كان معظمها من الطبقات الفقيرة ولديهم منازل بسيطة بإمكانات محدودة. لكن رغم الفقر والعوز، عملوا بجد واجتهاد حتى أصبحوا متقدمين على الآخرين. وفي هذا كناية عن الثوريين الذين قدموا أنفسهم على أنهم حماة المستضعفين، واعتبروا الثورة الإسلامية انتصاراً لساكني الأكواخ على ساكني القصور.


في معظم هذه الرسوم، كان التضامن والاتحاد بين أفراد الأسرة يظهر بصورة جلية. لم تكن النزعة الفردية والأذواق الشخصية مهمة أبداً، بل كانت تحل معظم المشكلات بالعمل الجماعي والتضامن والتشاور بين الأفراد. في القصص، كانت تظهر معارضة النزعة الاستهلاكية، والتشجيع على الحياة البسيطة في قلب العلاقات الأسرية. مع إيصال رسالة أن الحياة صعبة على الجميع، وأنه لا مكان للمتعة والترفيه إلا بعد العمل الشاق.

وبهذا الأسلوب، غرست الرسوم المتحركة المفاهيم التربوية التي أقرتها الجهة الحاكمة في أذهان الأطفال ليتحملوا ظروف الحرب القاسية والصعوبات الاقتصادية. حكومة ثورية كان منطقها الثقافي الاتحاد حول القضايا الإسلامية، وإطاعة توجيهات قائد الثورة. في الواقع، كانت الرسوم كالمدرسة التي نفّذت أيضاً، بالإضافة إلى التعليم، تربية أيديولوجية ممنهجة، وكان من المفترض أن تثقف المجتمع على السمع والطاعة من دون مناقشةٍ ولا خيرة.

لم تكن هناك علاقات رومانسية في أي فيلم أو رسوم متحركة كانت تستهدف الأطفال. كانت كلمة "صديق" و"صديقة" كلمات مساوية للانحلال الغربي. 

على الرغم من أن جوهر كل فيلم كرتوني يقوم على الفنتازيا والإبداع، إلا أن المفاهيم الثورية لا يمكن عكسها من خلال الفنتازيا، لأنها تتماشى مع الواقعية الموضوعية أكثر بكثير. لذلك، كانت الحياة اليومية والعلاقات في معظم الرسوم المتحركة التي تمت الموافقة على عرضها طاغية أكثر من التخيلات الإبداعية أو الأجواء الخيالية. فأقصى الفنتازيا الموجودة في هذه الرسوم كان عبارة عن شخصيات حيوانية أو غير حية تنطق وتتحدث.

رسوم متحركة من دون حب وعشق

بلحاظ أن الثورة الإيرانية التي قادها رجال الدين قد أنتجت قيام حكومة أيديولوجية، تم تقييم جميع العلاقات الإنسانية في المجتمع من خلال الثقافة الإسلامية. لهذا الغرض، كان لا بد من فرض رقابة على كل ما يتعارض مع هذه الثقافة الدينية، وحذفه عن أعين الجميع باعتباره خطاً أحمر.

أحد أهم الخطوط الحمراء الرئيسية التي رسمت في الثمانينيات، ولا زالت حتى الآن، هو القضايا الرومانسية وعلاقات الحب بين الفتية والفتيات خارج الحدود التي رسمتها الأحكام الإسلامية، أي الزواج. لهذا السبب، لم تكن هناك علاقات رومانسية في أي فيلم أو رسوم متحركة كانت تستهدف الأطفال. كانت كلمة "صديق" و"صديقة" كلمات مساوية للانحلال الغربي. وطبق هذه الذهنية، كان جميع الفتية والفتيات إما إخوة أو أخوات أو أقرباء أو سيتزوجون قريباً. وكل ما هو عدا ذلك يقطعه مقص المراقب، أو يغيره. وبهذه الطريقة تم حذف تلك الشخصيات والمشاهد، أو قاموا بجعل روابط عائلية لتلك الشخصيات من خلال إعادة كتابة النص أو تعديله قبل ضبط الدبلجة الفارسية. وبهذه الطريقة حُلّلت العلاقات المحرمة، وأخذت مجوّز عرضها للأطفال.

وعلى سبيل المثال لا الحصر، يمكن ذكر مسلسل الرسوم المتحركة جول وجولي الذي كانت شخصيتاه الرئيسيتان عبارة عن فتاة شقراء ذات وجه أوروبي وصبي بوجه صيني. وكانا يملكان قوة خارقة عندما يمسكان بأيدي بعضهما البعض. في الإصدار الفرنسي الأصلي، في منتصف المسلسل، اكتشفا أنهما ليسا شقيقين، ومن ثم نشأت بينهما علاقة رومانسية، لكن ما رآه الأطفال الإيرانيون على شاشة التلفزيون هو حذف هذه العلاقة الرومانسية، وظلوا بفضل الدبلجة أشقاء حتى النهاية. أخ وأخت، أحدهما أشقر والآخر آسيوي العينين.


كانت القواعد الإسلامية للتربية الإيديولوجية للأطفال والمراهقين صارمة لدرجة أن أغاني بعض الرسوم المتحركة كانت تخضع للحذف والتغيير، خاصة إذا كان هناك مطرب يؤدي شارتها. بالإضافة إلى ذلك، تم التلاعب بشارات الأفلام والمسلسلات أو استبدالها بشارات جديدة كلياً حتى لا يتم تحفيز ميول الأطفال الجسدية من قبل المطربات أو الآلات الموسيقية المختلفة! وكلما كان هناك احتمال ولو ضئيل في كون ملابس الشخصيات وخاصة النسائية منها غربية أو مثيرة، تم قصها أو تعديلها.

نهاية القصة

في السنوات اللاحقة، ومع توفر القوى الفنية الملتزمة جنباً إلى جنب مع منتجي أفلام الرسوم المتحركة، تم إطلاق مؤسسة وطنية لإعداد وإنتاج الرسوم المتحركة داخل إيران. كان هدف الحكومة من هذه المؤسسة إنتاج رسوم متحركة محلية تكون أكثر قدرة على مواجهة "الغزو الثقافي" الغربي. لأن كل الجهود التي بذلوها كانت قد فشلت في تحقيق الأهداف التي رموا إلى تحقيقها. كان لا بد أن تكون هذه الإنتاجات قادرة على الصمود أمام الرسوم المتحركة الأمريكية والغربية بتقنيات حاسوبية جديدة ثنائية وثلاثية الأبعاد، وأن تكون أداة فعالة في تعليم الأطفال الهوية الإسلامية. وغالباً ما كانت الأفلام التي تم إنتاجها تستند إلى قصص الأنبياء والأئمة وأصحابهم، إلا أنها لم تلق استحسان الجمهور بشكل عام.

تم التلاعب بشارات الأفلام والمسلسلات أو استبدالها بشارات جديدة كلياً، كي لا يتم تحفيز ميول الأطفال الجسدية من قبل المطربات أو الآلات الموسيقية المختلفة!

اليوم، مع انتشار الإنترنت وسهولة وصول الأطفال والمراهقين إلى هذا الكم الهائل من الرسوم المتحركة والأنيميشن المنتجة في جميع أنحاء العالم، فقدت أداة الرقابة واحتكار الحكومة لعرض أفلام الكرتون فعاليتها. على الرغم من أنها اليوم تحاول من خلال الشعارات الأيديولوجية، وتحت ذريعة معاداة الغرب الحد من الفضاء الافتراضي وشبكات التواصل الاجتماعي.

وبعد مرور 43 عاماً على انتصار الثورة في إيران، بلغ أطفال تلك الحقبة الآن مرحلة الرشد، وأصبح بعضهم آباء أطفال اليوم. آباء وأمهات هم نتاج تعليمي لثورة أيديولوجية، ومن محادثاتهم وتعليقاتهم على شبكات التواصل الاجتماعي، يمكننا أن نفهم أنهم غير راضين أبداً عن الأسلوب الذي اتبع في تربيتهم. أسلوب كان كل شيء فيه إلزامياً، لا يملكون معه حق الاختيار. يعترف البعض بأنهم فرضوا رقابة مستمرة على علاقاتهم الشخصية وأنماط حياتهم، تماماً مثل الرسوم المتحركة الخاضعة للرقابة التي اعتادوا مشاهدتها. وعلى الرغم من توافق ذكرى تلك الرسوم المتحركة مع السنوات المضطربة بعد الثورة والحرب ما زال أكثرهم يشعرون بالنوستالجيا حيالها. 


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image