شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!

"أخشى أن يفارقني أبي قبل احتضانه"... لم يصمت التونسي/ ة عن قول أحبك لأبيه/ ا؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة نحن والطفولة

الجمعة 1 ديسمبر 202310:48 ص

"نْحبَّك بابا"؛ كلمتان لفَظْتُهُما بمرارة وحسرة فانهمر معهما سيل من الدموع كاد يحرق أجفاني.

لقد تأخر الوقت كثيراً، وعجزت عن التعبير عن حبّي لأعظم رجل في حياتي، إلّا حين تلاعب المرض اللعين بذاكرته. ظننت أن زمن الاعتراف قد ولّى، وأنه سيفارق هذه الحياة دون سماع كلمة أحبّك التي كانت تترجمها كل حواسي دون أن ينطق بها لساني. لكن لحسن حظي حدثت المعجزة.

استجاب أبي لنداء روحي وجاءني الرد منه سريعاً: "أحبَّتْكِ الأيام الحلوة. وهل من امرئ لا يحب ضناه؟". لم أصدّق ما حدث، وتمنّيت لو أنه يعيد على مسامعي كلماته التي أثلجت صدري لكنَّه سرعان ما غاب عن وعيه.

وكأنه استجمع ما تبقى من قواه، لكيلا يتعذّب قلبي ولا تشقى روحي بالحسرة على ما فرّطت فيه. أتَرْأَفُ بي يا أبي حتى وأنت على فراش الموت؟ لقد داعبت كلمتَاي وعيه وتمكّن من التّفاعل معي بصدق مشاعره لا بإدراكه. أحاسيس متناقضة تملَّكتني بين سعادة تمكّني أخيراً من ترديد كلمة "أحبك" على مسامعه، وبين حزن يكاد يفطر كبدي. فأبي يُحْتضَر.

كانت علاقتي بأبي متينةً جداً. صحيح أنه كان قليل الكلام لكنه ترجم حنانه في ما يفعله لأجلي وفي محاولته إسعادي ولو كلَّفه ذلك تضحيات جساماً.

لقد تأخر الوقت كثيراً، وعجزت عن التعبير عن حبّي لأعظم رجل في حياتي، إلّا حين تلاعب المرض اللعين بذاكرته

في طفولتي، كنت أتبعه كظله؛ أراقب حركاته وسكناته وكانت كل مواقفه وأفكاره وأفعاله تنال إعجابي حتى أني صرت أقلّده في صمته أيضاً، ولطالما عجزت عن ذلك فثرثرة الأطفال كانت عائقاً كبيراً أمام محاولات المحاكاة التي تتكلّل بالفشل.

لكن هذه الثرثرة لم تكن أبداً مصدر إزعاج بالنسبة له، فقد كان المُنصت الوفي لجميع أفكاري الصبيانية ولم يشعرني قط بسخافة ما أقول.

أخذ الزمن مجراه وكبرت وبقي حبل الود والحب متيناً بيننا، لكن في صمت. فجلّ أفراد العائلات التونسية لا يفصحون عن مشاعرهم، وكأنّ كلمات الحب محرّمة.

في فترة مرضه ثأرت من السائد، وشعرت برغبة جامحة في عناق يدوم لساعات طويلة علّه يترجم حجم الحب الذي أكنّه بداخلي لأبي. كنت مستعدةً لالتهام كل المسافات وكسر جميع الحواجز المقيتة التي تحول دون التعبير عن مشاعري كما أحتاج؛ لكن فور احتضاني لأبي انهرت باكيةً، فالرجل الذي كنت أفتخر بقوته وصلابة جسمه أنهكه المرض وأعياه ونال منه الشيء الكثير.

لم يكن في وسعي تمالك نفسي أو التحكم بمشاعري فآثرت التظاهر بالقوة ورباطة الجأش أمامه لكيلا أحبط عزيمته، وأحطّ من معنويّاته، فعدت إلى نقطة الصفر. أنظر إليه بحب ويداي تعجزان عن أخذه في عناق طويل يخترق أضلعي.

ما يمكنني قوله هو: "لا تحبوا فقط بل عبّروا عن مشاعركم بكل ما أوتيتم من بلاغة واثأروا على السائد.. الفراق ليس بهين والموت لا يستأذن أحداً".

"التعبير الصامت مرده ثقافي"

برغم الروابط الأسرية المتينة التي تجمع بين أفراد العائلات التونسية، خاصةً بين الأبناء والأبوين، فإن التعبير عن مشاعر الود والألفة لم يدخل بعد في ثقافة وتقاليد أغلب التونسيين، ولم يحظَ باهتمام كافٍ من قبل الأسر التي يظل هاجسها الوحيد توفير أفضل ما بإمكانها لتلبية حاجيات أبنائها والسهر على راحتهم خاصةً في ظل الظروف المعيشية الصعبة التي تشهدها البلاد.

يرى المتخصص في علم النفس، عبد الباسط الفقيه، أن التعبير عن الحب في حد ذاته "يدخل في زاوية المحظور والخصوصي جداً، فالابن/ ة يعيش/ تعيش مع والديه/ ا سنوات طويلةً، ولا يسمع كلمات حب منهما، لكنه يفهم ويرى هذا الحب من خلال تصرفاتهما والتضامن في ما بينهم، وهو ما يُعرف بالتعبير الصامت. وليس من يعبر عن الحب هو الأكثر عاطفةً".

يشرح الفقيه في حديثه إلى رصيف22، أن التعبير الصامت عن العواطف مردّه ثقافي فكثيرون يرون أنّ الإفصاح عن مشاعر الحب فيه نوع من "الأنوثة"، و"المبالغة"، و"الزيف"، وأنه هجوم على الخجل السائد، فالمجتمع متعوِّد على الكتمان الشديد والتعبير عن الحب بالتضامن الحقيقي.

التعبير عن مشاعر الود والألفة لم يدخل بعد في ثقافة وتقاليد أغلب التونسيين

ويلفت الخبير النفسي إلى أن "هذا النموذج كان ناجحاً في المجتمعات التقليديّة، والإشكال بدأ منذ ورود نموذج آخر يعبّر فيه الناس عن حبهم، فأصبحنا ننصح الأمهات بتعليم أبنائهم التعبير عن الشكر وعن الحب والمشاعر بصفة عامة".

ويوضح الفقيه، أن تركيبة الشخصية في الثقافة المحافظة هي تركيبة كتومة تكتم المشاعر والتعبير عن الحب، وفي بعض الأماكن الطفل يعيش في عائلة موسّعة فلا يمكن لوالده أن يلمسه أمام جدّه مثلاً، مرجحاً أن هذا نموذج لا يغيب بين ساعة وضحاها لأن عشرين سنةً في عمر الشعوب تُعدّ مدةً وجيزةً جداً، وليس من السهل أن تتغير المعطيات سريعاً.

كما يظهر المتخصص في علم النفس، أن العلاقات السائدة في المجتمع التونسي اليوم محافظة وتقليدية، فيها "نوع من التكتم على المشاعر والإبلاغ بها عبر الموافق والأفعال وليس بالتصريح اللّفظي بالحب".

ويعدّ المتحدث أن "فاقد العاطفة" قد يتأثر جداً "خاصةً مع هشاشة التركيبة النفسية للأبناء اليوم، والتي تأثرت أكثر فأكثر باختلاط النماذج، فلم يعد الطفل أو المراهق يستند إلى النموذج المحافظ الصلب القوي الذي يمكّن أفراد العائلة من العيش في كنف الاحترام دون أي خلافات"، ولا في نموذج لا يجد حرجاً في التعبير عن مشاعره.

"علاقة عملية أكثر منها عاطفية"

في الريف التونسي، حيث تكون أغلب العائلات ممتدّةً، تتكون من أجداد وأبناء وأحفاد وحتى أقرباء كالأخوال والأعمام، ويحتضنها بيت واحد، يُعدّ من "العيب" أن يحمل الوالد ولده أو يحتضنه ويقبّله أمام والديه، فيتعمّد الأب تجاهل وجود أبنائه وعدم التعبير عن مشاعره تجاههم، لكيلا يقع في حرج ولا يخرج عن نطاق السائد والمألوف في "عرشه" أي قبيلته.

في ظل هذا البرود في التعامل مع الأبناء، يجد الأب نفسه مضطراً إلى تبنّي البرود هذا حتى ولو لم يكن مقتنعاً به، لكنه يقيه من الانتقادات الحادة إذا ما حاول التمرد على العرف والتقاليد.

تقول سمية، وهي شابة ثلاثينية، إن علاقتها بوالديها منذ وعت على هذا العالم، عمليّة أكثر منها عاطفية، أي أن معاملاتها معهما غالباً ما ارتبطت بما تحتاجه منهما مادياً، لا أكثر.

وتضيف: "ترعرعت في منطقة ريفية ولم تكن الحياة باليسيرة بالنسبة إلينا، يقضّي والدي كامل اليوم في العمل، سواء في الزراعة في الحقول أو في بيع سلع بسيطة على عربة متنقلة في السوق، ولا يعود إلى المنزل إلّا وقد اختفت الشمس من السماء، مرهقاً مسهداً، بالكاد يلملم الجهد ليتناول عشاءه ويشاهد الأخبار. ولأنه يكون متعباً جداً ينهرنا بصرامة كي لا ينبس أحدنا ببنت شفة، ومن هنا بدأ الجفاء بيننا".

يُعدّ من "العيب" أن يحمل الوالد ولده أو يحتضنه ويقبّله أمام والديه، فيتعمّد الأب تجاهل وجود أبنائه

وتكمل متحدثةً عن علاقتها بوالدها: "لا أتذكّر أنه حضنني أو قبّلني خارج الأعياد والمناسبات ولو لمرّة واحدة، ولَكَمْ تمنّيت لو حصل ذلك معي. اليوم، وقد تجاوزت الثلاثين من عمري، أرى والدي أمامي وأتوق إلى معانقته بشدّة، لكنني أعجز عن ذلك لأنني تطبّعت بطباعه دون رغبة منّي".

تؤكد سمية أن ما تخشاه بشدة هو أن يأتي اليوم الذي يفارقها فيه والدها، وهي لم تُشبع توقها واشتياقها إلى مجرّد احتضان منه، لكنها في الوقت ذاته تعجز عن معانقته فتقول: "لا أجد الكلمات لتفسير هذا الشعور الذي يعتريني، والذي هو أشبه بكمّاشة تعتصر قلبي ولا خلاص لي منها".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel

فلنتشارك في إثراء مسيرة رصيف22

هل ترغب/ ين في:

  • الدخول إلى غرفة عمليّات محرّرينا ومحرراتنا، والاطلاع على ما يدور خلف الستارة؟
  • الاستمتاع بقراءاتٍ لا تشوبها الإعلانات؟
  • حضور ورشات وجلسات نقاش مقالات رصيف22؟
  • الانخراط في مجتمعٍ يشاركك ناسه قيمك ومبادئك؟

إذا أجبت بنعم، فماذا تنتظر/ ين؟

    Website by WhiteBeard