برزت، خلال السنوات الأخيرة، ثقافة إعلاء الجسد وجماله. وازدهرت بفعل التزايد الكبير للمصحّات والمراكز الخاصة بالعمليات التجميلية التي تستقطب عدداً كبيراً من الفئات التونسية الراغبة في خوض غمار تجربة "الطب التجميلي"، برغم الأوضاع الاقتصادية التي تعصف بهم.
استغل الدخلاء على هذا الاختصاص، ظاهرة الهوس بالمظهر الجميل، وباتوا يمارسون أبشع أنواع الغشّ، وقد رافقها قلق من انتشار عمليات التجميل من دون ترخيص. وتطرح هذه الظاهرة أكثر من تساؤل حول دوافع الناس إلى التشبه بغيرهم، برغم أنهم لا يحتاجون إلى التغيير؟ وهل تُغيّر فعلاً هذه الممارسة حياة الأشخاص أم أنها تنقلب إلى معاناة صحية ونفسية؟ وهل هناك أي نية من السلطات المعنية لتنظيم هذا القطاع الذي يُعدّ وجهةً لجذب السياح الأجانب؟
انتهى عصر الجمال الصادق!
يوماً بعد آخر، يكبر المرء سريعاً وتبدأ تجاعيده بالظهور، فتأخذ معها ملامح كانت تسرّ الشخص حين ينظر إلى نفسه في المرآة. لكن انتشار طب التجميل سمح للكثيرين بمحو آثار سنوات كادت أن تُدخل عليهم مشاعر الرهبة من فرضية الشيخوخة المبكرة. ولم تعد العمليات تلك حكراً على الطبقات الاجتماعية ميسورة الحال أو الشخصيات الفنية والمشاهير، بل بات الإقبال على جراحة التجميل والنحت أو الحقن والبوتوكس أسلوب حياة يلجأ إليه الرجال والنساء على حد سواء لمعالجة بعض العاهات الجسدية أو تداعيات التقدّم في السن أو تحسين عيوب خلقية.
يقول سالم مصمودي، لرصيف22: "تجربتي مع طب التجميل كُلّلت بالنجاح، لقد كنت مرتبكاً لتساقط الشعر الذي أصابني بداية الثلاثينات من عمري، وخفت من خسارة الشابة التي ستكون رفيقة دربي. كان الشعر يتساقط من فروة رأسي باستمرار، واعتقدت أنني مصاب بالسرطان، لكن الطبيب طمأنني وأكد أنها حالة وراثية تتطلب نظاماً غذائياً وتدخلاً جراحياً لزراعة الشعر".
تغيب الرقابة على القطاع ولا تقتصر هذه المهنة على الأطباء المعترف بهم فقط في عمادة الأطباء، حتى إن التجميل أصبح اليوم مهنة كل من هبّ ودبّ
منذ أن تحولت جراحة التجميل إلى وسيلة لبلوغ أعلى درجات الرضا الداخلي، أصبحت تونس رائدةً في صناعة الجمال، ومقصداً لأبناء البلدان المجاورة كالجزائر وليبيا، بسبب الإمكانات الجيدة والإطار الطبي الكفؤ والأسعار التي تناسب جميع الفئات والشرائح الاجتماعية، لتحتل بذلك المركز الثاني على مستوى القارة الإفريقية برغم إعلان وزارة المالية في كانون الأوّل/ ديسمبر 2022، رفع نسبة الأداء على القيمة المضافة المستوجبة على طب التجميل وجراحته من غير الأعمال ذات الصبغة العلاجية، من 7 في المئة إلى 19 في المئة.
دكاكين لتشويه الوجوه
حول تأثير هذا رفع الضريبة هذا على جودة الخدمات الطبية، يقول الطبيب الجراح في أحد المصحات الخاصة في تونس العاصمة، إسكندر هنداوي، إن "هذه القيمة المضافة المسلطة حديثاً على مهنتنا لم يكُن لها أي داعٍ لأن الرائي من بعيد يظن أن الطبيب مستفيد من هذه العمليات الباهظة. لكن في حقيقة الأمر يتم توزيعها بين معدات طبية وسيليكون وأطباء التخدير فضلاً عن رواتب الممرضين ومستحقات المصحة وتالياً لن ينوب الطبيب منها إلا الفتات".
يستنكر محدث رصيف22، غياب الرقابة على القطاع وعدم اقتصار هذه المهنة على الأطباء المعترف بهم فقط في عمادة الأطباء، ويقول: "أصبح التجميل اليوم مهنة كل من هبّ ودبّ"، مستشهداً بحادثة مرعبة جرت في تشرين الثاني/ نوفمبر 2022، وراحت ضحيتها فتاة عائدة من أوروبا إلى تونس بغرض الاستقرار والزواج، وقررت إجراء عملية شفط وتجميل في إحدى مصحات المركز العمراني الشمالي (ضواحي العاصمة)، إلا أنها توفيت بعد أيام قليلة بسبب خطأ طبي في أثناء خضوعها للجراحة.
عصر الجمال الصادق قد انتهى؛ يبدو أنها مقولة تحولت بمرور الزمن إلى حقيقة، فقد تولت شركات التجميل سد الفراغ بين الأسنان، ونفخ الصدور والأرداف، وتعلية الكعوب، وإطالة الشعور والرموش والأظافر، ووضع ركبتين من النايلون الطبيعي لتخفيف عيوب الركبتين الطبيعيتين، إذ أصبح من علامات الجمال أن يكون جمال المرأة والرجل معاً مرسوماً ومدروساً صناعياً، كأن هذه حقيقة نهائية في عصر ما بعد الحقيقة!
تقول سهى، صاحبة مركز تجميل في محافظة بن عروس، إحدى كبريات الولايات الواقعة شمال تونس العاصمة، إنها تلقّت دروساً تكوينيةً ودورات تدريبيةً في مركز للطب التجميلي والعناية بالبشرة في فرنسا حصلت إثرها على شهادة تؤكد جدارتها في إجراء تدخلات طبية تجميلية بأسعار مختلفة، مشيرةً إلى أنها تقوم بهذه التدخلات بمبالغ تفوق الألف دينار يومياً (ما يعادل 320 دولاراً)، منها تقنية الماكياج الدائم التي تتراوح بين 400 دينار (131 دولاراً)، كتكلفة للحاجبين، و550 ديناراً (181 دولاراً)، للفيلر لتوريد الشفاه وتحسين شكلها، والبوتوكس لرفع الخدين والتخلص من التجاعيد. وذلك طبعاً من دون الخضوع لأي أداءات ضريبية سنوية، بل بالعكس فإنها تقوم بدفع ضرائب عادية على أساس أن مركزها محل حلاقة.
تفيد صاحبة المركز، رصيف22، بأنها تستقبل عدداً كبيراً من الزبائن، سواء من النساء أو الرجال، الأمر الذي يضطرها في غالبية الأحيان إلى الاستعانة بموظفين يتم انتدابهم عبر منصات ومواقع افتراضية براتب رمزي حسب أيام العمل، مضيفةً أنهم عاطلون عن العمل ولن يجدوا ضالتهم في سوق الشغل التونسية". لكن ما يبعث على الحيرة في أقوال محدثتنا، هي طبيعة الموظفين الواقع انتدابهم: هل هم أخصائيو تجميل أم أناس عاديون لا علاقة لهم بمتطلبات المهنة؟ وهل هم مؤهلون أخلاقياً ومهنياً للائتمان على أرواح بين أيديهم؟ وهل تتم هذه التدخلات التجميلية غير الطبية وفق الدراية والظروف الصحية اللازمة التي تستوجب استخدام معدات من قبيل البنج والإبر ورخص أدوية على أيدي غير المختصين؟
تساؤلات تجنّبت محدثة رصيف22، الغوص في تفاصيلها، وقرّرت إيقاف الحوار متعلّلة باقتراب موعد إحدى الزبائن.
دعوات لتنظيم القطاع... ولا من مجيب
من الخطير أن الطب التجميلي قد تحوّل إلى تجارة نجحت في تعميم نموذج معيّن للجمال الجسدي اتخذته المرأة والرجل كمقياس مثالي للكمال، واستغلته مراكز غير مؤهلة حتى تدرّ أرباحاً وفيرةً مقابل منتجات طبية لا تنطبق عليها المواصفات المحلية والعالمية. ومع هذا تتعالى مطالب الأطباء من أهل الاختصاص -الذين كرّسوا حياتهم لدراسة مهنة الطب والمعترف بهم لدى عمادة الأطباء- وحتى المرضى بإصلاح هذا القطاع وتنظيمه وإخضاعه للرقابة الميدانية والصحية وتسليط عقوبات على المخالفين والدخلاء عليه.
دعا الدكتور هنداوي، في حديثه لرصيف22، إلى ضرورة تنظيم قطاع التجميل وإحداث نظام أساسي ينظم نشاط الكفاءات المهنية لطب التجميل يُعترف بها على الصعيدين الوطني والدولي، مؤكداً على أهمية تسليط عقوبات قانونية على الدخلاء لضمان حقوق أطباء التجميل بمكافحة الممارسة غير القانونية للمهنة في المؤسسات غير الطبية.
ما يثير الاستغراب في الموضوع، هو غياب أي أرقام أو إحصائيات رسمية في أرشيف وزارة الصحة، بالرغم من كون قطاع طبّ التجميل ليس جديداً أو حتى خالياً من المخالفات الطبية
وتشكو عفاف نويري، في حديث إلى رصيف22، وهي إحدى المتضررات من أحد المراكز التي تستند إلى فيسبوك كوسيلة دعائية، قائلةً: "انتهت تجربتي مع حقن الفيلر بمأساة بسبب سيدة ادّعت أنها متخصصة في طب التجميل، وتلقّت دورات تدريبيةً في معاهد أجنبية معترف بها دولياً. كنتُ أرغب في إجراء حقن لشفاهي لمنحها مظهراً أكثر امتلاءً، لكن صاحبة المركز حقنتني بجرعة زائدة تسببت في تورم الشفة العليا وظهور بثور وحكة لا تطاق، فهرعت إلى طبيب جلدي أكد لي أن المستحضر الذي جرى حقنه منتهي الصلاحية وتسبب في طفح فموي".
بينما روت أخرى قصتها المؤلمة مع حقن الوجه بمادة "الفيلر"، حتى انتهى بها الأمر بجروح والتهابات في الوجه كادت تودي بحياتها.
وزارة الصحة نائمة... وجمعيات تتملص من القضية
ما يثير الاستغراب في الموضوع، هو غياب أي أرقام أو إحصائيات رسمية في أرشيف وزارة الصحة، بالرغم من كون قطاع طبّ التجميل ليس جديداً أو حتى خالياً من المخالفات الطبية.
أقرّ مدير التفقدية الطبية في وزارة الصحة الدكتور سامي الرقيق، في حديثه إلى رصيف22، بالفوضى التي يعيشها القطاع، قائلاً إن أعداد الدخلاء الذي يتلقون دورات تدريبيةً محدودةً في معاهد أجنبية يفوق أعداد أطباء الاختصاص المعترف بهم لدى عمادة الأطباء.
وأشار محدثنا إلى غياب الأطر اللوجيستية والتقنية التي تحدّ من أعداد المتطفلين والمراكز غير القانونية التي تعمل في الخفاء ووراء صفحات إلكترونية قابلة للحجب في أي وقت.
عزا الدكتور سامي، عدم إيلاء طب التجميل الأهمية اللازمة، إلى أنه ليس من الاختصاصات الحياتية كطب القلب والشرايين أو الولادة وغيرها، قائلاً إن اهتمامات الوزارة تصبّ في صالح توفير ميزانيات لتغطية النقص الحاصل في أعداد الأطباء في أقسام دون أخرى، في ظل موجة هجرة الأطباء.
تملّصُ وزارة الصحة من تحمّل مسؤولية الأخطاء الطبية الناتجة عن عمليات التجميل لأسباب عدّها البعض غير موزونة ولا مدروسة، ليس سوى قطرة في بحر العقم الرقابي واللا مبالاة والإهمال من قبل الوزارات المعنية وحتى الجمعيات المهنية التي عادةً ما تكون السدّ المنيع أمام محاولات تمييع أصول المهنة والجرّ بها إلى مستنقع الدخلاء. لكن في قضيتنا هذه، تبيّن أن الجمعية التونسية لجراحة التجميل هي الأخرى ليست لها أي جهود أو محاولات أو حتى دراسات لحصر أعداد المراكز الدخيلة على الميدان التجميلي.
وهنا تقول رئيس الجمعية التونسية لجراحة التجميل الدكتورة شيراز بوزغندة، لرصيف22، إن "الجمعية علمية بالأساس وتُعنى بتنظيم المؤتمرات والتدريبات فقط". يأخذنا هذا إلى التساؤل عن المغزى من وراء مؤتمرات علمية غير توعوية لا تتطرق إلى مخاطر الانسياق وراء مراكز تجميل على يد غير المختصين وبلا ترخيص والأهم من هذا كله أن ظروف إجراء هذه التدخلات تفتقر في أغلب الأحيان إلى التعقيم الضروري مما يعرض صحة الزبائن للمخاطر ويعكر وضعهم الصحي والجمالي برغم أن كلفة هذه التدخلات كبيرة.
اضطراب سلوكي أم سعادة خارقة؟
استفادت تونس، برغم الأزمات المتكررة التي يعاني منها القطاع شبه الطبي الذي وفّر للدولة مداخيل تُقدّر بالملايين ليكون الاستثمار في مستحضرات وعمليات التجميل من أكثر أنواع الاقتصاد نجاحاً وتحقيقاً للربح من جهة. لكنه من جهة أخرى، أمسى سبباً غير مباشر في خلق اضطرابات نفسية لدى غالبية المرضى المهووسين بالجمال، وفي هذا الخصوص ترى الخبيرة في صناعة مواد التجميل، مروى بن علي، أن هناك حالات تعاني قلقاً مرضياً ومتواصلاً وتخضع لعمليات متتالية لحلّ مشكلات وهمية راسخة في الذهن فقط، ومن أبرز أسبابها التشبّه بالمشاهير بطريقة عمياء تتوافق مع توجهات عالم الموضة والجمال.
وتضيف بن علي، محدثةً رصيف22، أن الاهتمام بالجمال ازداد مع الانتشار الواسع للإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي التي غرست في أذهان المشاهدين عبر الأفلام والمسلسلات، معايير للجمال صعبة المنال، وبعضها غير قابل للتحقيق، لكن العقل الباطن سلّم بها، وعاملها كمعايير أساسية للجمال.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ 3 ساعات??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 23 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون