جميع نساء العالم في لحظة فراق يتشابهن، إلا في غزّة، فكل امرأة وألف قصّة تخرج لحظة الفراق. فكلمة وداعٍ هي ألف "لا تذهب". برغم الوهن والحزن والقصف والجوع والتنكيل، يجلسن بثقة فيما سيأتي، يذرفن دموع الغربة في ما تبقى من بيوتهن، مثقلات بالأمل، علّ هذه الدموع توقف من يغادر من أبنائهن وبناتهن، إلا أننا نحن الأطفال لا نكترث. هو أيضاً لا يكترث! ابن غزّة سيغادرها هو وقدسيته الذهبية تلتفّ حول رأسه، إيذاناً بالطمأنينة وإيماناً فيما سيلقى. سيلقى آلاف الشهداء في انتظاره. سيلقى حذيفة ومنال وباقي الصغار، واقفين في الباحة الصباحية ليلعبوا سوية، وبراءة الأطفال في حركاتهم تخلو من الدماء.
أيقونة عذراء غزّة للفنانة الأردنية روان الربضي
من مسافتك الخجولة سترى امرأة بربيعها الخمسين، وهي تحمل طفلاً متعباً، أرهقته قساوة الحرب، تجلس بثبات على أريكة حمراء أمام منزلها، كانت فيما مضى تزيّن بها عرينها الذي دمرته آلة الحرب، وكأنها تخفيها وقامتها مشدودة وواثقة.
جميع نساء العالم في لحظة فراق يتشابهن، إلا في غزّة، فكل امرأة وألف قصّة تخرج لحظة الفراق. فكلمة وداعٍ هي ألف "لا تذهب"
ترتدي أجمل ثوب عندها، علّه هكذا يتذكرها عندما يهمّ بالرحيل، وبالرغم من جودة عباءتها السوداء ومتانة الثوب الأصفر أسفلها، وبالرغم من نجمتين هنا وهناك، وبعض اللون الأزرق والأكمام المزركشة، إلا أنه يوحي بقلة حيلتها في هذه الدنيا، فنحن الفقراء دائماً ما نبوح بكل شيء عندما نتزيّن، أليس كذلك؟
اقترب قليلاً، فقصص الحزانى تحتاج منك أن تكون قريباً كي تسمعها، فصوتهم بالكاد يُسمع وضجيج المجنزرات يزمجر. سترى كيف يزيّن الحزن وجهها وهي تعيده الى موطنه بعد أن جرّدته الغربة من جسده، وإذا اقتربت أكثر، فستراها تنقط الدمع بخجل كي لا تشوّه صورة الغياب، وكي لا تحيد قطرة عن وجنتيها، فتسقط كجمرة على كتف حبيبها، فتغرقه بحزن يزيد من حمولته في طريق السفر، وهو طريق طويل.
تلفّ الطفل بيديها الباكيتين، وأصابعها تأخذ لون جسد الطفل، وتخترق عظام قفصه الصدري كحبة اللؤلؤ في موطنها، وكأنهما يعلنان هذا الرابط موطناً فيكتملان. موطني موطني... لكنه سيرحل، وحتى كاتبة اللوحة بدت عاجزة عن إبقائه في أحضان هذه المرأة.
أما هو، كطفلٍ من أطفال مريم المصرية، وبجسده النحيل وجلده الطيني اللون، المشتعل كجسد ناسك يلملم بعضه في أيقونة بيزنطية في كنيسة القديس برفيريوس، يتقدّم ورأسه متدلّ إلى الخلف، وكأن قرار الرحيل لا رجعة فيه. فهذه الانحناءة ما هي إلا دليل على قوة دفعه من قبل المرأة، وكأنها تسلّمه لأحد وهو لا يقاوم، ليس لضعفه، بل لأنه محتّم عليه أن يبتعد عن موطنه، كباقي أطفال العالم الحزانى في هذه الدنيا.
تكاد عظام جسده تتكلم، فهي، وبالرغم من صلابتها، إلا أنها منذ زمن طويل وهي صامتة ومهزومة. لا يغطي جسده إلا قطعة قماش خجولة آثرت ألا تسقط، فتسقط بدورها ورقة التوت أمام مستقبله، هي كل ما تبقى من جسده بعد أن ذاب اللحم وبقي جلده الكئيب يلامس عظامه فيزيد من كآبته.
هذا الحزن سيذهب بلا عودة اليوم، فهناك امرأة قد أجهزت على حزنه، وهي لحظات ويذهب الى مكان لا يكترث فيه لأحزاننا ولا هناك قطع قماش باكية، فالذي سيستقبله سيزيل عن كتفه كل عناء الدنيا، ويأخذ بيديه لوطن يشعر به هذا الطفل أنه ملاك.
هو ملاك ونحن والقذائف قسونا عليه، فأعطيناه جسداً فقيراً، ضعيفاً، شاحباً.
مفارقة ترجمتها كاتبة الأيقونة بعدة أبعاد بصرية، فتارة تصوّر جسد الطفل الواهن كباقي النسّاك في ضعف بدنهم وبتقشفهم الاختياري، وتارة تعطيه قوة الروح المنفصل عن الجسد.
ستجد الحب والشغف والحزن والفقر والقتل والتهجير والقدسية، وحتى الأحلام. ستقرأ اللون ونسيجه وتشتم عبق الخشب المرطب بالبيض، لا بل إذا انتظرت قليلاً ليحل الصمت، قد تسمع صوت أنين الأم في دموعها المتساقطة، وصوت عظام الطفل تتكسّر على ذاتها
في فن الأيقونة بشكل عام، يتم تصوير النسّاك بأسلوب تعبيري، إذ يتم إظهارهم بأجسادٍ نحيلة وقامات رفيعة واهنة، دلالة عن الحياة التي عاشوها بعيداً عن غذاء الجسد، كونهم يؤمنون بما سيؤولون عليه في المجد الآتي، وهذا التصوير لا يقلّل من قوتهم الجسدية، على العكس، بل هو إصرار من كاتب الأيقونة على أن قوتهم وصلابتهم هي امتداد لقوة روحهم وإيمانهم، كمن يقتات بالروح لا بالجسد، وكما هي الحياة في الروح، كذلك هو الموت.
كلما أمعنت النظر فسترى عناصر جديدة وإسقاطات متعمّدة من كاتبة اللوحة. امرأة هي كباقي نساء العالم، تحيا في منفى وهي داخل الوطن، وطفل هو كباقي أطفال العالم، يبكي في غربة وهو بين يدي محبيه.
هكذا نحن الفقراء، نبحث عن الحزن في كل شيء، نجد في ملامح من يشبهوننا أنقى أطياف اللون وأكثرها حزناً، كاتبة هذه اللوحة وجدت ذاتها في كيفية توظيف القدسية الكلاسيكية المتوارثة في الأيقونة في فن الحرب وحقوق الطفل، وكأنها من جهة تمثّل أمومتها بجسد تلك المرأة وملبسها، وأحزانها تعرضها بجسد هذا الطفل وعظامه، وما تبقى من كلمات في صدرها، فاللونان، الأحمر والأسود، كفيلان بالبوح بهم، فتارة تعطي الطفل هالة ذهبية فتزيده واللوحة قدسية، وتارة تزوده بقدم ثالثة تتبعه لموطنه الجديد، كما تبعت يد العذراء الثالثة القديس يوحنا الدمشقي عندما غادر سوريا، فيصبح هذه الطفل معجزة.
ستجد الحب والشغف والحزن والفقر والقتل والتهجير والقدسية، وحتى الأحلام. ستقرأ اللون ونسيجه وتشتمّ عبق الخشب المرطب بالبيض، لا بل إذا انتظرت قليلاً ليحل الصمت من حولك، قد تسمع صوت أنين الأم في دموعها المتساقطة، وصوت عظام الطفل تتكسّر على ذاتها، وإذا كنت من عشاق الألم – كما نحن الفقراء - اقترب قليلاً من تلك المعاني المختبئة في ضربات الفرشاة الرخيصة، أمعن النظر كيف وسمت كاتبة اللوحة وجه المرأة بتقليد شرقي، وكيف أخفت أحد أصابعها وفارقت بين أصابع قدمي الطفل.
كلما أمضيت وقتاً أكثر، ستعرف أن الغربة في ذات الوطن هي حزن لا يشفيه الرحيل.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.