تفاصيل المكان لم يكن تشجّع على الضحك إطلاقاً. رديء الإضاءة وكئيب، ورخامه الرّخِم جعله أكثر برودة من الخارج. كان الدكتور قد قال لنا إن جلسات الإشعاع لابد أن تستمر سبعة أسابيع على الأقل، لكي نضمن عدم عودة الورم اللعين الذي أفلحت الجراحة في استئصاله، وكنا يومها في انتظار الجلسة الأولى، وفي ظل كل ذلك كان غريباً أن تنبعث مني ضحكة.
قطعت أمي تسبيحها وقالت لي بصوت راعت أن يكون خفيضاً: "خير، ما تضحّكنا معاك يا سيدي". وأزعم أنها لولا المكان والظرف لقالت: "ما تضحّكنا معاك يا روح أمك".
فكرت للحظة أن أقول لها ما أضحكني، لكنني شعرت أن ذلك لن يكون لائقاً من فرط تفاهة السبب. في العادة لا أخفي عنها شيئاً، حتى لو كان بهدف الحفاظ على مشاعرها، طبقاً لاتفاق غير مكتوب بيننا يتمثّل قول الحكيم الشعبي: "يا بخت من بكّاني وبكّى الناس عليا ولا ضحّكني وضحّك الناس عليا"، لكنني تذكرت أن معدلات بكائها تضاعفت بعد العملية، وقد كانت أصلاً قبل العملية معدلات أعلى من المتعارف عليه بين الأمهات كثيرات الإنجاب.
قطعت أمي تسبيحها وقالت لي بصوت راعت أن يكون خفيضاً: "خير، ما تضحّكنا معاك يا سيدي". وأزعم أنها لولا المكان والظرف لقالت: "ما تضحّكنا معاك يا روح أمك"
قرّرت أن أكتم سبب ضحكتي منعاً لأي تلكيكة تجعلها تنتحب في المكان وتفرّج علينا الناس، وارتجلت قائلاً: "ما فيش والله.. همّ يضحك وهمّ يبكّي.. أصل كمية الإشعاع اللي هتاخديها كانت مصر أولى بيها الفترة دي"، فابتسمت مجاملة، أو ربما تقديراً للمعنى السياسي الفجّ الذي قلته، برغم تناسبه مع أحوال مصر المهبّبة في تلك الفترة التي سبقت ثورة يناير 2011 بعدة أشهر، والتي تضاعف فيها انقطاع الكهرباء بشكل غير مسبوق وقتها، ولكيلا أتمادى كعادتي، قطمت أمي ابتسامتها ومالت عليّ وقالت: "بلاش هزار الله يكرمك، أحسن حد من القاعدين يسمعنا ونجرح شعوره"، ثم عادت للتسبيح وتركتني قلقاً على جودة ارتجالي في الكذب.
قاعة الانتظار كانت مليئة عن آخرها كشأن كل مكان له علاقة بالطب في مصر، والكراسي المعدنية التي كنا نجلس عليها كانت رديئة بما لا يليق بمستشفى يوصف بأنه استثماري، وبما كنا ندفعه في جلسات الإشعاع يعتبره الملايين ثروة تدعو للحسد أو الأسى على أحوالهم، إلا أن إدارة المستشفى المملوكة لواحد من عتاولة البيزنس الطبي، والمنضم حديثاً إلى ركب السياسة، استخسرت في المتردّدين على المركز "شِلَتاً" تكسو الكراسي المعدنية وتريح مؤخرات المرضى، كأن عذاب المرض ووعثاء مصاريفه لا يكفيان لإقلاق راحتهم، وكعادتها، لم تشاركني أمي انتقادي لحالة الكراسي، لأنني "لا يعجبني العجب" ولأن "كل اللي يجيبه ربنا كويس"، حريصة على رجائي ألا أكتب مقالاً أنتقد فيه أي شيء في المكان، فيسبب ذلك لطبيبها أي حرج أو إزعاج، "وأهوه سبع أسابيع وكل واحد يروح لحاله".
كانت الضحكة التي في غير محلها قد انبعثت مني، بعد أن قرأت رسالة نصّية أرسلها صاحب صيدلية قريب من بيتي، يسأل عن أخبار صحتي، ويعبر عن شعوره بالقلق لأنني لم أعد أتردّد على الصيدلية بانتظام كعادتي، وكان الرجل محقاً في سؤاله غير البريء، فقد كنت من أكثر زبائنه إدراراً للأرباح منذ أن توثقت علاقتي بالصيدليات في السنين الأخيرة.
طيلة عمري وحتى سنوات قليلة مضت، كنت لا أدخل صيدلية إلا للبحث عن "فكّة خمسين جنيه"، أو السؤال عن "أي حاجة توقّف الرشح بس من غير ما تهدّ الجسم"، ثم عندما أصبحت أباً، زاد تردّدي على الصيدليات للبحث عن الألبان الصناعية والبامبرز والمناديل المبللة وأدوية الأطفال الذين لا ينقطع قلقنا عليهم، وبعد أن أصبت بمرض السكّري أصبحت علاقتي بالصيدليات أكثر انتظاماً، فوجدت في الصيدلاني القريب من البيت معيناً على ضرب الحقن اللازمة، لكن يده الثقيلة وجغرافيا صيدليته الضيقة والمفتوحة على الشارع جعلتني أفضل الاستعانة بصيدلية أخرى توصل ضاربي الحقن إلى المنازل مع الأدوية، ولذلك فضّلت أن أقول له إن الله منّ عليّ بالشفاء العاجل وأنني سأعاود زيارته مع أقرب وعكة.
تذكرت الصديقين السينمائيين الذين قرّرا قبل سنوات أن يفتحا صيدلية، "لأن السينما مش مضمونة"، وعرضا عليّ شراكتهما لكنني اعتذرت لأن ما طلباه كان أكثر من طاقة مدخراتي. كان ذلك من حسن حظهما وإلا لكنت قد نَحَلت وَبَر الصيدلية بما سآخذه منها كل أسبوع، وهل يعقل أن ألجأ إلى الغريب ولديّ صيدليتي؟
طيلة عمري، وحتى سنوات قليلة مضت، كنت لا أدخل صيدلية إلا للبحث عن "فكّة خمسين جنيه"، أو السؤال عن "أي حاجة توقّف الرشح بس من غير ما تهدّ الجسم"، ثم عندما أصبحت أباً، زاد تردّدي على الصيدليات للبحث عن الألبان الصناعية والبامبرز والمناديل المبللة وأدوية الأطفال
تساءلت في عقل بالي عما إذا كانت فرصة الشراكة لا تزال متاحة وما إذا كانت ستجعلني أضمن العثور على أي أدوية تنقص في السوق من حين لآخر، ثم تذكرت شكوى الصديقين لفترة طويلة من قلة أرباح الصيدلية وكثرة مشاكلها، والتي ثبت أنها كانت رغبة في خزي العين حين فتحا الفرع الثاني للصيدلية، ويقال إنهما يبحثان هذه الأيام عن مقر لفرع ثالث في محافظة خارج القاهرة، ولا أظن أنهما سيرحّبان في مرحلة صعود كهذه بمدخراتي غير المتناسبة مع أحلامهما التوسعية.
تذكرت شكواي لهما ذات مرة من تجهّم العاملين في الصيدلية التي زرتها بحثاً عن دواء ناقص، فسألني أحدهما بجدية عن المرة التي دخلت فيها إلى صيدلية في عموم أنحاء الجمهورية ورأيت صيدلياً يضحك في وجوه زبائنه، وحين قلت له إنني رأيت صيادلة كثيرين يضحكون في بلاد كثيرة زرتها، أخذا يلعنان اليوم الذي سافرت فيه خارج البلاد، لأعود منهالاً بانتقاداتي على كل شيء يحدث حولي، وأنني بعد أن زادت سفرياتي أصبحت أشبه بشخصية الممثلة هانم محمد، التي كتبتها في فيلم "حرامية في كي جي تو"، والتي لا تكف عن الاستشهاد بما رأته خلال سفرها إلى البحرين، وتتخذه مقياساً للحكم على كل شيء حولها.
بصراحة معهما حق، السفر إلى الخارج غيّر أخلاقي وجرّأني على الشكوى. يعني، هل أنسى أنني قبل عشر سنوات ليس إلا كنت أتمنى أن تكون لدي القدرة على علاج أمي في مستشفى كهذه، أو حتى أقل، بعد أن واجهَت تجربة التعامل مع المرض الخبيث لأول مرة؟ هل أنسى كيف كنت أبكي بدل الدموع دماً وأنا أنتظر استيقاظ أمي لتأخذ جرعة دوائها، جالساً في بلكونة معهد الأورام المقبض، رافعاً من صوت "الووكمان" لكي يعلو على أصوات صراخ المرضى الذين ينادون على الممرضات المنشغلات عنهن بالهيء والميء والدربيء؟
هل أنسى عساكر الحراسة الذين خلعوا الأحزمة وانهالوا ضرباً على المرضى المتدافعين على مدخل المستشفى، وكيف كدت أروح في داهية حين أمسكت بأحدهم من رقبته لأمنعه من ضربي أنا وأمي، وكيف أنقذتني واسطة الفنان الكبير صلاح السعدني، التي سعيت لها لأول مرة في حياتي لأحصل لأمي على موعد مستعجل تجري فيه جراحتها قبل أن يتفاقم وضعها، وكيف رفضت أمي أن تذهب إلى موعدها مع الطبيب لأنها لن تأخذ مكان مريض أحق منها، حتى لو كان فيه موتها، ولم تستجب لتوسلاتي إلا حين اتصل بها الطبيب وأقسم لها بالله العظيم ثلاثة أنه لن يسمح بأن تجور على حق أحد، وأنها يجب أن تجري العملية في أسرع وقت ممكن؟
بالطبع لم أنس كل هذا، لكنه لم يجعلني أتصالح مع الكراسي المعدنية المتهالكة التي لا تليق بمرضى مرهقين، ولا مع بركة الماء القذرة الراكدة أمام مدخل الطوارئ في المستشفى، ولا كومة القاذورات المستقرة بجوار موقف السيارات، ولا التجهّم الذي يتعامل به الأطباء والممرّضون والعاملون مع المرضى وأهاليهم، ولا ساعات الانتظار التي طالت أكثر مما ينبغي، برغم رجائي للدكتور ومساعديه أن يعطينا موعداً محدّداً لأخذ جلسة الإشعاع، لأن بأمي ما يكفيها من ألم وضيق.
ولذلك استأذنت أمي في الخروج للرد على مكالمة هاتفية عاجلة، واتصلت برقم الوجيه الأمثل، مالك المستشفى الذي كنت قد التقيت به قبل سنوات وكان في غاية الود معي، وربما لذلك فضلت المجيئ إلى مستشفاه دون غيره، وحين لم يرد على اتصالي، تركت له رسالة غاضبة كدت ألعن فيها سنسفيله، طالباً منه أن يضع في عينه حصوة ملح، ويضع على كراسي مركز الإشعاع بعض الشِّلت المريحة للمرضى، ويغيّر إضاءة المكان المقبضة، ويسمح بتقديم المشروبات الساخنة للمرضى ولو بمقابل، ويرفع مرتبات العاملين لعل ذلك يقنعهم بتعامل ألطف مع المرضى، ومع أنني لم أكن متأكداً من وصول الرسالة إليه أو من احتفاظه بالرقم، إلا أن فشّ غلّي في الرسالة ساعدني على قضاء المزيد من الوقت الكئيب في انتظار الإشعاع.
هل أنسى كيف كنت أبكي بدل الدموع دماً وأنا أنتظر استيقاظ أمي لتأخذ جرعة دوائها، جالساً في بلكونة معهد الأورام المقبض، رافعاً من صوت "الووكمان" لكي يعلو على أصوات صراخ المرضى الذين ينادون على الممرضات المنشغلات عنهن بالهيء والميء والدربيء؟
حين انتهت جلسة الإشعاع بسلام، مررنا في طريقنا إلى البيت على سور مجرى العيون، فرأينا رجلاً يتبوّل على أحد أركانه في وضح النهار، غير آبه بما حوله من دوشة وزحام، فانبعثت مني ضحكة أعلى، حين تذكرت كيف مررت في نفس الطريق عام 1998، وأنا أركب سيارة بصحبة سيد الكتابة نجيب محفوظ، وسائقه وحارسه، وكان قد عرض عليّ مشكوراً أن يوصلني في طريقه بعد أن حضرت جلسته في أحد فنادق المعادي للمرة الأولى والأخيرة، وحين وقفنا ليلتها في إشارة مجرى العيون المزدحمة، كان هناك رجل يتبوّل على سور المجرى، وكانت الإضاءة الضعيفة في المنطقة قد شجعته على التمهل في تبوله والتعويم فيه، قبل أن يتشجّع أكثر ويقرّر أن يعمل الثقيلة في ركن أكثر عتمة، وكان من حسن الحظ أن ضعف نظر الأستاذ نجيب حماه من رؤية المشهد القميء الذي لم يكن على أية حال سيضيف إليه الجديد عما خبره من عبث مصر.
فوق رأس المتبوّل بالنهار، كان الهواء يؤرجح لافتة قماشية تؤيّد وتبايع أحد مرشحي الحزب الوطني المستعدين لخوض الانتخابات البرلمانية القادمة، التي ستكون من الانتخابات الأكثر فجوراً وتزويراً في تاريخ البلاد حتى حينها، ولم يكن أحد منا، مهما كان استنكاره للمشهد، سيلوم أخانا المتبوّل لو كان قد مد يده إلى اللافتة ومسح بها نفسه، لكنه لم يفعل، وحين استدار بعد أن عمل عملته ورأى العيون المستنكرة المتطلعة إليه، وضع وجهه في الأرض خجلاً وأسرع في مشيته.
حين رأيت الطريق الذي سلكه بعد قضاء حاجته، بدا لي أنه متجه نحو معهد الأورام القريب الذي لا زال كما هو، يكتظّ بالمرضى وأهاليهم الذين تستكثر إدارته عليهم حق التبوّل في دورات مياه نظيفة، فضلاً عن حق انتظار أهاليهم في مكان يحترم إنسانيتهم دون أن يتعرّضوا للتطاول أو الإهانة، ولم تكن لحظة التنوير وما تبعها من ذكريات مناسبة بالمرة لتلقي تلك الرسالة النصّية التي جاءتني من مالك المستشفى الاستثماري الذي يعتذر فيه عن أي تقصير قام به العاملون في المستشفى، ويرجوني أن أبلغ الوالدة اعتذاره الحار إلى أن يلتقي بها في الزيارة القادمة ليعتذر لها بنفسه، ويطمئنني أنه أمر بسرعة وضع شِلَت إسفنجية على أعلى مستوى، لكي تريح الجالسين على الكراسي المعدنية في انتظار الإشعاع.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومينفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومينعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعرائع