شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!

"نواة إسرائيل"... مستوطنات اليهود في فلسطين خلال القرن التاسع عشر

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة نحن والتاريخ نحن والحقيقة

الجمعة 1 ديسمبر 202312:29 م

في منتصف القرن التاسع عشر، انطلقت محاولات عدة لإقامة مستوطنات يهودية في فلسطين، تمهيداً لإقامة دولة لليهود، واستند أصحابها إلى معتقدات توراتية تدور كلها حول ضرورة العودة إلى الأرض الموعودة لتحقيق شرط مجيء المسيح.

ولم تكن لهذه المحاولات أن تنطلق دون منطلقات فكرية مهّدت لذلك، من خلال آراء طرحها عدد من مفكري وحاخامات اليهود في أوروبا. ويذكر مروان فريد جرار، في دراسته "تطور الصهيونية اليهودية من الفكرة إلى الحركة"، أن الحاخام يهودا القلعي كان من أوائل الداعين لبعث فكرة الصهيونية وإقامة الدولة اليهودية، ففي كتابه "اسمعي يا إسرائيل" الصادر عام 1838، حثّ العالم على تحقيق الحلم اليهودي بالرجوع إلى الأرض الموعودة، والبدء بإقامة المستوطنات اليهودية في فلسطين تمهيداً لإقامة دولة لليهود، كما دعا إلى تأسيس جمعية يهودية لإرساء دعائم التنظيم اليهودي الشامل.

ومن الذين تأثروا بأفكار القلعي حاخام ألماني، هو زيفي هيرش كالشير، الذي بدأ نشاطه السياسي مع ظهور الحركة اليهودية الإصلاحية، حيث رفض فكرتها الداعية لاندماج اليهود في المجتمعات الأوروبية والتخلي عن الأطماع اليهودية في فلسطين، وركز في دعوته على أهمية الهجرة إلى فلسطين، لأن الخلاص في رأيه مرتبط بالهجرة التي تسبق مجيء المسيح، لذا حث القيادات اليهودية في ألمانيا وفرنسا على المساهمة في دعم الاستيطان اليهودي في فلسطين.

في منتصف القرن التاسع عشر، انطلقت محاولات عدة لإقامة مستوطنات يهودية في فلسطين، تمهيداً لإقامة دولة لليهود، واستند أصحابها إلى معتقدات توراتية تدور كلها حول ضرورة العودة إلى الأرض الموعودة لتحقيق شرط مجيء المسيح

وفي عام 1862، نشر كاليشر كتاب "البحث عن صهيون"، ودعا فيه إلى تأسيس جمعية لتنظيم اليهود في فلسطين، وتمكّن من تأسيس جمعية استيطان يهودية في فرانكفورت عام 1860، وأخرى في برلين عام 1864، تحت اسم "جمعية استعمار أرض إسرائيل"، ونجح في عام 1866، في التأثير على مجموعة من أثرياء اليهود لاستئجار قطعة أرض قريبة من مدينة يافا، أقام عليها مدرسةً زراعيةً، يروي جرار.

ويُعدّ المفكر اليهودي الألماني موسى هس، أول من صاغ فكرة القومية، ففي عام 1862 أصدر كتابه الشهير بعنوان "بعث إسرائيل"، والذي عُرف في ما بعد باسم "روما والقدس"، ودعا فيه إلى إقامة دولة يهودية، وتأسيس تحالف يهودي فرنسي، وطالب اليهود بالولاء لفرنسا، لأنها ستهبّ لمساعدتهم في تأسيس مستعمرات يهودية تمتد من السويس إلى القدس، ومن ضفاف الأردن إلى شواطئ البحر المتوسط.

أول حي سكني لليهود في القدس

واستناداً إلى هذه المنطلقات الفكرية، كان اليهودي البريطاني الثري موسى مونتفيوري (1784-1885)، من أوائل الذين ساهموا مساهمةً فعالةً في إرساء دعائم الاستيطان اليهودي في فلسطين، حيث زارها سبع مرات، بين سنتي 1827 و1875، للاطلاع على أحوال اليهود ومساعدتهم، حسب ما ذكر صبري جريس، في الجزء الأول من كتابه "تاريخ الصهيونية".

وبالإضافة إلى المساعدات المالية والتبرعات التي كان مونتفيوري يدفعها لليهود، وإقامة المدارس والعيادات والورش لخدمتهم، فقد حاول بطرائق مختلفة أن ينقلهم إلى حياة العمل المُنتج، خصوصاً في الزراعة، ودفعه هذا الوضع إلى التفكير في طلب استئجار نحو 200 قرية في فلسطين مع أراضيها من محمد علي باشا، حاكم البلد حينذاك، لتوطين اليهود فيها، ثم تأسيس شركة تتولى نقل اليهود من أوروبا وتوطينهم في تلك الأراضي، إلا أن كل محاولاته في هذا الاتجاه باءت بالفشل.

وفي زيارته الرابعة لفلسطين سنة 1855، عرّج مونتيفروي على إسطنبول، وقابل السلطان عبد المجيد هناك للمرة الثانية، وحصل منه على فرمان سمح بموجبه بشراء مساحة من الأرض خارج سور مدينة القدس، خُصصت لإقامة مستشفى عليها.

وبناءً على نصيحة وجهاء اليهود في القدس، عدّل مونتفيوري خططه بعد ذلك، إذ اقترحوا عليه إقامة مساكن شعبية على تلك الأرض، بدلاً من إقامة مستشفى، نظراً إلى ازدحام الحي الذي يسكنه اليهود داخل السور، فبوشر ببناء تلك المساكن سنة 1859.

ولما حاولت السلطات العثمانية إيقاف أعمال البناء، لأنها تخالف تعليمات الفرمان الذي منحه السلطان لمونتفيوري، تدخّل القنصل البريطاني في القدس، طالباً العون من حكومته، التي أوعزت إلى سفيرها في إسطنبول بمعالجة المشكلة، فصدر على إثر ذلك أمر يسمح باستمرار البناء، يروي جريس.

وبعمله هذا، وضع مونتفيوري الأسس لأول حي سكني يهودي في فلسطين، وفي القدس بالذات، وعُرف باسم حي "يمين موشي"، وأصبح نواةً للجزء اليهودي من المدينة الذي شُيّد خارج سورها. وبحسب جريس، كان تدخل القنصل البريطاني في هذا الأمر فاتحةً لتدخلات عديدة مماثلة في المستقبل، وإشارة إلى الدور البريطاني الذي قُدّر لبريطانيا أن تلعبه في دعم الكيان الصهيوني في فلسطين وحمايته خلال حكم الانتداب البريطاني.

وجاءت إقامة ذلك الحي بمثابة وضع حجر الأساس لأحياء مماثلة، ولم يأتِ العام 1892 حتى كان اليهود قد أنشأوا ثمانية أحياء سكنية أخرى في الناحية نفسها من المدينة، أقيم جزء منها بمساعدة صندوق مالي باسم "مزكيرت موشي" أو "ذكرى موشي"، الذي أُسس تخليداً لذكرى مونتفيوروي.

أول مدرسة زراعية يهودية

وبالتوازي مع ذلك، أرسلت جمعية الأليانس الفرنسية -والتي كانت مهتمةً بتقديم الخدمات المختلفة لليهود- أحد مؤسسيها، وهو كارل نيطر، إلى فلسطين عام 1868، لدراسة أوضاع اليهود هناك، ووافقت الجمعية على تنفيذ مشروعه، الذي يقوم على إقامة مدرسة زراعية في فلسطين لتعليم أبناء اليهود أصول الزراعة الحديثة، وتوطين أولئك الطلاب بعد تخرّجهم على أراضٍ تشتريها الجمعية لهذه الغاية، يروي جريس.

وأجرت الجمعية اتصالات بالحكومة العثمانية، وتمكنت من الحصول على فرمان من السلطان، بتأجيرها 2،600 دونم (وحدة لقياس الأراضي)، من الأراضي التي كان يفلحها أبناء قرية يازور العربية جنوب شرق يافا، لاستعمالها لأغراض المدرسة، ما دامت قائمةً، وذلك بعد أن أُعفيت الجمعية من دفع رسوم الإيجار للسنوات العشر الأولى.

وفي سنة 1870، افتُتحت على تلك الأرض أول مدرسة زراعية يهودية في فلسطين باسم "مكفيه يسرائيل"، أو "رجاء إسرائيل"، والتي اختير اسمها من التوراة (أيها الرب رجاء إسرائيل كل الذين يتركونك يخزون – آرميا 17: (13. وبحسب جريس، استمرت المدرسة تؤدي مهامها منذ تأسيسها حتى اليوم دون انقطاع، برغم أنها لم تستطع تنفيذ وعودها بتوطين خرّيجيها على أرض تستملكها من أجلهم، فتخرّجت منها خلال هذه الفترة أجيال من العمال الزراعيين المتخصصين، الذين كانوا خير معين للحركة الصهيونية في تنفيذ مشاريعها للاستيطان الزراعي في فلسطين.

وفي سنة 1956، وتقديراً للخدمات التي قدّمتها المدرسة، عقدت حكومة إسرائيل اتفاقاً مع الأليانس، تعهدت بموجبه بتقديم الأراضي وخدمات أخرى للمدرسة، مقابل تعويض رمزي يُدفع للحكومة، وذلك لمدة 99 سنةً أخرى.

أم المستوطنات

ومن بين المحاولات أيضاً، ما قام به النمساوي يوئيل موشي سلومون، الذي تولى رئاسة أول صحيفة عبرية صدرت في القدس عام 1863. ويذكر جريس، أن سلومون تعاون مع اثنين من زملائه وأقاموا جمعيةً ضمت عدداً كبيراً من يهود القدس، بقصد شراء أراضٍ لهم في أي مكان في فلسطين، لتأسيس مستوطنة زراعية.

وتمكن سولومون سنة 1878، من شراء 3،375 دونماً من أراضي قرية "ملبس" الواقعة على بعد نحو 10 كيلومترات شرق يافا، وفي السنة التالية تم استملاك نحو 10 آلاف دونم أخرى قريبة من قطعة الأرض الأولى، يروي جريس.

وتوجه أصحاب الأرض لإقامة مبانٍ على جزء منها، وتأسيس مستوطنة لهم، أطلقوا عليها اسم "بيتح تكفا"، أي "باب الرجاء"، إلا أن معظم المستوطنين اضطروا إلى تركها بعد نحو ثلاث سنوات من تأسيسها، أي عام 1881، بسبب الأمراض التي تفشت بينهم والخسائر التي لحقت بهم، نتيجةً لعدم خبرتهم في الزراعة، فسُلّمت الأراضي إلى مزارعين عرب لفلاحتها.

وبحسب جريس، لم يتجدد الاستيطان في هذه الأراضي إلا بعد قدوم طلائع المهاجرين الصهيونيين من روسيا، فاشترى بعضهم قسماً من أراضيها هناك.

ولما حاولت السلطات العثمانية إيقاف أعمال البناء الجديدة نظراً إلى القيود التي فُرضت آنذاك على دخول اليهود إلى فلسطين واستيطانهم فيها، تدخّل القنصل النمساوي وتمكن من حمل السلطات على التراجع، بعد أن هدد بتدخل بسمارك نفسه في القضية.

ولعبت "بيتح تكفا"، أو "أم المستوطنات" كما عُرفت في ما بعد، دوراً مهماً في بلورة مفاهيم عديدة داخل الكيان الصهيوني، إذ أصبحت محطةً مرور لأبناء الهجرة الثانية الصهيونية (1904-1914)، في طريقهم من روسيا وبولونيا إلى مختلف أنحاء فلسطين.

مشروع لورانس أوليفانت

ومن أهم الشخصيات الأوروبية التي تعاطفت مع مشاريع الاستيطان اليهودي لورانس أوليفانت (1829-1888)، الذي وُلد في جنوب إفريقيا من أبوَين إنجيليين، وخدم فترةً من الزمن في السلك الدبلوماسي البريطاني، وعمل مراسلاً لصحيفة التايمز اللندنية خلال حرب القرم التي دارت رحاها بين عامي 1854-1856، وأصبح عام 1856 عضواً في البرلمان البريطاني.

ويذكر الدكتور أمين محمود عبد الله، في كتابه "مشاريع الاستيطان اليهودي منذ قيام الثورة الفرنسية حتى نهاية الحرب العالمية الأولى"، أن أوليفانت أبدى اهتماماً كبيراً بالمحافظة على سيادة الدولة العثمانية وحمايتها من تهديدات روسيا، وحذّر من وصولها إلى فلسطين التي كانت تشكّل بمركزها الديني والإستراتيجي مصدر إغراء كبير للمطامع التوسعية الروسية.

لذا، دعا أوليفانت إلى تشجيع الاستيطان اليهودي، ليس في فلسطين وحدها فحسب، وإنما أيضاً في الضفة الشرقية للأردن، التي تكاد تكون خاليةً من أي حركات استيطانية، بالإضافة إلى أن أوضاعها الإدارية كانت مضطربةً وغير مستقرة.

وركّز أوليفانت على الفائدة المزدوجة التي كانت ستعود على كل من المستوطنين اليهود والباب العالي، وذكر أن انتقال هؤلاء المستوطنين ليصبحوا رعايا للسلطان سيؤدي إلى تحالف حيوي قائم على خدمة المصالح المتبادلة بين العثمانيين من جهة، والشعب اليهودي من جهة أخرى، ففي مقابل استقرار المستوطنين اليهود في فلسطين والأردن، فإن الدولة العثمانية ستحصل على حليف يتمتع بأهمية بالغة في المجالات المالية والتجارية والسياسية، وسيكون سنداً فعالاً لها في صراعها العسكري في أوروبا وآسيا، داعياً بريطانيا إلى دعم وتأييد مشروعه.

وفي سبيل تنفيذ مشروعه، زار أوليفانت رومانيا عام 1879، واجتمع هناك بعدد من الزعماء اليهود، محاولاً إقناعهم بتأييد مشروعه الاستيطاني، ثم توجّه بعد ذلك إلى الآستانة مزوداً برسائل توصية من بنيامين دزرائيلي، رئيس الوزراء البريطاني نفسه، ومن وزيري خارجية بريطانيا وفرنسا، ونجح هناك في مقابلة السلطان عبد الحميد الثاني، حيث حاول إقناعه بإنشاء شركة استيطان يهودية تعيد اليهود إلى فلسطين وتتمتع بحماية السلطان وبريطانيا.

لعبت "بيتح تكفا"، أو "أم المستوطنات" كما عُرفت في ما بعد، دوراً مهماً في بلورة مفاهيم عديدة داخل الكيان الصهيوني، إذ أصبحت محطةً مرور لأبناء الهجرة الثانية الصهيونية (1904-1914)، في طريقهم من روسيا وبولونيا إلى مختلف أنحاء فلسطين

وأصدر أوليفانت، في عام 1880، كتابه "أرض جلعاد"، الذي ضمّنه آراءه وأفكاره بخصوص مسألة توطين اليهود في فلسطين، ودعا فيه إلى "طرد العرب ليعودوا رعاةً كما كانوا في الواحات الصحراوية، فهم ليسوا بحاجة إلى إبلهم ومواشيهم لتسد أودهم".

أياً كان الأمر، فقد ناقشت السلطات العثمانية طلب أوليفانت، وردّت عليه بالرفض بسبب بعض الصعوبات والمحاذير. ويذكر الدكتور حسين أوزدمير، في كتابه "فلسطين في العهد العثماني"، أن هذا المشروع لفت انتباه الدولة العثمانية إلى أن التوازن السكاني في هذه المنطقة سيتغير لصالح اليهود، وخلّف اعتقاداً سلبياً عن السلطة والإدارة في المنطقة، فبرغم أن الأغلبية العظمى من السكان من المسلمين إلا أن هناك توازناً دقيقاً بين الطوائف الدينية، بالإضافة إلى أن النشاطات التبشيرية ازدادت بمرور الوقت من بداية القرن التاسع عشر، وأنشئت كنائس ومدارس دينية وجمعيات تحت إدارة روسية وبريطانية وفرنسية وألمانية وإيطالية مشتركة.

وبحسب أودزمير، أدرك السلطان عبد الحميد الثاني، أن الإخلال بالتوازن بين الطوائف سيكون له تأثير سلبي على إدارة الدولة العثمانية ووضع القدس، لذلك كان موقفه شديداً تجاه استيطان اليهود في فلسطين في ذلك الوقت، ولهذا أجيب أوليفانت بأن اليهود القادمين من الخارج لن يستوطنوا في فلسطين أبداً، ولن يستطيعوا أيضاً الإقامة في منطقة بلاد الرافدين أو الأناضول أو رومالي (منطقة تمثل الآن عدة دول أوروبية منها اليونان ومقدونيا وألبانيا وصربيا والجبل الأسود وبلغاريا والبوسنة).

وفي نهاية المطاف، استقر أوليفانت في فلسطين، حيث عاش في حيفا وكان برفقته مساعده اليهودي نافتالي هير زامبير، مؤلف نشيد "هاتكفا"، أو "الأمل"، الذي احتل مكانةً خاصةً في نفوس الصهاينة، وأصبح نشيدهم الوطني (ثم الإسرائيلي) في ما بعد. وبقي أوليفانت في حيفا حتى توفي هناك عام 1888. 


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel
Website by WhiteBeard
Popup Image