تابعت مقطع الفيديو الذي يوثق لحظة إعدام الرئيس الأسبق صدام حسين، مرات كثيرة، وفي كل مرة كانت تبهرني ثقته ببطولته وإحساسه بالظلم. لذلك كثيراً ما راودتني فكرة جلوس صدام على كرسي العيادة النفسية، مسترخياً وهادئاً، وبجانبه يجلس طبيب نفسي، يطلب منه إطلاق العنان لأفكاره، لذكرياته، لأحلامه، لدوافعه ورغباته، فهل سيحكي صدام (أو عشرات آخرين من الطغاة الوطنيين، ممن لا أجرؤ على ذكر أسمائهم) القصة كما نراها نحن أم كما يراها هو؟ وهل سيعترف بأنه تسبب بقتل الآلاف وشرّع الاعتداء على الأحلام، وجعل من الأقفاص عالماً لمن فكروا يوماً بالطيران؟
ببساطة، هل أدرك صدام يوماً أنه كان شريراً، والأهم من هذا كله: هل كان فعلاً شريراً؟ وفي سياق منفصل تماماً أو ربما متصل تماماً، هل أدركت المعلمة التي كانت تعاقبنا بكتابة كلمة "كسول" ولصقها على ظهورنا في حال نسينا الوظيفة، أننا كنا نعتبرها أكثر الكائنات شرّاً على الإطلاق، أم أنها تظن حتى الآن أنها كانت تفعل ما تفعله من أجلنا، نصرة للعلم وطرداً للجهل؟
هل يكفي أن يقوم الإنسان بأفعال سيئة لنحكم عليه بأنه شرير، وهل يمكننا أن نتجاهل بالفعل شعور الشخص ذاته نحو ما يقوم به، ودوافعه لذلك؟
توصل تيري أيغلتون في كتابه "عن الشر"، إلى أنّ جميع الأشرار أبرياء. فهم يؤدون أدوارهم فقط في هذا العالم المشوش وغير الواضح. الشر موازٍ للخير، وربما هما وجها العملة الواحدة، الاختلاف موجود، لكنه في الشكل وليس في الأثر، في النظرة وليس في المعنى.
حتى هتلر نفسه، هناك من أحبه حتى الموت، بالمعنى الحرفي للكلمة، واعتقدوا أنه رجل لا يتكرّر، فقد أقدمت إحدى العاملات معه على الانتحار، بعد أن وضعت السم في طعام أطفالها، ليموتوا جميعاً ولا يشهدوا نهايته.
هل سيحكي صدام (أو عشرات آخرين من الطغاة الوطنيين، ممن لا أجرؤ على ذكر أسمائهم) القصة كما نراها نحن أم كما يراها هو؟ وهل سيعترف بأنه تسبب بقتل الآلاف وشرّع الاعتداء على الأحلام، وجعل من الأقفاص عالماً لمن فكروا يوماً بالطيران؟
الشر فكرة تنمو
قرأت مرة مدونة لأم تقول ببساطة: "أطفالي أشرار، الشرّ موجود منذ البداية، وأنا مهمتي أن أهذبه". سيجد الكثيرون عبارة "أطفالي أشرار" ثقيلة، فالطفولة في العالم المثالي الذي اخترعه البشر مرادفة للبراءة، ومن الصعب الاعتراف بأن الشرّ موجود أيضاً في عالم الأطفال، وأن هذا الشرّ هو النسخة الأولى للرغبة الفطرية للشرّ الموجودة في البشر منذ البداية، والمادة الخام للوحشية. جرّب أن تسأل طفلك عن طفل آخر، هل سيرى عضه له، أو سرقته لدميته، أو ركله على رجله، أو وضعه القلم في عينه، براءة، أم أنه ببساطة يراه وحشاً مخيفاً سيخافه دائماً إن لم يتصدى له، ويعضّه ويركله ويضع القلم في عينه.
الكثير من الدراسات حاولت في الحقيقة إثبات الميل الفطري للخير لدى الأطفال في عمر مبكر، ففي إحدى برامج "العالم المثير للأطفال الرضع" الذي عرض على بي بي سي، عرضت دراسة تظهر ميل أطفال دون السنة لاختيار الشخصية الخيرة والمساعدة وتفضيلها على الشريرة، وتم اعتبار هذا ميلاً فطرياً للخير، رغم أن هذا الميل الفطري للخير يظهر ميلاً فطرياً لأشياء أخرى، كالحاجة للحب والأمان، والبحث عن المصلحة الذي غالباً ما يتحكم بخياراتنا.
"الشر صورة غير حقيقية نفرضها على الخصم"
في أي مشكلة، صغيرة كانت أم كبيرة، هناك فريقان، كل فريق سيرى الخصم شريراً، أو على أقل تقدير سيراه مخطئاً، سيفرض صورة متخيلة عنه وسيعتبرها حقيقة مطلقة، ومن يمتلك جمهوراً أكبر سيفرض نظرته، ابتداءً من مشجعي كرة القدم وانتهاءً بجيوش العالم.
استُخدِم يهوذا كمثال عن الشر دائماً، لكن حتى يهوذا نفسه، ليس إلا أحد ضحايا الحبكة الدرامية السيئة للقصص الدينية، فكل حكاية دينية تحتاج شريراً لتنجح، وتصبح أكثر انتشاراً، لذلك لم نسمع شيئاً عن حياة يهوذا قبل الخيانة، ولا عن تاريخ حياته الحافل بالظلم والمآسي، ولا عن فقره أو طفولته البائسة، ولا حتى عن المبررات التي دفعته لتسليم المسيح. ولأن الأحداث منذ البداية لم تحكمها حبكة محكمة، أنهى يهوذا حياته انتحاراً ليعاقب نفسه على خيانته.
على عكس الحبكات الإنسانية، لا أتذكر أني شاهدت من قبل فيلماً سينمائياً أو مسلسلاً تلفزيونياً، إلا وحاول الكاتب، بشكل مباشر أو غير مباشر، تبرير الشر لنا، وكأننا جميعاً مقتنعون بفكرة أن لا إنسان سيئ، أو على الأقل يولد الإنسان وفي داخله السواد والبياض، وهو بذلك يصبح نتاجاً لمجموعة من الظروف والعوامل التي إذا اجتمعت ستخلق شخصاً شريراً. عن نفسي شخصياً، كنت لفترة طويلة من الزمن أعتمد على تصنيفات المجتمع. أكره من تكرهه أمي، وأحب من تحبه، دون أن أدرك وقتها أن تصنيف البشر من الأساس سيكون بنظري أكثر الأفعال شرّاً على الإطلاق.
كنت في العشرين ربما عندما شاهدت المسلسل السوري "على حافة الهاوية"، جسد حسن عويتي في المسلسل شخصية الرجل الشرير، القاسي والظالم والعنيف. لعب باسل خياط في المسلسل شخصية منصور، الولد المهزوز المكسور الضعيف بسبب ظلم والده، هذا الظلم الأبوي الذي ظهر على شكل تأتأة منعت شاباً في بداية العشرينات من الحديث بحرية، ومن عيش حياته، لأنه حتى ذلك الوقت، كان يتلقى شتائم وضرب والده بصمت.
وفجأة يقلب الكاتب الطاولة على رؤوس المشاهدين، عندما يتضح لنا أن الأب لم يكن أكثر من كائن بائس، هشّ وضعيف، أمام الحب الذي قدمه ابنه له من خلال كتابة مذكرات غير حقيقية، يحكي فيها الابن عكس مشاعره، فتراه يحول كل غضب وحقد يشعر به تجاه والده، إلى إدراك وفهم وتقبّل لخوف والده. الأب الذي اعتاد تفتيش أشياء ابنه الخاصة، قرأ المذكرات، تفاجأ بالحب، فانكمش على ذاته القديمة وأخرج من نفسه شخصاً آخر، ربما هو نفسه لم يدرك وجوده، شخصاً يحتاج حباً فقط.
"كان هناك رجلان محجوزان في غرفة في مصحّة للمرضى النفسيين، وفي إحدى الليالي حاولا الهرب لأنهما لا يحبان المكان، فصعدا إلى السطح. كانت هناك فجوة ضيقة وعليهما القفز ليصلا إلى الحرية. الأول قفز دون تردد، الثاني كان خائفاً، حاول الآخر تشجيعه بالمصباح الذي يمتلكه، مؤكداً له أن سيضيئ له الطريق وكل ما عليه هو فقط أن يتبع الشعاع، فردّ الرجل الخائف: بالتأكيد ستطفئه وأنا في منتصف الطريق".
هذه هي النكتة التي ردّ بها الجوكر على باتمان بعد أن حاول الأخير مساعدته ورفض قتله، بعد أن قال له: "لا أدري ما الذي مررت به حتى صرت هكذا".
ما نسميهم أشراراً، لم يأخذوا فرصتهم ليكونوا أخياراً. ربما.
"من يمتلك الفأس سيقطع الرقاب". هذه العبارة الحاسمة التي قالتها فلة العنابية، إحدى بطلات رواية "وليمة لأعشاب البحر" لحيدر حيدر، تجعلنا نفكر لبرهة: هل يمكن أن نطلق صفة الخير على كل من لا يرتكب الأخطاء، أم أننا يجب أن نضع فأساً في يدهم أولاً لنحكم؟
قبل الشر بخطوة
تحدث أدلر عن حافز مهم هو توكيد الذات، مشيراً إلى أن الحقيقة الأساسية الواضحة في أغلب الأمراض النفسية هي شعور الإنسان بأنه كائن ناقص، وهذا الشعور هو دافع الإنسان الأول للتفوّق، وتلك الرغبة في التفوّق هي المحفّز الأول لأفعال الإنسان. إذن، رغبتنا الأساسية في التفوّق نابعة أساساً من إحساس عميق بالنقص وعدم الكفاءة، فتخيّل حجم الشرّ القادرين على افتعاله في سبيل بحثنا عن الكمال.
"من يمتلك الفأس سيقطع الرقاب". هذه العبارة الحاسمة التي قالتها فلة العنابية، إحدى بطلات رواية "وليمة لأعشاب البحر" لحيدر حيدر، تجعلنا نفكر لبرهة: هل يمكن أن نطلق صفة الخير على كل من لا يرتكب الأخطاء، أم أننا يجب أن نضع فأساً في يدهم أولاً لنحكم؟
منذ زمن قرأت جملة لأحد الفلاسفة، ولا أتذكر اسمه، لكنه يقول بما معناه إن الحكم على شخص ما بأنه خيّر لمجرد أنه لا يرتكب أفعالاً شريرة هو ساذج جداً، والحكم يجب أن يكون فعلاً بعد أن يمتلك الشخص إمكانية فعل الشرّ، ثم يتمنّع عن فعله. في رواية "الساعة الخامسة والعشرون" نرى بوضوح كيف كان الجميع أشراراً دون استثناء، وكيف تبدّل دور المجرم والضحية مرات ومرات.
في أحد مشاهد فيلم "ANOTHER ROUND" يطلب أستاذ التاريخ من الطلاب اختيار مرشح من بين ثلاثة، الأول لديه شلل جزئي، كاذب، يستشير علماء الفلك في سياسته، يخون زوجته، يدخّن، يشرب كميات كبيرة من المارتيني، المرشح الثاني: خسر ثلاثة انتخابات، مكتئب، يدخّن السيجار دون توقف، مدمن كحول. المرشح الثالث: بطل حرب، يقدّر المرأة، لا يدخّن، لا يشرب.
صوّت الجميع للثالث، ليخبرهم المدرس أنهم للتو تجاهلوا: فرانكلين دي رزفلت، ونستون تشرشل، واختاروا هتلر.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.