رحل عن عالمنا رائد أدب الأطفال في مصر يعقوب الشاروني يوم الخميس 23 تشرين الثاني/نوفمبر 2023. وبرغم خسارة أدب الأطفال برحيل هذا الرائد الذي ساهم في بناء وعي وإثراء خيال أجيال عديدة، إلا أن عزاء محبيه من الأطفال والكبار هو ما تركه من تراث ضخم من كتاباته الرائعة التي نالت مكانة كبيرة ليس على المستوى العربي فقط، بل على المستوى العالمي؛ فقد حاز الشاروني جائزة أحسن كتاب في أدب الطفل في معرض بولونيا للكتاب سنة 2002. في هذه المقال نغوص في عالم الشاروني لإبراز إسهام منجزه الكبير في عالم الكتابة للطفل في مصر.
قاضٍ يكتب للأطفال
وُلد يعقوب الشاروني في 10 شباط/فبراير 1931 لأسرة محبة للثقافة والكتب لديها مكتبة منزلية في حي مصر القديمة بالقاهرة. درس الشاروني القانون والاقتصاد والتحق بعد تخرجه سنة 1952 ليعمل في هيئة قضايا الدولة وتدرج في مناصب سلك القضاء، حتى وصل إلى منصب نائب (رئيس محكمة) بهيئة قضايا الدولة.
برغم خسارة أدب الأطفال برحيل هذا الرائد الذي ساهم في بناء وعي وإثراء خيال أجيال عديدة، إلا أن عزاء محبيه من الأطفال والكبار هو ما تركه من تراث ضخم من كتاباته الرائعة التي نالت مكانة كبيرة ليس على المستوى العربي فقط بل على المستوى العالمي
وبرغم هذه المكانة الكبيرة إلا أن شغفه الأدبي والثقافي أخذه في اتجاه آخر؛ فقد ترك القضاء سنة 1967، وانتُدب بعدها ليعمل مديراً عاماً لهيئة قصور الثقافة ومشرفاً على مديرية الثقافة بمحافظة بني سويف، وذلك بعد أن قدَّم ثروت عكاشة، وزير الثقافة آنذاك، طلباً ليتم انتدابه من القضاء إلى وزارة الثقافة. ونال الشاروني جائزتين في الكتابة المسرحية سنة 1960 و1961، وكرَّمه الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر. وتخصص الشاروني في وزارة الثقافة في فرع ثقافة الطفل، واتجه بعدها بكليته للكتابة للأطفال.
عبد الناصر يكرمه ويقدمه للعالم
كان قد اقترح الرئيس المصري الأسبق جمال عبد الناصر أن تكون جائزة المجلس الأعلى للفنون والآداب بوزارة الثقافة المصرية في مجال الأدب عن أبطال من تاريخ مصر لتخليد أعمال مصر العظيمة في أعمال أدبية. وفي هذه المسابقة حصد الشاروني الجائزة الأولى عن روايته المسرحية "أبطال بلدنا" التي تحكي عن انتصار المصريين في الحملة الصليبية السابعة بقيادة لويس التاسع على مصر، والتي انتهت بهزيمة الصليبيين وأسر لويس التاسع في دار بن لقمان بالمنصورة.
وكرَّمَ عبد الناصر شخصياً الفائزين في هذه المسابقة. ويحكي الشاروني في حوار تلفزيوني على قناة الناس عن تأثير هذا التكريم في وجدانه ودفعه لأن يكرِّس حياته للإبداع الأدبي، إذ وجد الاطمئنان الكافي بأن حياته ستكون آمنة لأنه في دولة تهتم بالأدب والأدباء وقتها. وأوضح الشاروني في هذا اللقاء اهتمام عبد الناصر بالأدباء والحفاوة الشديدة بالفائزين في هذه المسابقة، لدرجة أن عبد الناصر قد قدمهم وتأخر هو ليدع لهم المجال ليلقوا كلمة في حفل التكريم.
أفضل كاتب وأفضل قصة محلياً ودولياً
بلغ عدد الكتب التي ألَّفها الشاروني للأطفال 400 كتاباً، بالإضافة إلى عشرات الدراسات حول أدب الطفل. وتقديراً لعظمة كتاباته، مُنح عدة جوائز؛ ففي سنة 1991 اختار مهرجان "القراءة للجميع" في السويس يعقوبَ الشاروني كأحسن كاتب للأطفال. وفي سنة 2002 حصل على جائزة أفضل مؤلِّف لأدب الطفل عن كتابه "أجمل الحكايات الشعبية"، وفي نفس السنة حصل على جائزة أفضل كتاب في أدب الطفل في معرض بولونيا، وهذه الجائزة من النقاط البارزة في مسيرة الشاروني، لأنَّ معرض بولونيا يعتبر من أهم معارض كتب الأطفال في العالم.
وحصل الشاروني سنة 2015 على مرتبة الشرف من المجلس العالمي لكتب الأطفال بسويسرا بوسمه من أفضل من يكتبون للأطفال في العالم، وذلك تكريماً له عن روايته "ليلة النار" التي صدرت في القاهرة عن دار نهضة مصر.
من السمات المميزة لأدب الشاروني للأطفال اهتمامه بالحكاية الشعبية. يقول كاتب الأطفال هيثم السيد لرصيف22 إن الشاروني كان من القليلين الذين اهتموا بهذه الناحية، فكتابه "أجمل الحكايات الشعبية" يعتبر من أهم ما كتب. ويوضح السيد أنَّ الحكايات الشعبية للأطفال في مصر وفي كل دول العالم هي حكايات ثرية وممتعة جداً، والحبكات فيها متنوعة ومختلفة، وقد أبدع الشاروني جداً في هذا النمط الذي شكَّل جزءاً مهماً من حياته الأدبية.
مكتبة خضراء يانعة
تعتبر سلسلة المكتبة الخضراء ليعقوب الشاروني من أهم سلاسل أدب الأطفال الشهيرة التي تربت عليها أجيال. تصدر هذه السلسلة عن دار المعارف في القاهرة، وتحتوي على عدة عناوين مميزة وجذابة؛ نذكر من هذه العناوين "الصياد المسكين والمارد اللعين" و"بدر البدور والحصان المسحور" و"طيور الأحلام" و"مغامرة زهرة مع الشجرة" و"دنانير لبلبة" و"سلطان ليوم واحد" و"الكسلان وتاج السلطان" و"ثروة تحت الأرض" و"خاتم السلطان" و"نهر الذهب" و"الشاطر المحظوظ" و"تائه في القناة" و"حسناء والثعبان الملكي" و"الصياد ودينار السلطان" و"عفاريت نصف الليل".
وتتميَّز أغلفة كتب هذه السلسلة بإطار أخضر يحوي رسوماً تلفت انتباه الأطفال وتجذبهم إلى القصة. يقول كاتب الأطفال هيثم السيد لرصيف22 إنَّ سلسلة المكتبة الخضراء هي من أهم ما كتب يعقوب الشاروني؛ ففيها يمرر الشاروني في الحكايات قيماً وأخلاقيات وأسساً تربوية مهمة جداً ببساطة وعبقرية. ويبين هيثم السيد أنَّ تقنيات الكتابة التي يمارسها كتاب الأطفال هذه الأيام ربما تمنعهم من الوصول إلى هذا المستوى من البساطة التي كان يقدم بها الشاروني قصصَه بشكل تلقائي جداً وبعفوية شديدة كأنه يفعل ذلك بالفطرة كما يقال.
الأمير الجبان والمرأة الشجاعة
يُحَفِّز الشاروني في أدبه الأطفالَ على الشجاعة والإقدام والاشتباك مع مشكلات الحياة وحلّها. ويركز تحديداً على إبراز قيمة المرأة في المجتمع وقدرتها على أن تتولى أصعب المهام التي قد يحجم عنها الرجال. ففي قصة "الأمير الجبان" والتي تقع ضمن كتابه "أجمل الحكايات الشعبية" يحكي الشاروني قصة أمير مصاب بمرض الخوف الذي يضطره إلى الهروب من مملكة أبيه.
تقع الأميرة ابنة الملك في المملكة الأخرى التي هرب إليها في غرامه لوسامته وقوته. تُسانده هذه الأميرة حتى يتغلب في النهاية على خوفه، ويصير شجاعاً مِقداماً لدرجة أنها كانت تخوض المعارك مكانه، وذات مرة دفعته ليخوض المعركة، فاكتشف ما لديه من قوة كان لا يدري بها. وفي هذه القصة يبرز الشاروني للأطفال الدور العظيم للمرأة.
بحث عن الجمال وتربية إنسانية واجتماعية للطفل
تقول هبة محمد عبد الفتاح في كتابها "تجليات القص في أدب الأطفال عند يعقوب الشاروني" الصادر عن المركز القومي لثقافة الطفل: "الشاروني يسعى دوماً إلى أن يوصل رسالة لصغاره من خلال أدبه الذي يتشكل من عصارة تأملاته المستمرة، وخلاصة جهوده المتواصلة للبحث عن الجمال في القيمة والفعل والسلوك أو المعلومة المناسبة للطفل، ثم العمل على تقديمها له بشكل أدبي مبسط وواضح، دون الإغراق في الرمزية الغامضة أو الاقتراب من المباشرة الفجة". وتضيف عبد الفتاح: "لقد قال لي في أحد اللقاءات إن كل معلومة يسعى لجمعها واقتنائها من مصدرها إنما هي بمثابة حبة سكر التي تلتقي مع غيرها من الحبات في حركة تواصلية توحدية لتصنع معاً خيطاً متماسكاً من السكر البلوري الشفاف".
وتوضح عبد الفتاح أن "حكاياته التي يقدمها للأطفال، هي خلاصة صافية لكل ما هو جميل ومفيد، رسائل محملة بعناصر الحب والسلام وقيم التسامح والوئام ودعوات الخير التي لا تنتهي بنهاية الحكايات، بل تبقى آثارها خالدة مع الزمن حية باقية في وجدان كل طفل".
وسعى الشاروني من خلال القصص التي قدمها للأطفال على تنمية فكرة العمل الجماعي وتعزيز روح التعاون وتحمل المسؤولية والتصدي للفساد؛ ففي قصة "زهرة مع الشجرة" قام مجموعة من تلاميذ بقيادة فتاة تُدعى "زهرة" بالالتفاف حول شجرة كافور أمام مدرستهم، ومنع من كانوا يحاولون قطعها دون مبرر، وهو ما اعتبره الأطفال جريمة قتل بشعة للشجرة التي عاشت أمام مدرستهم ثلاثين عاماً. في هذه القصة تشتكي الشجرة من الجور والطغيان: "أرادوا قتلي كما كانوا يقتلون المحكوم عليهم بالإعدام منذ بضع مئات السنين، مستخدمين طرقاً بشعة عندما كانوا يقسمونهم من وسطهم بالمنشار، وهو ما سمعته يوماً من رجلين جلسا تحتي يستمتعان بظلي".
تبث هذه القصة في نفوس الأطفال معاني الحب والوفاء لشجرة أحبوها، ولمَ لا وقد منحتهم ظلها وهواءَها المنعش عندما كانوا يلعبون بجوارها أمام مدرستهم؟ فردوا لها الجميل بالتصدي لمن حاول الجور عليها.
ليس موهوباً فذاً فقط، بل صانعاً للمواهب
وفي حديثه لرصيف22 يؤكد هيثم السيد أنَّ الشاروني لم يكن كاتباً موهوباً يمارس الكتابة فحسب، بل كان مهتماً بالمبدعين الصاعدين. يتابع السيد: كان الشاروني قريباً من كُتَّاب الأطفال يعلمهم وينقل لهم خبراته وكان بيته ومكتبه مفتوحين لكل من يريد التواصل معه. كان يرحب بالناس ويرد على مكالماتهم الهاتفية ورسائلهم بكل سهولة.
ويضيف كاتب الأطفال هيثم السيد: "هناك تجارب كثيرة لكتاب تتلمذوا على يديه، وكان يقرأ أعمالهم وينصحهم ويُعدِّل لهم في كتاباتهم ويوجههم إلى دور النشر المناسبة لأعمالهم. ولم يكن اهتمام الشاروني بالمبدعين فقط، بل اهتمَّ أيضاً بالأكاديميين الذين تخصصوا في أدب الطفل. فقد ناقش الشاروني العديد من طلاب الدراسات العليا وساعد الكثير منهم في الحصول على الماجستير والدكتوراه في أدب الطفل، بناءً على توجيهاته والمناطق البحثية التي كان يوجههم إليها".
مواهب وإنجازات أخرى
كتب يعقوب الشاروني للتلفزيون أيضاً، وهو ما لا يستطيعه كثيرٌ من الكُتَّاب؛ فليس سهلاً أنَّ يغيِّر الكاتب جلده من الكتابة النصية الورقية إلى كتابة ستُشاهد على الشاشة، ولكن الشاروني استطاع ذلك وكتب للتلفزيون في نهاية السبعينيات وفي الثمانينيات وفقاً لهيثم السيد. وأوضح السيد أيضاً أنَّ الشاروني كان ناجحاً إدارياً أيضاً؛ فقد عمل مستشاراً لمكتبات جمعية الرعاية المتكاملة التي كانت نشطة أيام سوزان مبارك، زوجة الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك.
مسيرة طويلة ثرية
يؤكد هيثم السيد كاتب الأطفال في تصريحه لرصيف22 بأن حياة يعقوب الشاروني المديدة مكَّنته من أن يُعاصر فترات مختلفة وتعاقب أجيال مختلفة، وهذا ما يتيح للكاتب أن يشهد التغير في سمات البشر وسمات الحياة، وهذا ما أتاح للشاروني أن يرى أنماطاً مختلفة من الصغار، وأنواعاً من المؤثرات التي لعبت دوراً في حياتهم وأثَّرت في تفكيرهم. وهذا بالطبع قد انعكس على إنتاجه المتنوع الثري.
وفي النهاية رحل يعقوب الشاروني لكن ما تركه من تراث عظيم وقصة كفاح ملهمة يقيناً سيخلد ذكراه بيننا ولعل في ذلك عزاءً لمحبيه كباراً وصغاراً.
في تصريح لرصيف22 يُسلِّط إبراهيم فوزي، مدرس الأدب الإنكليزي بكلية الآداب بجامعة الفيوم، الضوءَ على لحظة وداع الشاروني: "أحس الشاروني أنه أدّى رسالته؛ فرحل عن عالمنا بعد عمر من الإمتاع الأدبي، قضاه غوَّاصاً في أعماق كنوز تراثنا الشعبي، ممسكًا بتلابيب الحكاية، نافضاً عنها غبار النسيان، بعد أن أعاد بناءها من جديد، فاحتفظ بملامحها وروحها، لكنَّه ألبسها ثوباً عصرياً يفيض بالدهشة".
وتابع فوزي: "لقد حقق أسلوب الشاروني -عميد كتّاب أدب الطفل في العالم العربي- آفاقاً بعيدة المدى من خلال حواديت جذابة يتصل مضمونها بالمواقف الحياتية المعاصرة، التي تعيشها الأسرة المصرية والعربية، وتتَّسق لغتها مع الطفل؛ فتشكِّل وجدانه وتحفِّزه على التفكير من أجل تغيير الواقع". وأكد على أنه "وإن كان قد رحل عنّا جسداً، فإن روحه التي تمور في حكاياته التي تركها لنا لا يزال يتردد صداها ما حيينا، فلقد ترك لنا الشاروني إرثاً كبيراً تزخر به مكتبة الطفل في العالم العربي، مُثرياً المكتبة العربية بالكثير من الأعمال التي تُعبِّر عن الأصالة والهوية المصرية".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Mohammed Liswi -
منذ يومأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.
Eslam Abuelgasim (اسلام ابوالقاسم) -
منذ يومحمدالله على السلامة يا أستاذة
سلامة قلبك ❤️ و سلامة معدتك
و سلامك الداخلي ??
مستخدم مجهول -
منذ 3 أياممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ 4 أيامفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ 4 أيامعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ 5 أيامtester.whitebeard@gmail.com