محمود مرسي واحد من أهم الممثلين في تاريخ السينما المصرية، قدم العديد من الأدوار متعددة الملامح والصفات، وتم التطرّق للكثير من أعماله مثل "السمان والخريف"، "شيء من الخوف"، "الباب المفتوح" وغيرها، بهدف تحليلها أو رصد بعض الجوانب المشتركة بين كل شخصية وأخرى، حيث غلب على أدواره طابع الرجل المُتسلّط، بينما هناك أدوار أخرى قدّم بها الرجل النبيل، مثل "حد السيف"، ودوره الشهير في "أبو العلا البشري"، ولكن في حقيقة الأمر، قلّما تم التطرّق لفيلم "زوجتي والكلب"، وشخصية "الريس مرسي" التي قام بتقديمها داخل ذلك الفيلم الذي مُنع من العرض لسنوات عدة، نظراً لما يناقشه من قضايا حساسة، كالشك، الخيانة والقتل، بين وهم وحقيقة ومرض يصل لأقصى مراحله خطراً، وزوجة تقع في فوهة من الإدانة رغم براءتها، وخيال يغلب على حقيقة الأمور، وغيرها من التفاصيل التي جعلت ذلك الفيلم نادراً، ذا أبعاد وملامح خاصة، رغم قلة بثّه تليفزيونياً حتى اليوم، وقلة الحديث عنه نقدياً، وهو الفيلم الروائي الأول للمخرج سعيد مرزوق، بطولة سعاد حسني ومحمود مرسي ونور الشريف.
الشك في السينما وعلم النفس
تجسيد المرض النفسي في الأعمال السينمائية أمر ليس بهين على أي ممثل، كونه أطروحة تحتمل العديد من التقلبات والتناقضات التي تتطلب من الممثل جهداً شاقاً، سواء في مرحلة التحضير حول الأمر وما يعنيه، وعدم الأخذ بالقشرة السطحية للموضوع أو ما يدور عنه من أقاويل شائعة، ومن ثم مرحلة الأداء التي تعتبر بمثابة عصارة كل التحضيرات والقراءات التي تتناغم مع الإحساس الخالص للممثل، ليعطي للشخصية مذاقها الخاص الذي يميزها عما قُدّم قبلها.
قدم محمود مرسي في فيلم "زوجتي والكلب" شخصية مريض الشك، ذلك الفيلم الذي تدور أحداثه حول الريس مرسي، المتزوج جديد من (سعاد حسني) والذي يضطر بعد انتهاء فترة أجازته أن يعود إلى عمله في "الفنار"، المنفى البعيد الذي لا يوجد به امرأة. هو أشبه بمكان معزول، به عدد من العمال الرجال فقط، وبتطور الأحداث يصيبه الشك في خيانة زوجته له مع واحد من أصدقائه.
والشك يعتبر في علم النفس مرضاً له مراحله، لكنه بالتأكيد ليس عرضاً أو نوبة كما يظن البعض، ينتمي لأمراض الوسواس القهري الذي إذا أُصيب الإنسان به يصبح غير قادر على التكيف مع المجتمع الذي يعيش فيه، لأنه يبقى دائماً متوهماً ومتردداً، ويفسر الأمور في غير محلها، وذلك على مستوى علم النفس، أما على مستوى الدراما، فالشك ثيمة من أبرز وأهم الثيمات الدرامية الخصبة التي تسمح برسم العديد من الفرضيات الدرامية جرّاء ذلك المرض، ومنها تنبثق ثيمات أخرى فرعية، كالخيانة والقتل.
في ذكرى رحيل محمود مرسي الثامنة عشرة، نضيء على شخصية "الريس مرسي" التي قام بتقديمها في فيلم "زوجتي والكلب"، وهو فيلم مُنع من العرض لسنوات عدة
وعلى الرغم من كونه مرضاً، إلا أن النظر له بشكل إبداعي يجعله أكثر رحابة وحرية للأخذ والرد بداخله، ومنه نجد ثنائيات عديدة تتفتح أمام أعيننا، مثل الوهم/ الحقيقة، الظاهر/ الباطن، الحلم/ الواقع، وغيرها من المفردات المتقابلة، التي تمهّد دائماً لرسم شخصيات ذات أبعاد مركبة، أولاً لأنها تعاني من مرض نفسي، وكما تمّ الذكر، أن المتطرق لهذه النوعية من الدراما يجب أن يتوخى الحذر، ويكون واعياً ومدركاً لمدى حساسية تلك النفس البشرية التي سعى لتقديمها، وعلى جانب آخر، وهو جانب فني أيضاً، يجب أن يعي المبدع بالفوارق بين أطراف الثنائية وبعضها البعض، وأي مزج بينهما يكون مقصوداً بهدف إيصال حالة المريض لتماهي المتلقي معها.
وهذا ما فعله محمود مرسي في التعامل مع شخصيته بالفيلم، حيث الإلمام بكافة جوانب الشخصية، ودراسة ذلك المرض، وتوابعه ،ومراحل تدرّجه بالمرض.
أدوات الممثل في خدمة الشخصية
بشكل أولي، على مستوى التكوين الجسماني، كان اختيار مرسي، الرجل صاحب الأبعاد الجسمانية المتميزة، كطول القامة وعرض المنكبين، يتناسب مع الصورة النمطية للرجل الجذاب للنساء، حتى يصبح متوافقاً مع سمات شخصية "مرسي" التي قدمها بالفيلم، كرجل جذاب لزوجات أصدقائه، ومن تلك التفصيلة إلى ما بداخل الدراما ذاتها وما يرتكبه من أفعال خيانة لأصدقائه، تبقى ممهِّدة لما سيصل إليه من مرحلة متأخرة في مرض الشك، عندما يقرر صديقه (نور الشريف) الذي يعمل معه في الفنار، أن يذهب للقاهرة في عطلته، ويطلب منه مرسي أن يوصل لزوجته خطاباً ورقياً، ومن هنا تشتد وطأة الأحداث وتصل إلى ذروتها.
قبل ذلك، كان الفيلم بأكمله مطوعاً بكل أدواته لتمهيد لحظات الشك والتوهّم عند مرسي، وطال التمهيد كل تفاصيل الشخصيات الأخرى أيضاً، فمثلاً شخصية الصديق المحروم جنسياً والذي يشتهي النساء دائماً، وتلك الزوجة الجميلة الوحيدة التي تعاني من بُعد زوجها مرسي عنها، ومنها قدم مرسي مشهد انهيار متدرج من حيث الأداء، بين التخيل الذي بدأ بمشهد ثم آخر، ثم سيطرة الخيال على واقعه، حتى أصبح يرى ذلك الخيال في كل شيء أمامه، ثم انهار تماماً لدرجة تكسير كل شيء في غرفته.
ويعتبر ذلك الانهيار المتدرج واحد من أصعب مشاهد الفيلم، لأن المزج بين الخيال والواقع أمر ليس بهين، لا على الممثل ذاته ولا على مخرج العمل أيضاً، الذي يجعل المتلقي في بعض اللحظات يختلط عليه الأمر، مثل الشخصية تماماً، ويبدأ بالتشكيك معه في زوجته وصديقه.
لحظة اتخاذ القرار بين الوهم والحقيقة
عقب الانهيار، لحظة أخذ القرار، والتي استمرت مع الشخصية في بيئة الخلط المطروحة، رأى نفسه في مشهد يقتل الزوجة والصديق، حيث تصور مرسي فعل القتل في خياله كفعل سهل التنفيذ، ويستمر في لعبة الخلط بين الوهم والحقيقة، إلى أن يعود نور من عطلته، ومنها يتضح أن مرسي لم يكن إلا مريضاً، حيث يأخذ نور إلى أعلى الفنار كي يقتله كما صور له عالم الوهم، فيجد نفسه متردداً وغير قادر على تنفيذ أي فعل بشكل حقيقي.
ومنها ينخرط مرة أخرى مع خياله، ويرى زوجته تحدثه من خلال جوابها الذي أرسلته مع نور، وفي تلك اللحظة بعينها، لم يجسد محمود مرسي تفاصيل الزوج الراضي الهادئ الذي بات ينتظر رد زوجته، وبعدما قرأه اطمئن قلبه، بل قدّم أكثر من نقله في مشهد قصير لا يتعدى الدقيقتين، بين حالة اللهفة على زوجته ومحاولاته تصديق كلامها، مع حضور صورتها كخائنة في خياله التي تمنعه من تصديقها بشكل كلي، وترقبه لنور وأفعاله والتي تؤكد له فكرته، ومن ثم محاولات هدوء جديدة غير مجدية، أما عن التفاصيل التي ساعدته في ذلك، فمنها الاهتمام بمظهر الشخصية، كونها دخلت في نوبة عميقة من نوبات الاكتئاب المُصاحب لمرض الشك، ومنها نرى ملابسه مُهملة، وذقنه طويلة بعض الشيء، في تناقض تام لما كان عليه مظهره في بداية الفيلم وهو عائد للفنار، ومشاهد استحمامه في منزله التي تؤكد كونه شخصاً يعتني بنظافته الشخصية، ولكن ذلك المظهر الحالي ما هو إلا نتاج حتمي لهِوّة الشك التي وقع فيها دون رجعة.
محمود مرسي متشكك أيضاً
وفي حقيقة الأمر هذا ما دعاني للإشارة إلى هذه الشخصية دون غيرها على وجه التحديد، نظراً لما قدمه مرسي من تفاصيل هامة تنم عن وعي بحجم تلك التناقضات التي تدور داخل النفس البشرية التي يؤديها، فما كان لها أن تخرج بهذه الصورة إن لم يكن من يقدمها هو بذاته متشكك أيضاً، يُخضع الأشياء للدراسة والتحليل، حتى يصل لماهية الإحساس التي تمكنه من بلوغ لحظة الصدق الحقيقية أمام الكاميرا، ولكن شك الممثل في التفاصيل لم يكن مرضاً بقدر ما كان عاملاً مساعداً يجعله يبحث عن أصول الأشياء، حتى يتأتى له أن يتلمس أدق وأبسط التفاصيل، ويصل بتشككه إلى قمة التمكن الذي جعله يقدم شخصاً آخر متشككاً مهتزاً، وصل به الأمر أنه لم يعد يعيش لحظة صدق واحدة في حياته، ليقدمها بكل صدق حول ما تعانيه من توتر دائم واكتئاب مزري لا نهاية له.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...