شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!
التيار الصدري قبل السياسة وبعدها... مواطن الضعف ومصادر القوة

التيار الصدري قبل السياسة وبعدها... مواطن الضعف ومصادر القوة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

سياسة نحن والتاريخ

السبت 25 نوفمبر 202304:53 م

لا أعرف في ماذا كان يفكر محمد الحلبوسي، رئيس مجلس النواب، عندما وقّع لرئيس الكتلة الصدرية حسن العذاري، طلب استقالة 73 نائباً من البرلمان العراقي، في 12 حزيران/ يونيو 2022. ولكن المؤكد أنه كان في حالة من الذهول، بسبب الاستقالة التي طالب بها الصدر الابن، نواب الكتلة الصدرية. كان وقْع قرار الاستقالة صادماً، ليس فقط على الداخل العراقي، وإنما وصل صداه إلى عواصم القرار الغربية قبل الشرقية، وعُدّ أكبر خطأ إستراتيجي في العمل السياسي.

والسؤال الأهم سابقاً وحالياً هو: لماذا لم نشهد تشكيل أي نائب أو مجموعة من النواب أو حتى جميع الكتلة الصدرية، كتلةً سياسيةً منفصلةً عن التيار الصدري؟ لأن الناخبين الذين صوّتوا للـ73 نائباً، في الأصل لم ينتخبوهم، بل كانوا يقومون بواجب مقدّس: "طاعة اللجنة طاعة القائد"، وهو شعار الصدريين الانتخابي، بعد تزايد الدعوات إلى مقاطعة الانتخابات الأخيرة.

البيعة والطاعة

بمعنى آخر، إن شرعية النائب الصدري الانتخابية متصلة بشكل وثيق بشرعية الصدر الابن، بالنسبة للفرد الصدري (الناخب)، ومدى طاعة النائب عن التيار الصدري وحتى جميع المنتمين، لمقتدى الصدر. إن الشرعية من الناحية الاصطلاحية ترادف في معناها مصطلح البيعة في التراث العربي والإسلامي، فالبيعة كما يقول ابن خلدون "هي العهد على الطاعة، كأن المبايع يعاهد أميره على أنه يسلم له النظر في أمر نفسه وأمور المسلمين ولا ينازعه في شيء من ذلك، وبطبيعة الحال في ما يكلفه به من الأمر على النشاط والحركة، وكانوا إذا بايعوا الأمير وعقدوا عهده جعلوا أيديهم في يده تأكيداً للعهد". نخلص إلى أن الشرعية من المنظور الإسلامي، ووفق وجهة نظر ابن خلدون ترتكز حول فكرة أساسية مفادها الطاعة بالدرجة الأولى.

السيد محمد الصدر، هو المرجع الوحيد في تاريخ الشيعة، الذي تقام في ذكرى رحيله طقوس زيارة قبره مشياً على الأقدام، وضرب الصدور والظهور بالسلاسل، وشجّ الرؤوس بالحراب، ووضع نص مكتوب للزيارة. وهذه أعمال لا يحظى بها الكثير من الأئمة المقدّسين حتى

أما الإعلامي والأكاديمي حيدر زوير، فيأخذ هذه الشرعية في كتابه "زعماء وأتباع أنثروبولوجيا المتخيل السياسي عند الشيعة"، بمنحى آخر، فيكتب عنها قائلاً: "ورث السيد مقتدى الصدر زعامةً تمثليةً في الفرادة، فالصدر محمد قُدّم بصورة متعالية على التأريخ بالنسبة لأتباعه. تبدأ فرادته من شكله الملائكي، وسلوكه العملي واللغوي القريب من الذائقة العامة للشيعة، ودوره في مرحلة عاش فيها شيعة العراق حالةً أشبه باليتم لزعيم يلتفون حوله، وهو شعورٌ له أصوله في الأدبيات الشيعية. ينقل الخطباء الدينيون عدداً من الأحاديث التي قالها الأئمة بعنوان أيتام آل محمد، في إشارة إلى الشيعة البعيدين عن إمامهم، أو في مرحلة غيابه وفراغ من يؤدي دوره".

ساهمت حياة الصدر ومقتله في أن يبلغ تمثلاً غير اعتيادي عند اتباعه، بلغ حد أن يحظى بما تحظى به "النماذج المقدسة"، من طقوس الحزن والتبرك والمعيارية، فهو كما يعتقد السيد مقتدى الصدر وأتباعه على حد سواء، معيار ما بين الحق والباطل، وما بين الاستقامة والانحراف.

فالسيد محمد الصدر، هو المرجع الوحيد في تاريخ الشيعة، الذي تقام في ذكرى رحيله طقوس زيارة قبره مشياً على الأقدام، وضرب الصدور والظهور بالسلاسل، وشجّ الرؤوس بالحراب، ووضع نص مكتوب للزيارة. وهذه أعمال لا يحظى بها الكثير من الأئمة المقدّسين حتى، فهي تختص بالبعض من هؤلاء الأئمة فحسب، وأبرزهم الإمام الحسين الذي يشكل غاية النماذجية الشيعية، بل إنّ الصدريين يشعرون حيال السيد محمد الصدر بتعلّق لا يقلّ عن تعلقهم بالنماذج البدئية، وعند كثر منهم يتجاوزها. يكشف تمايز "التمثل الصدري"، أن نموذج الذات البدئي ليس جامداً وثابتاً ومكرراً تمثلياً، بل يمكن عبر أقصى مستوياته وحالاته أن ينتقل من "تمثليته" إلى أن يصبح هو "النموذج البدئي".

الأتباع والمريدون

بناءً على ما تقدّم، يمكن فهم حجم ونوع الشرعية التي يمارسها الصدر ومن بعده الابن على أتباعه. يقول الدكتور والمدرّس المساعد في جامعة أريزونا، سليم سوزه: "هذا الارتباط الكبير بين الصدريين ومقتدى الصدر لا يُفهم إلا عبر فكرة ماكس ڤيبر عن 'الرمز' و'الكاريزما الدينية'. قد نتفق أن الصدر الابن لا يملك كاريزما جاذبةً، لكن هذا رأينا نحن. أما أتباعه فيرون غير ذلك. وحتى إن تمت مواجهتهم، لن يهمهم الأمر. ما يهمهم هو أنه رجل دين أخذ 'قدسيته' من أبيه المرجع الديني محمد الصدر، ذلك الذي تم تأليهه إلى الحد الذي جعله معصوماً في نظر أتباعه".

ويضيف: "الكاريزما الدينية غير قائمة على أساس الثقافة والمنطق وحسن الخطابة وغيرها من هذه الأشياء، بل مرتبطة 'بالدين'، سواء كان ديناً 'عقلانياً' أو لا، سماوياً أو لا. تتمظهر هذه الكاريزما عبر اللحية والعمامة والمسبحة وتستخدم أدوات دينيةً في التواصل مع أتباعها".

يقول ڤيبر إن الكاريزما (بشكل عام وليس فقط الدينية منها)، تستثمر في نوع معيّن من أنواع القداسة دائماً، وتخاطب الأتباع بالعاطفة. لذلك فإن مقتدى الصدر دوماً يذكّر أتباعه بآل الصدر. دائماً يستخدم تعابير من قبيل: "محبو آل الصدر، جرحتم قلب أبي الصدر، عراق الصدرين، وغيرها من العبارات العاطفية"، حتى يجعلهم مرتبطين باستمرار مع فكرة الأب الديني المقدس (محمد الصدر)، وتالياً مع الدين وآل البيت والله.

والتيار الصدري وجماهيره مثل غيره من الأحزاب، يضم بين صفوفه، العقدي والعقدي المضحي، وما يقابلهما من المنتفعين. والفئة الأخيرة ليست بالقليلة، وهي في الوقت نفسه تمثل وزناً نوعياً في ميزان الصندوق الانتخابي عند كل انتخابات نيابية أو على مستوى مجالس المحافظات التي تستعد الحكومة الحالية لإجرائها في سنة 2024.

"ورث السيد مقتدى الصدر زعامةً تمثليةً في الفرادة، فالصدر محمد قُدّم بصورة متعالية على التأريخ بالنسبة لأتباعه. تبدأ فرادته من شكله الملائكي، وسلوكه العملي واللغوي القريب من الذائقة العامة للشيعة، ودوره في مرحلة عاش فيها شيعة العراق حالةً أشبه باليتم لزعيم يلتفون حوله"

هذه الفئة اليوم تمر بمرحلة عصيبة مع انحسار التمثيل السياسي للتيار الصدري في الكثير من المواقع التي تحصّل عليها سابقاً في حكومة مصطفى الكاظمي، أو ما تراكم على مدى السنين السابقة، وسيطرة قوى الإطار على الكثير من المفاصل المهمة في جسم الحكومة الحالية برئاسة محمد شياع السوداني، هذا غير الكثير من إجراءات النقل والعزل الوظيفي، مضافاً إليه الفصل بداعي الفساد الإداري والاختلاس المالي، والإحالة على التقاعد، في كثير من هذه المواقع المهمة والفعالة، والتي كانت بدورها تمثل مظلة حماية لهذه الفئة، وتفسح المجال لها في معادلة المنفعة المتبادلة.

وجود عقائدي اجتماعي

عن هذا الخريف السياسي الذي ألزم الصدر الابن نفسه به، ومعه جميع التيار الصدري، يقول الأكاديمي والسياسي السابق ضياء الأسدي: "التيار الصدري يؤمن بخيارات قائده وقراراته. وحتى إن كان لديهم رأي مخالف أو مخاوف أو توجسات، فإن التجربة أثبتت لهم أن قوة التيار الصدري لا تتراجع بسبب تراجع تمثيله السياسي، لأن الركيزتين الأساسيتين للتيار (القائد والجماهير)، نمتا واشتدتا بعيداً عن العمل السياسي. فوجود التيار الصدري وجود عقائدي اجتماعي قبل أن يكون وجوداً سياسياً. وما العاملون في المضمار السياسي إلا حلقة وسيطة أو وسيلة تنظيمية بين القاعدة وقيادتها. وأشكال الارتباط ووسائله بين القاعدة والقيادة متنوعة لا تقتصر على التمثيل السياسي ولا تعتمد عليه اعتماداً كلياً".

والتيار الصدري كان في البدء حركةً اجتماعيةً ذات بعد ديني؛ "جيش المهدي"، ثم طوّر نفسه من أجل العمل السياسي. وهذا الحديث يعيدنا إلى النقطة التي قسمنا فيها التيار الصدري إلى ثلاث فئات هي العقدية، والمضحية، والمنتفعة.

ولهذه الفئات تاريخ مشترك، سواء على المستوى الاقتصادي أو الاجتماعي أو السياسي أو الديني، ففي غالبيتها تنحدر من المناطق الواقعة في جنوب العراق، ووسطه.

في كتابه "مدينة الثورة/ الصدر حالياً دراسة تاريخية معاصرة 1932-2008"، يقول كاظم عبد شنجار البيضاني: "أغلب سكان مدينة الصدر، هم في الأصل مهاجرون أجبرتهم الحياة القاسية، والمعاملة غير المنصفة من قبل ملاك الأراضي، على النزوح من الريف إلى مركز المدينة، أو إلى المحافظات الكبرى مثل بغداد والبصرة".

وتركزت تلك الهجرات، في مناطق غير مأهولة (الصرائف)، التي تُعرف حالياً بمدينة الصدر، والشعلة في بغداد، والحيانية في البصرة وغيرها من المناطق. ثم ازدادت وتوسعت أكثر بعد سنة 1958 حين صدرت قرارات الإصلاح الزراعي.

تحولت هذه المناطق إلى قاعدة قوة بالنسبة للصدر الأب، ثم الابن من بعده، فسكانها يتشكلون في غالبيتهم من الشيعة المعدمين، الذين لم يستفيدوا أبداً من خلع النظام السابق، بل ظلّوا مهمشين من قبل النظام السياسي الجديد. ومقتدى الصدر، سوف يكون هو المفتاح الذي سيساعد في إدخال الصدريين وقاعدتهم الاجتماعية إدخالاً تاماً في العملية السياسية.

كانت عمادَ التيار الصدري في بداياته الأولى، الفئتان الأولى والثانية، أي الجيل المؤسس، وبعد انتخابات 2010، مرّ التيار الصدري بعدد من التحولات الاجتماعية المهمة، وعلى رأسها تخلّيه عن الخطاب والممارسات المتشددة في المناطق السكنية التي يتواجد فيها، والتي باعدت بينه وبين مجتمعه، ثم انفتاحه على الجميع ضمن معادلة المنفعة المتبادلة مع بقاء الفئة العقدية المضحية كحلقة وسط بين الأب وأبنائه، تدعمه بالأوّليات التي عليها تأسس التيار الصدري، والتي نمت شيئاً فشيئاً على مر السنين المتتالية لتتحول إلى كتلة ديموغرافية، وانتخابية هي الأكبر سياسياً واجتماعياً والأكثر تنظيماً وهذا ما أثبتته الانتخابات الأخيرة بواقع 73 نائباً برلمانياً.

هذه القوة الاجتماعية ليست حديثة العهد كما يقول عنها الدكتور مصعب الألوسي، فبرأيه، "جيش المهدي وقبل أن يتبلور بصيغته العسكرية، كان منذ أيامه الأولى عبارةً عن نوع من مؤسسات الإعانة الاجتماعية، والوصف الأدق لها أنها مجموعة من سلاسل المساعدات التي تقدّم المعونة المالية وغيرها عن طريق أشخاص موثوق بهم".

"ممارسة النقد لمنظومة التيار الصدري ككل وبيان خطأ قراراته السياسية والإشارة إلى مكامن الفشل في العمل السياسي، أمور صعبة جداً على أفراد التيار، فضلاً عمن هم خارج منظومته بسبب تعصب الكثير منهم. فهناك من يتقبل النقد ويعترف بالفشل، وعدم القدرة على الارتقاء بواقع جماهيرهم ومناطقهم، وآخرون يرفضون حتى المساس بهم"

هذه المؤسسة، ساعدت في نمو التيار الصدري في الأحياء الفقيرة، وفي تعضيد خطاب المرجع محمد صادق الصدر، القائل إنه مرجع الفقراء والمحتاجين، إذ قيل عنه إنه مجتهد، من النوع الذي يخرج إلى الأسواق بنفسه، ويتفقد أحوال الناس ومعيشتهم، ومعرفة أسعار البضائع والمواد الغذائية، تشبّهاً بالإمام عليّ الذي كان يخرج إلى الأسواق للواجب نفسه. وتُعرف المؤسسة اليوم باسم "البنيان المرصوص".

يقول الناشط المدني فرات علي، إن "ممارسة النقد لمنظومة التيار الصدري ككل وبيان خطأ قراراته السياسية والإشارة إلى مكامن الفشل في العمل السياسي، أمور صعبة جداً على أفراد التيار، فضلاً عمن هم خارج منظومته بسبب تعصب الكثير منهم. فهناك من يتقبل النقد ويعترف بالفشل، وعدم القدرة على الارتقاء بواقع جماهيرهم ومناطقهم، وآخرون يرفضون حتى المساس بهم. هؤلاء إما متعصبون أو مستفيدون يبتغون الحفاظ على مصالحهم. الإفصاح عن الأخطاء ومراجعتها أمران صحّيان وأساسيان لتقويم عمل التيار بشكل عام، وتبيان مكامن الخلل فيه".

في المحصلة، المنحى السياسي الحاد الذي يمر به التيار الصدري اليوم، يذكّر بما تعرّض له سنة 2008، في عملية "صولة الفرسان". حينها، أظهر الصدريون تماسكاً كبيراً وامتثالاً تامّاً لقيادتهم. يحاجج الكاتب آلك وورسنوب، بأنه لا يمكن المرادفة بين "التماسك" و"الالتزام"، وأنهما أمران مختلفان، وأّن مقولتَي "التماسك" و"التفكك" غير قابلتين لشرح الالتزام.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

بالوصول إلى الذين لا يتفقون/ ن معنا، تكمن قوّتنا الفعليّة

مبدأ التحرر من الأفكار التقليدية، يرتكز على إشراك الجميع في عملية صنع التغيير. وما من طريقةٍ أفضل لنشر هذه القيم غير أن نُظهر للناس كيف بإمكان الاحترام والتسامح والحرية والانفتاح، تحسين حياتهم/ نّ.

من هنا ينبثق رصيف22، من منبع المهمّات الصعبة وعدم المساومة على قيمنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image