"لا زبالة في قصائدك/ لا أرامل/ لا جوعى بأسنان مسوسة/ لا عرق/ لا بصاق/ ولا شحاذين. لم أر في قصيدة لك بلغم مرضى. أين الدم؟ الحقيقة أنك – أنت نفسك – نظيف/ من أسنانك إلى جزمتك/ أنا واثق أنه لم يكن في رأسك- كباقي الأطفال- قملة. قصائدك نظيفة، وسّخها".
يصعب تصور أن ثماني أعوام قد مرت منذ ديوان عماد أبو صالح الأخير "كان نائماً حين قامت الثورة". ها هو إذن "يا أعمى" الديوان الجديد لشاعر النثر المصري البارز. ديوان؟
لا يحمل الغلاف أي تصنيف أدبي، والنصوص لا هي بالأسطر التنازلية ولا بالسرد النثري، لكن الشعر يسبح فيها وتسبح فيه، والشعر متنها وموضوعها والشعراء رموزها، وجغرافيتها غرفة كفافيس المعتمة إلا من ضوء شمعة بالإسكندرية، وشجرة رامبو الأفريقية وبار بوكوفسكي وحانة أبي النواس.
لا يحمل الغلاف أي تصنيف أدبي، والنصوص لا هي بالأسطر التنازلية ولا بالسرد النثري، لكن الشعر يسبح فيها وتسبح فيه، والشعر متنها وموضوعها والشعراء رموزها، وجغرافيتها غرفة كفافيس المعتمة إلا من ضوء شمعة بالإسكندرية
الأهم أن الشاعر، ليس أي شاعر، بل ذلك الذي "لا يعنيه التقدم/ ولا يستحي من التأخر/ لا يلهث وراء شكل العالم" الذي لا تتحقق رغبته إلا "من الهامش/ من العزلة/ من النبذ/ من الحضيض" هو شاعر هذا الكتاب، الذي لا يمانع في أن يتقدّمه الآخرون، أو "يتجاوزه" الشبان: "إلى الأمام/ أيها الشعراء الشبان/ إلى الأمام/ أنا راجع إلى الخلف/ في الماضي مادتي الخام، وعدة شغلي".
بمديح تلك العزلة، أو التأخر، تنبض صفحات الكتاب "ربما سكتي طويلة/ لكن ذلك أفضل/ حتى يستعيد المسافرون ذكرياتهم قبل أن يصلوا إلى محطاتهم النهائية/ حتى يلحق بهم أحباء تخلفوا عن الرحلة/ حتى يتراجعوا – هم أنفسهم – عن الرحيل/ ليرشوا القمح للدجاج/ ويفكوا كلابهم من السلاسل".
لكن الكتاب/ الديوان، لا يخلو – رغم هذا التأني – من بعض أهم ما يميز أسلوب عماد أبو صالح: القسوة إذا حان أوانها. "ليس شاعراً/ إنه ناشط شعري"، يقول، ولابد أنك – كقارئ – فكرت في اسم أو اثنين. "يا عسكري القوافي" يقول في موضع آخر.
تعبيرات تعمل على استثناء من لا ترى أنهم ينتمون حقاً إلى الشعر، ذلك أنها تعرف أن الشاعر "أكثر الكائنات عرضة للكسر/ لأنه قارورة جمال". جمال تقول النصوص في كل موضع تقريباً إنه يحتاج إلى بعض الوسخ، إلى بعض الصفعات من الحياة "لابد أنك كنت الطفل المدلل في العائلة/ قصائدك تنقصها صفعة أبوية/ تنقصها نار الشعر التي تندلع بين اليد والخد".
وذلك لأن الشعر "يأتي من القوة مثلما يأتي من الضعف"، يضرب النص هنا مثالاً يحمل الحب نفسه لأمل دنقل وصلاح عبد الصبور. كما أنه، على طريقته، ينتقد غياب الفوضى الضرورية: "قصيدتك كاملة مكتملة/ يدك لم ترتعش ولا مرة في كتابتها/ بلا رفّة/ الكلمات بالمسطرة/ لا كلمة في غير موضعها/ لا أخرى زائدة يمكن أن نحذفها. بلاط في رصيف، البلاطة لصق البلاطة، لا فجوة ولا ثغرة. شغل بالملّي/ لكن، قل لي، يا أسطى: حين يهطل المطر، أين تنبت عشبة؟". في نص سابق على السؤال، يتضح أن الشاعر "لا يهتدي إلا في طرق ضالة".
لكن كل ما سبق، أو برغم ما سبق، يتبرّأ الكتاب من توجيه النصائح؛ "نصائح إلى شاعر شاب؟ إياك/ لا تشترك في جريمة".
من دون أن يبتعد عن الشعر والشعراء، يتوارى الصوت الذاتي أحيانا ليفسح موضعاً لمحاورات بين آخرين؛ (قال يفجيني يفتوشينكو عن أنّا أخماتوفا: "مسيح في هيئة امرأة". هذا أجمل مدح من شاعر لشاعرة). ويعود ألف سنة إلى الوراء ليلتقط مديحا آخر. (كان أبو العلاء المعري حين يسمع قول المتنبي: "أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي"، يقول "كأنما نظر إليّ بلحظ الغيب". هذا أجمل مدح من شاعر لشاعر). بين مختلف الأزمنة تتنقل النصوص لأن صراع الشاعر "ليس مع السنين". ثم أنه "لا وطن للشاعر/ لا حواجز ولا حدود/ تتصالح في روحه شعوب وقبائل/ ليس ابن أحد/ أبوه الجميع".
هل هناك، في صفحات الكتاب- من هم ليسوا شعراء؟ نعم، إنهم الموتى الذين أحياهم الشعراء؛ سليم أفندي إبراهيم، الذي أحيل للمعاش فاشتغل مكانه كفافيس في مديرية الري بالإسكندرية، أو علي شمّاك، الذي صفع رامبو ومزّق ملابسه وقدم ضده شكوى كيدية بشهود الزور إلى مركز الشرطة في عدن.
الشعر هو أيضاً "خطف، سرقة بخفة يد نشال محترف"، إن عمل الشاعر لهو "خرق دائم للقانون". والشاعر "يعرف مناطق الانحطاط فيه/ حضيضه الشخصي هو وقود إبداعه". ربما لكل تلك "الجرائم" التي تحملها روحه يستطيع حتى أن يفهم رامبو حين "حمل أخته الصغيرة إلى المكتبة وقال للبائع: أعطني بثمنها كتباً"، فهو "لا يفرّق في حب الكائنات بين خفاش وفراشة"، ربما لهذا لا يسهل فهم أن الشاعر "يصرخ فوراً حين يتفجر الدم. لا يفرق بين القاتل والقتيل ولا المذنب ولا البريء. ذلك عمل رجال المباحث".
الشعر هو أيضاً "خطف، سرقة بخفة يد نشال محترف"، إن عمل الشاعر لهو "خرق دائم للقانون". والشاعر "يعرف مناطق الانحطاط فيه/ حضيضه الشخصي هو وقود إبداعه"
يهدى عماد أبو صالح كتابه إلى "عبد اللطيف غازي.. الشاعر بلا ديوان"، إنه أحد أجداده الغامضين، فوجئ – بعد موته بثلاثين عاماً – أنه كان شاعراً نشر بعض القصائد. "شاعر في عائلتنا! إنها معجزة"، فقد "كنت أظن أنني من سلالة عريقة في الأميّة".
صدر الكتاب عن دار "أثر". إنها سابقة، لأن جميع كتب صاحب "عجوز تؤلمه الضحكات" صدرت على نفقته الخاصة في طبعات محدودة (لم تحد من انتشارها). ارتفعت بعض الهمسات لأن الدار الناشرة سعودية. "مجرد مصادفة"، يقول صاحب "مهندس العالم" في لقاء على مقهى قاهري عتيق. "والعقد عادي جداً"، يحكي القصة باختصار "تواصلت معي الشاعرة منة أبو زهرة مطوّلاً لنشر ديوان حين كانت محرّرة دار الكرمة، وحين أقنعتني – مشكورة – كانت قد انتقلت للعمل لدى دار أثر، فلا قصص ولا أسرار".
الأسرار كلها في كتاب/ ديوان "يا أعمى"، أسرار الشعر كفعل مقدس وكجريمة، وتوسل إلى الرب "أنت الذي خلقتني شاعراً/ تعرف أنني أردت أن أكون خبازاً أو نجاراً (..) لا تجعل كلماتي فريسة للناس والزمن". لكننا نعلم أن هذا رجاء صعب التحقق، إذ "لا يأكل الشاعر وحده، تحت لسانه جوعى في بلدان غريبة".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...