شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
مازال وجهك فتيّاً، كصبح إذا تنفّس

مازال وجهك فتيّاً، كصبح إذا تنفّس

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مجاز نحن والتنوّع

السبت 4 نوفمبر 202301:54 م

يدقّ جرس الكنيّسة تسع دقات، مشيراً إلى تمام السّاعة التّاسعة، موعد قدومك. فأنهض على عجل وأطحن حبات البن. أعدّ فناجين قهوتنا وأجلس منتظراً. تحطّ حمامات على برج الكنيسة فأسهو. هنالك مطر في الغمام، وخبز على المدفأة، وخمرة في السرير وورد في الحواكير، وجنيات في حكايا الجّدات، وتاريخ مرهق لا يستريح.

ولكنّك لا تأتين. لديك ألف سبب للتأخير. مرهقة، مستلقية، في سريرك بمزاج متقلب، فرحة أحياناً كإيقاع الضيوف ليلة الأعياد، حزينة كذكريات غائمة عن مدينتنا البعيدة، مكدودة كأهلنا المتعبين في أرذل العمر.

تنهضين بتثاقل من السرير، وتجلسين أمام المرآة. أسود أسفل عينيك، أنت منهكة من التفكير بماض لا ينقطع ومستقبل لا يجيء، ومهام لا تنتهي، حروب لا تهدئ، وخسارات لا ترحم، وغياب لئيم سرق لحظات أمان خلت أنّها سترأف بك عندما قلت "لا". وصرخت: لديّ من القوة ما يكفي لأجابه العالم.

بكيت أمام المرآة مرات لا تحصى وقلت: خذلني الجميع ولم تخذلني علبة المكياج.

تضعين التونر وتعاينين نضارة وجهك. تلعنين ظهور حبوب مباغتة دون إذن مسبق، فتسألين: هل أفرطت في تناول السكّر؟ وما نفع هذا العالم دون سكّر؟ حلويات لذيذة وعجين يراكم الدّفء في كروشنا؟ يرهقك التفكير بالريجيم وخسارة الوزن الزائد. ثم تعود صور النّساء الرشيقات في الانستغرام. من أين يأتين بتلك الرشاقة؟

بكيت أمام المرآة مرات لا تحصى وقلت: خذلني الجميع ولم تخذلني علبة المكياج. تمسكين الأيلاينر وتحددين نظرة عينيك، فتبرزان بطريقة أحار في تسميتها: هل من أحد تتحدينه عندما تصنعين هذه النظرة؟... مجاز

قلت لك إنّ رشاقةً بهذا الشكّل زائفة، وأنّ جسداً مثالياً بانحناءات متقنة يبدو منفراً. لكنّ الرجال يحبون الأجساد الرشيقة! وأنت كنت تريدين إعجاب الرجال لا إغوائهم، تلقينهم درساً بنظرة معلقة لا سبيل للوصول إليها.

قلت لي إن عالماً تحكمه قوة الجسد تهزه نظرة من أعيننا هو عالم هش.

اتفقنا واختلفنا، وبقي الوزن الزائد معياراً لهزائم وقرارت لن نكون متأكدين أنّها صائبة.

بيد خفيفة تمدّين كريم الأساس على بشرة وجهك. تتنهدين وتتأملين قسوة الزمن.

فأقول لك: مازال وجهك فتياً كصبح إذا تنفس.

لا يعجبك غزلي، فهو ليس مغامرةً طائشة، ولا نظرةً مفاجئة تذكرك أنّك ما زلت جميلةً، فالروتين يقتل إحساسنا بذواتنا، ثم صحت بي: "لا يكترث الرجال في هذا العالم لا بزحف الزمن البطيء، ولا بالشيّب يغزو شعرنا المتساقط في بلاليع الحمام، ويؤذّن بانتقالنا إلى الطرف الآخر من الحياة".

رغبت في تسكير قوانين هذا العالم. قلت لي: "سأحطم أركانه فوق رؤوسكم". وكان عليك أن تخوضي كلّ تلك المعارك وحدك. فأنهكت الجروح روحك الهشة، ورفوت ما تقطع منها، عضضت على وجعها ورسمت ابتسامةً تذيب القلب. 

تمسكين الأيلاينر وتحددين نظرة عينيك، فتبرزان بطريقة أحار في تسميتها: هل من أحد تتحدينه عندما تصنعين هذه النظرة؟ كأنّما حملت سيفاً ورحت تنازلين به ألف شيطان يصطخب في رأسك، كأنما توشكين الحكم على جميع الرجال بنظرة واحدة، مثل ملكة تستفتى في أمر أسراها!

الآن، تمسكين الكونسلر بخفة كما يمسك مايسترو عصى الإيقاع، أنت رسامة بالفطرة. كأنّما اقتبس ماتيس ألوان لوحته من مزج ألوانك. ها أنت تخلقين "بهجة الحياة" على تقاطيع وجهك، ولست كالرّسامين البؤساء، يرسمون لوحاتهم على قماش ميت أصمّ. أنت تبتكرين ألف إيماءة وألف نظرة حيّة كل يوم.

أقاطع نظرتك المتفحصة

كنافة بقطر

تضحكين:

وجنتي أشهى

جلنار في سهل حوران

خداي لا ينطفئان

مشمش الغوطتين

سكّري لا ينضب.

قلت لك إنّ رشاقةً بهذا الشكّل زائفة، وأنّ جسداً مثالياً بانحناءات متقنة يبدو منفراً. لكنّ الرجال يحبون الأجساد الرشيقة! وأنت كنت تريدين إعجاب الرجال لا إغوائهم، تلقينهم درساً بنظرة معلقة لا سبيل للوصول إليها... مجاز

أتحسس أناملي، أتذكر كيف يمران على وجنتيك وأنت غارقةً في الأحلام، مثلما يتحسّس من فقد بصره وجوه الغائبين. ثم تنطوين على نفسك بفستانك المتفتح بالورود. تتألمين من أوجاع الخصب المتدفق في عروقك، تنثنين على نفسك وتقبلين ندوبها، وتأنين، فتبدين كلوحة القبلة، تحتضنين فتاةً في داخلك تجرحها وقاحة الحياة.

سأقرأ لك من نشيد الإنشاد، وأغير فيه كعادتي، وسأسميه سفر الألوان:

ظلال عينك خمور وأشهى،

خدك طيب يراق.

"ما أجمل بالقرطين خديك،

وبالعقد جيدك"

"حسناء، وإن سمراء،

كخيام قيدار، كأخبية سليمان"

أبتكر قصصاً لأسلي النزق في روحك، ولكنك لا تنصتين إليّ كالعادة. أنسى أنّني حدثتك عن نساء قريتنا الجميلات، كانت صانعة الميك أب تغرق وجوههن ليلة العرس بالألوان. هل كانت تخفي حزنهن؟ وكنت أسترق النظر مع الاطفال إلى العروس مبهورين بفستانها المتدفق كنهر، أبيض كالغيم.

ماذا كان يدور في ذهنها وهي تجعل من وجوههن  لوحةً سريالية تضيع فيها ملامح الوجوه؟

كبرت وشاهدّت كحل أعينهن يراق أنهراً على خيبات بيوتهنّ المكدسة، وعلى رغباتهنّ المكبوتة، فيلجأن إلى علبة المكياج لتغطي تورّم الأعين وازرقاق الكدمات. يبتسمن في الصباحات للعيون المتواطئة، فلا أحد يعترض ولا أحد يصرخ، ويختفي كل شيء تحت رغبة الستر. 

هل أخبرتك أن لنساء الكازينوهات أسلوباً خاصاً في وضع المكياج؟ كنّ يبالغن بطريقة رخيصة في مزج ألوان، تشبه موسيقى الأورغات العالية مع الطبل والكمنجات. كان كفيلاً بإشعال النّهم في نفوس الرجال. لكن النّهم كان يتحوّل إلى افتراس، يترك أثاره في الوجه والأجساد، ويعجن الألم بأجسادهن تحت طبقات وطبقات من الألوان

الآن تضعين أحمر الشفاه، وأنا أفكر كيف سأخفي ملامح الألم التي تغيم في وجهي، ماذا يسعني أن أستخدم لأخفي أثر التشرّد والتسكع في طرقات العالم، كيف سأمحي يد الموت التي وسمت وجهي؟ يدهن الرجال وجوههم بالسخام عند الذهاب إلى الحروب. إنه مكياج الموت يبارك قسوته في أرواحنا. تسخرين من مبالغتي في الوصف.

قلت لي: "أنت درامي قليلاً. رومنسي قليلاً".

وكان يخنقك تأرجحي بينهما، فوعدت نفسي أن أكتب نصاً في مديح الرومنسية، وقلت في سري: إنها مثل الألوان ولا تستقيم حياتنا بدونها.  أغرق في أفكاري فيما تعاينين كثافة الأحمر على هشاشة الشفتين.

الآن تضعين أحمر الشفاه، وأنا أفكر كيف سأخفي ملامح الألم التي تغيم في وجهي، ماذا يسعني أن أستخدم لأخفي أثر التشرّد والتسكع في طرقات العالم، كيف سأمحي يد الموت التي وسمت وجهي؟... مجاز

أقول لك: "تشبهين كارمن في قصة بروسيه مريميه".

"كيف تبدو كارمنك هذه؟"

جديلة سوداء

ووردة على الشعر

وخنجر في القلب وآخر في اليد

وغضب لا يهدأ أواره  

وكثيراً من المكياج.

قلت ساخطة: "لا أحد يشبهني".

وأمسكت المسكرة ورحت تطلين الرموش لتغسلي عينيك من نظرات الحسرة بين قلب مكسور ورغبة ملتاعة. ها أنت تشحذين سهاماً سوف ترمينها في معاركك اليومية نحو نظرات الرجال والنساء. تشكلنا العيون المحدقة، والنظرات المراقبة في العمل والطرقات والشوارع والمقاهي، وعلى صفحات الإنترنت وفي الصور الشخصية وفي مقاطع الريلز وفي السهرات والنوادي الليلة، تشتعل فينا رغبات مجترحة، تبللها الدموع عندما ينكسر القلب فيغسل المكياج ويروح أثر الغواية المؤقت، وتبقى النظرة حائرة فزعة.

في الطرقات أرى النساء يرمحن بمكياجهن مثل ملائكة هبطت من السماء لتزين جدب هذه الحياة. يراقبن انعكاس نظراتهن في الأعين، فيتدحرج منهن ألق غامض يطير أثيره كأمواج شمس دافئة. حملت لك الكثير من الورود في مناسبات أضعناها، لكننني الآن أقف أمام وجهة محل للمكياج. كان ينبغي على منذ البداية أن أهديك واحدة لعلنا كنا على وفاق. كنت سأختار لك بكل سذاجة رومنسية، وردة في يد وكتاب في يد آخر

هل تذكرين؟

قلت لك وجهك أجمل دون مكياج، لكنك دون اكتراث، حملت الريشة ورحت تعيدين تشكيل وجهك مرة أخرى.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

بالوصول إلى الذين لا يتفقون/ ن معنا، تكمن قوّتنا الفعليّة

مبدأ التحرر من الأفكار التقليدية، يرتكز على إشراك الجميع في عملية صنع التغيير. وما من طريقةٍ أفضل لنشر هذه القيم غير أن نُظهر للناس كيف بإمكان الاحترام والتسامح والحرية والانفتاح، تحسين حياتهم/ نّ.

من هنا ينبثق رصيف22، من منبع المهمّات الصعبة وعدم المساومة على قيمنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image